الخلايا السّرطانيّة في الدّماغ تقلّد خلايا العصب، تشتبك بهم وتشترك في عمليّة نقل الإشارات الكهربائيّة. الشّبكة الّتي تتكوّن بالنّتيجة تؤدّي إلى زيادة في نموّ الورم السّرطانيّ.
وفقًا لدراسة ثلاثة فرق أبحاث منفصلة، خلايا السّرطان تتّصل بشبكة الخلايا العصبيّة المركّبة في الدّماغ وتعتمد في غذائها عليها. قدرة الخلايا السّرطانيّة هذه قد تفسّر ميزات بعض الأورام السّرطانيّة وتشير إلى طرق جديدة للعلاج.
الورم الدبقيّ (Glioma) هو اسم شامل لجميع أورام الدّماغ الناشئة من الخلايا الدبقيّة، والّتي هي الخلايا الدّاعمة لعمل الخلايا العصبيّة في الدّماغ. أكثر من نصف أورام الدّماغ الأوّليّة (الّذين يبدأون في الدّماغ) هم أورام دبقيّة. الأورام الدبقيّة الّتي تنتشر وتؤدّي إلى إنتاج نقائل غالبًا ما تتوزّع واسعًا بين الأنسجة السّليمة للدّماغ ولها قدرة في مقاومة العلاجات، لكنّها عادة ما تكون غير قادرة على نشر النّقائل خارج الجهاز العصبيّ المركزيّ.
هناك نتائج جديدة لثلاثة أبحاث نشرت في آنٍ معًا في المجلّة العلميّة Nature الّتي تسلّط الضّوء على السّمات المميّزة للأورام الدّماغيّة هذه. أظهرت النّتائج أنّ خلايا الورم تتّصل بالخلايا العصبيّة في الدّماغ في مباني تدعى "تشابكات منشّطة". هذه التّشابكات تزيد من نموّ الورم وتساهم في بقائه.
التّشابكات (أو المشابك) العصبيّة هي اسم شامل للمكان الّذي تتصّل فيه خلايا العصب بخلايا الهدف الّتي يمكنها أن تكون خليّة عصب أخرى، خليّة عضل أو خليّة غدّة. في هذا المكان يتمّ نقل الإشارات بين الخليّتين. " تشابكات منشّطة" تحفّز الخليّة المستقبلة أن تنقل إشارات كهربائيّة أو تزيد من احتمال حدوث ذلك. التّشابك الكيميائيّ يحتوي على جزيئات، مثل الغلوتامات، الّتي تتحرّر من الخليّة الموجودة قبل التّشابك (خليّة قبل مشبكيّة) وتُستقبَل بالخليّة الموجودة بعد التّشابك (خليّة بعد مشبكيّة) على يد مستقِبلات الغلوتامات الّتي تدعى AMPA او NMDA. تحفيز المستقبلات النّاجم عن ارتباطها للغلوتامات يؤدّي إلى دخول الأيّونات (ذرّات مشحونة) للخليّة وتوليد إشارة كهربائيّة. الخلايا الدبقيّة في الدّماغ تتواجد بالقرب من هذه التّشابكات وتستطيع أن تنظّم عملهم عن طريق إبعاد جزيئات الغلوتامات منهم.
أظهرت أبحاث سابقة أنّ خلايا الورم الدبقيّ السّرطانيّة، الّتي تتطوّر من الخلايا الدبقيّة، تكوّن مباني شبيهة بأنابيب مجهريّة ترسَل باتّجاه الخلايا المحيطة. تساهم هذه المباني في تكاثر الخلايا السّرطانيّة وتساعدها على الانتشار إلى أماكن أخرى في الدّماغ. أظهرت أبحاث أخرى أنّه في أنواع مختلفة من الأورام الدّبقيّة، تعتمد الخّلايا السّرطانيّة على نشاط الخلايا العصبيّة المجاورة. السّبب لهذا لم يكن واضحّا حتّى الآونة الأخيرة.
