يعتقد الكثيرون أنّ الثّقافات التّي تطوّرت في المناطق الحارّة قد طوّرت تفضيلًا للأطعمة الحارّة، كحمايةٍ من العدوى. لكن، دراسة جديدة تعرض: الدّلائل غير مقنعة!
ما هو سبب حُبّنا للبهارات؟ لماذا يفضّل الأشخاص المختلفون كمّيّاتٍ مختلفة من التّوابل في طعامهم، ولماذا تختلف المطابخ المختلفة حول العالم عن بعضها البعض في كمّيّة التّوابل المستخدمة؟ تتعلّق العديد من الفرضيّات الّتي تحاول الإجابة على هذه الأسئلة بمجال فنّ الطّهي الدّاروينيّ - الّذي يسعى إلى شرح تفضيلات الطّهي من خلال تقديمها كتكيّفات تطوّريّة تمنح ميزة لمن يمتلكونها.
أحد التّفسيرات الأكثر شيوعًا لهذه الظاهرة هي فرضية مضادّات الميكروبات. تحدّد هذه الفرضيّة بأنّ استخدام التّوابل وتفضيل النّكهات الحارّة والمركّبة قد تطوّرت كآليّة دفاعيّة ضدّ الأمراض المعدية المرتبطة بالطّعام الفاسد. هناك العديد من التّوابل الّتي تمّ اكتشاف قدرتها على القضاء على البكتيريا، الفطريّات ومسبّبات الأمراض الأخرى المحتملة. الفرضيّة هي أنّ التّتبيل الهائل للطّعام قد يقلّل من خطر الإصابة بالأمراض الّتي تسبّبها الأطعمة الملوّثة، لذا فإنّ أولئك الّذين يميلون إلى استهلاك مثل هذا الطّعام يتمتَّعون بميزة تطوُّريّة.
كيف نستطيع تأكيد الفرضيَّة؟ إحدى تنبُّؤاتها هي أنّه في الأماكن الّتي يكون فيها خطر تلوّث الطّعام مرتفعًا نسبيًّا، على سبيل المثال في المناخات الحارَّة، سيكون هناك خيار أقوى لصالح استخدام التَّوابل بصورة مفرطة. في الواقع، أفادت دراسات من العقود الأخيرة بوجود علاقة إيجابيَّة بين متوسِّط درجة الحرارة في مكانٍ معيَّن ومدى استخدام التَّوابل في المطبخ المحليِِّ.
يبدو أنَّ هذا دليل قويّ لصالح فرضيَّة مضادَّات الميكروبات: عندما تكون درجة الحرارة مرتفعة؛ يميل الطَّعام إلى التَّلف بشكل أسرع، ممَّا يزيد من ميزة أولئك الَّذين يفضِّلون الطَّعام الحارّ أو المتبَّل. لكن الأمر ليس بهذه البساطة. أثبتت دراسة نُشرت مؤخَّرًا هذه النّتائج من خلال تحليل إحصائيّ شامل، حيث تدَّعي أنّه لا يوجد حاليًّا دليل كافٍ لدعم هذه الفرضيّة، ولا أيّ فرضيّة أخرى تسعى إلى شرح تفضيلات الطَّهي باستخدام الحجج التّطوُّريّة.
الثَّقافة مقابل التَّطوُّر
تميل الثَّقافات البشريِّة المتقاربة جغرافيًّا أو عرقيًّا إلى أن تكون متشابهة مع بعضها البعض. قد تبدو هذه الحقيقة غير بالغة الأهمّيّة، لكنّها تُصعِّب للغاية استخلاص استنتاجات حول العلاقة بين هذه المتغيّرات وغيرها من المتغيّرات والظّواهر الثّقافيّة. تُعرف هذه المشكلة بمشكلة غالتون (Galton) نسبةً إلى السير فرانسيس غالتون. على الرّغم من أنّ هذه مشكلة شائعة جدًّا، إلّا أنّ العديد من الدّراسات تميل إلى تجاهلها وبالتّالي قد تؤدّي إلى استنتاجات خاطئة.
في الدّراسة الحاليَّة، استخدم الباحثون قاعدة بيانات عالميّة تضمّ 33750 وصفة من 70 مطبخًا محلِّيًّا، باستخدام 93 نوعًا مختلفًا من التَّوابل. في هذه القاعدة أيضًا، عثروا على علاقة إيجابيّة بين درجة الحرارة ومدى تتبيل الأطعمة، لكن العلاقة اختفت عندما أُخذ التّقارب الثّقافيّ بعينِ الاعتبار. أي عند فحص كلّ مجموعة ثقافيّة بمفردها - على سبيل المثال المطبخ الهنديّ في حدّ ذاته أو المطبخ اليابانيّ في حدّ ذاته - فإنّ العلاقة بين درجة الحرارة واستخدام التوابل قد تبدَّدت.