الخلايا العصبيّة، الخلايا الدبقيّة وما بينهم
في البحث الأوّل من بين الثّلاثة، استخدم الباحثون المجهر الإلكترونيّ ليفحصوا عن قرب مبنى الأنابيب المجهريّة الّتي تكوّنها خلايا الورم الدّبقيّ. لقد استخدموا خلايا أورام استخرجت من أدمغة أشخاص مريضة، وزرعوها في أدمغة الفئران. كشف هذا الفحص عن قرب أنّه بين المباني الأنبوبيّة والخلايا العصبيّة المجاورة، هناك نقاط تشابك منشّطة شبيهة في شكلها للتّشابكات الطّبيعيّة الّتي تربط بين الخلايا العصبيّة. بالإضافة إلى ذلك، لاحظ الباحثون أنّه توجد مستقبلات للغلوتامات من نوع AMPA على المباني هذه، بينما توجد في محيطها فقاعات مجهريّة تحتوي على الغلوتامات، الّذي من المحتمل مصدره من خلايا عصبيّة مجاورة.
لفحص ما إذا كانت التّشابكات بين الخلايا السّرطانيّة والخلايا العصبيّة تعمل بشكل مشابه للتّشابكات الّتي تتكوّن بين الخلايا العصبيّة ، قام الباحثون بتحفيز الخلايا العصبيّة المجاورة لخلايا الورم الدبقيّ. هذا التّحفيز أدّى إلى مرور تيّار كهربائيّ سريع في الخلايا الدبقيّة المجاورة، تمامًا كما يمرّ التّيار الكهربائيّ عبر شبكة الخلايا العصبيّة في الدّماغ. لاحظ الباحثون أيضًا أنّ التّحفيز الكهربائيّ زاد من قدرة انقسام الخلايا السّرطانيّة. دراسة أخرى أظهرت نفس النّتيجة، وحتّى أقرّت أنّ مرور التّيار الكهربائيّ يعتمد على وجود مستقبلات الغلوتامات على خلايا الورم الدبقيّ.
فحصت مجموعتا البحث أيّ جينات يتمّ التّعبيرعنها في الورم الدّبقيّ عند الإنسان ووجدتا أنّ خلايا الورم تعبّر عن الجينات الّتي تؤدي إلى إنتاج مستقبلات الغلوتامات أو مركّبات أخرى مهمّة لتكوين الاشتباكات المنشّطة. قد يدلّ هذا الاكتشاف على أنّ خلايا الورم الدّبقيّ تستخدم نفس الآليّات الجزيئيّة الّتي تستخدمها الخلايا العصبيّة لتكوين تشابكات منشّطة بينها وبين الخلايا المحيطة بها. أُدهش الباحثون بالاكتشاف أنّ أحد البروتينات الّذي يركّب مستقبلات الغلوتامات المعبَّر عنها في خلايا الورم الدّبقيّ يختلف في تركيبته عن ذلك المعبَّرعنه في الخلايا العصبيّة. هذا الاكتشاف قد يفتح باب لتطوير أدوية الّتي تعطّل فقط المستقبلات المعبَّر عنها في خلايا الورم، دون المسّ بمستقبلات الخلايا السليمة.
في المرحلة التّالية للبحث، قام الباحثون في كلا المختبرين بتعطيل قدرة مستقبلات الغلوتامات في الورم على ربط جزيئات الغلوتامات من خلال المثبطات أو التّلاعب الجينيّ. هذه العلاجات زادت من معدّل بقاء الفئران الّتي زرعت فيها خلايا الورم البشريّ، مقارنةً بفئران المجموعة الضّابطة الّتي لم يتمّ تعطيل مستقبلات الغلوتامات فيها. استنتج الباحثون أنّ تحفيز الخلايا العصبيّة يمكّن من ربط جزيئات الغلوتامات بمستقبلات الخلايا الدّبقيّة ودخول الأيّونات إلى الخلايا. في كلا المجموعتين، لاحظ الباحثون أنّ الزّيادة في الإشارات الكهربائيّة داخل خلايا الورم أدّت إلى زيادة انتشارهم وانتشار خلايا الورم الأخرى المرتبطة بها.
تشير نتائج كلتا الدّراستين إلى أنّ خلايا الورم الدّبقيّ يمكن أن تكوّن تشابكات منشّطة مع الخلايا العصبيّة المجاورة. خلايا الورم الدّبقيّ "تسرق" جزيئات الغلوتامات، الّتي ترتبط بمستقبلات الخلايا السّرطانيّة وتؤدّي إلى إنتاج إشارة كهربائيّة. الخلايا السّرطانيّة تكوّن شبكة خلايا ورم فعّالة، الّتي من خلال مرور الإشارات الكهربائيّة بينها، تتمكّن من البقاء، التّكاثر وحتى الانتشار في الدّماغ. وجود التّشابك العصبيّ بين الخلايا العصبيّة والخلايا السّرطانيّة يوضّح كيف نقل الإشارات بواسطة الغلوتامات يساهم في بقاء وغزو خلايا الورم الدّبقيّ في الدّماغ.
النّقائل في الدّماغ
في دراسة ثالثة، والّتي بحثت في قدرة خلايا سرطان الثّدي على إرسال نقائل إلى الدّماغ، وجدوا أنّ هذه الخلايا تعمل بنفس الطّريقة الّتي تعمل بها الخلايا الدّبقيّة. حقن الباحثون خلايا سرطان الثّدي البشريّة في أدمغة الفئران وتمعّنوا فيها عن طريق المجهر. بشكل مفاجئ، اكتشف الباحثون أنّ هذه الخلايا قادرة أيضًا على تكوين تشابكات منشّطة مع الخلايا العصبيّة المجاورة.
عندما فحص الباحثون التّعبير الجينيّ في خلايا سرطان الثّدي، لاحظوا أنّ الخلايا تعبّرعن مستويات عالية من الجينات الّتي تؤدي إلى تكوين مستقبلات الغلوتامات NMDA. بالإضافة إلى ذلك، الخلايا السّرطانيّة تعبّرعن بروتين يسمّى نويروليغين، والّذي يساهم في التصاق الخلايا لبعضها وفي تكوين التّشابكات بين الخلايا العصبيّة.
لفحص ما إذا كانت مستقبلات الغلوتامات تساعد خلايا السّرطان على التّكاثر أيضًا هنا، قام الباحثون بحقن خلايا سرطان الثّدي، المهندَسة أن تعبّر عن أقلّ مستقبلات للغلوتامات، لأدمغة فئران. هذه الفئران عاشت لوقت أطول من الفئران المحقونة بخلايا سرطانيّة فيها مستويات طبيعيّة من المستقبلات. تشير هذه النّتائج إلى أنّ الإشارات الكهربائيّة الّتي تتوسطّها مستقبلات الغلوتامات تساعد أيضًا خلايا سرطان الثّدي على التّكاثر والانتشار في الدّماغ.
تُظهر الدّراسات الثّلاث أنّ أورام الدّماغ يمكنها تكوين التّشابكات مع الخلايا العصبيّة باستخدام الآليات الجزيئية التي تساهم في تكوين التشابكات بين الخلايا العصبية. الإشارات الكهربائيّة الّتي تمرّ عبر التّشابكات الّتي بين الخلايا العصبيّة تساعد على تمايز الخلايا، انقسامهم السّليم والبقاء على قيد الحياة. في الخلايا السّرطانيّة، نفس المنظومات تساعد الورم على الانتشار وجعله أكثر فتكًا. تشير نتائج الدّراسات الثّلاث إلى إمكانيّة تطوير علاجات جديدة ضدّ الأورام الدّماغيّة عن طريق تعطيل عمل مستقبلات الغلوتامات الموجودة على الخلايا السّرطانيّة. التّحدي الأكبر الّذي يواجه الباحثين والأطبّاء هو تطوير علاج الّذي يمسّ بالتّواصل بين الخلايا السّرطانيّة - دون المسّ بالتّواصل بين الخلايا العصبيّة في الدّماغ.