تميل الثَّقافات المتشابهة إلى استخدام توابل مماثلة. نبات الفلفل الحارّ (تشيلي)، الفلفل الحارّ المطحون ومسحوق الفلفل الحار تصوير: SteAck ، Shutterstock
يعني هذا أنّ العلاقة بين درجة الحرارة واستخدام التّوابل يمكن تفسيرها وفقًا للتّشابه الثّقافيّ: تميل الثّقافات المتشابهة إلى أن تكون قريبة جغرافيًّا من بعضها البعض؛ وبالتَّالي تتمتَّع بمناخ مشابه. بالإضافة إلى ذلك، هناك أوجه تشابه في طرق تحضير الطَّعام المستخدمة، بما في ذلك التَّوابل. لذلك لا يفسِّر المناخ بشكل جيّد الاختلافات في استخدام التّوابل في المطابخ المختلفة.
وفقًا لذلك، حاول الباحثون إيجاد متغيّرات أخرى من شأنها أن تفسّر بشكل أفضل الاختلافات في أنماط التّوابل في المطابخ المختلفة. لقد وجدوا أنّ العديد من مقاييس جودة الحياة، الصّحّة والحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة مرتبطة إحصائيًّا باستخدام التّوابل، حتّى عند الأخذ في الاعتبار مشكلة غالتون. مع ذلك، ليس من الواضح لماذا تميل المناطق الفقيرة في المتوسّط إلى استخدام المزيد من التّوابل.
نودُّ التَّأكيد بأنَّنا لا نتحدَّث عن علاقة سببيَّة، بل علاقة إحصائيَّة فقط، بمعنى أنَّه من غير المعروف ما الَّذي يؤثِّر على ماذا، وما إذا كان هناك عامل ثالث يفسّر كلاً من استخدام التّوابل والمتغيّرات الأخرى المرتبطة به. على سبيل المثال، وجد الباحثون علاقة قويّة جدًّا بين مستوى توابل الطّعام و معدّل حوادث الطّرق للفرد. هل هذا يعني أنّ تناول الأطعمة الغنيّة بالتّوابل يزيد من مخاطر حوادث الطرق؟ غالبًا كلّا، لأنّ المتغيّرين مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالفقر، وقد ينعكس الوضع الاقتصاديّ بشكل مستقلّ في كلّ من معدل حوادث الطّرق في كلّ مجتمع وفي تفضيل الطّعام الحارّ.
علامات استفهام كبيرة
يعترف الباحثون أنّ تفسيراتهم لا تخلو من المشاكل أيضًا. تحيّز شائع يتكرّر في معظم التّحليلات الإحصائيّة للمجموعات البشريّة الّتي تتمثّل بشكل كبير في الدّول والثّقافات الأوروبيّة والغربيّة مقارنة ببقيّة الأماكن في العالم. على الرّغم من أنّ قاعدة البيانات المستخدمة في هذه الدّراسة كانت أكثر تمثيلًا وتنوّعًا مقارنة بالدّراسات السّابقة، إلّا أنّها ما تزال تحتوي على مناطق لم تحظى بالتّمثيل بشكلٍ كافٍ، مثل معظم القارّة الأفريقيّة أو أمريكا الجنوبيّة.
مسألة أخرى تتعلّق بالجدول الزّمنيّ التّاريخيّ. تشير البيانات الّتي جُمعت إلى الوضع الحاليّ على المستويات المناخيّة، الثّقافيّة، السّياسيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة. تتغيّر العديد من هذه العوامل بسرعة كبيرة - أحيانًا في أقلّ من جيل. إذا كان الميل إلى تفضيل الطّعام الحارّ قد تطوّر في مكان ما في ماضينا التّطوّريّ، فقد حدث ذلك في عالم مختلف تمامًا عن الواقع العالميّ في عصرنا. نمت العديد من التّوابل في مناطق معيّنة فقط، وفي غياب التّجارة العالميّة كانت متاحة لأبناء الثّقافات الّتي عاشت في منطقة توزيعها. كان اختيار ما إذا كان يجب استخدامها وبأيّ كمية، لأيّ سبب من الأسباب، متاحًا فقط للثّقافات الّتي قد كُشفت عليها.
لقد غيّرت العولمة المتسارعة الّتي مرّ بها المجتمع البشريّ في القرون الأخيرة الصّورة الّتي لا يمكن التّعرّف عليها. التّوابل متاحة اليوم لأي مطبخ يرغبها، وتأثيرات الطّهي بين الثّقافات هي قضيّة شائعة، كما تعمل حركات الهجرة البشريّة على نطاق واسع على تغيير الحدود العرقيّة بشكل أساسيّ. قد تفحص هذه التّغييرات السّريعة أيّ دليل على العلاقات السّببيّة الّتي كانت موجودة في فترات سابقة. لذلك، قد لا يتمّ البتّ في مسألة فنّ الطّهو الدّاروينيّ، أو على الأقل ليس من خلال الدّراسات الإحصائيّة العالميّة.