أشارت دراسة جديدة الى أنّ بعض الثّدييات تستطيع استيعاب الأوكسجين عن طريق الأمعاء. من السّابق لأوانه أن نعرف هل سيصبح علاج المرضى الّذين هم بحاجة للتّنفّس الاصطناعيّ متاحًا بهذه الطّريقة
وجدت بعض الأنواع من الأسماك، مثل لوش البركة (Misgurnus anguillicaudatus)، طريقة للتّأقّلم داخل المياه الفقيرة بالأوكسجين. تعلو هذه الأسماك إلى سطح الماء وتبتلع "رشفاتٍ" كبيرةٍ من الهواء كلّما تواجدت في بيئة فقيرة بالأوكسجين وتعذَّر على خياشيمها إدخال كمّيّة كافية من الغاز الضّروريّ إلى أنسجتها المختلفة. لا توجد رئات للأسماك، ويدخل الأوكسجين إلى جهازها الهضميّ مباشرةً ويتمّ امتصاصه عن طريق الأمعاء. توجد رئات للسّلاحف المائيّة، إلّا أنَّ البعض منها يربض في فصل الشتاء في أعماق البرك ولا يعلو ليتنفّس الهواء من فوق سطح ماء البركة، وتستوعب الأوكسجين الّذي تحتاجه من الماء مباشرةً، بواسطة الجانب الآخر من الجسم. تقوم السّلاحف بإدخال الماء الّذي يحتوي على الأوكسجين المذاب واللّازم للتّنفّس من فتحة الحضيض (cloaca) وهي فتحة تستخدمها السّلاحف للكثير من المهام مثل التّكاثر وإفراز الفضلات.
اتّضح من خلال دراسة جديدة أجراها باحثون من اليابان والولايات المتَّحدة أنّ الثّدييات تستطيع هي الأخرى، وليس الكائنات البحريّة فقط، التّنفس عبر أمعائها بدون استخدام الرئات. يقول شون كولجين (Colgan) المختصّ بطبّ الأمعاء لموقع مجلة Science العلميّة، في تعليقه على إمكانيّة استغلال هذه الحقيقة طريقةً بديلةً للتّنفّس الاصطناعيّ في حال تعذّرَ تمرير الأوكسجين عبر الرّئات، أنّها تبدو "فكرة جنونيّة حقًّا، إلّا أنها، على ضوء المُعطيات، مقنعة للغاية".
إدخال الأوكسجين عن طريق مستقيم الشّرج
تقوم الأمعاء بدورها في امتصاص المواد ونقلها إلى الدّورة الدّمويّة بنجاعة بالغة. غالبًا ما تكون هذه مواد غذائيّة غير غازيّة قادمة من المعدة، إلّا أنّ الآليّة الّتي تشمل طبقة دقيقة من الخلايا قريبةً من أوعية دمويّة كثيرة قائمةٌ هناك. يتمّ استخدام هذه الآلية، أحيانًا، لنقل الدّواء إلى الدّم بواسطة إدخال التّحاميل (الشّموع) في فتحة الشرج. قرّر الباحثون فحص إمكانيّة تمرير الأوكسجين من نفس الطّريق.
يستطيع سمك لوش البركة التّنفّس عن طريق الأمعاء. أظهر الباحثون أنّه يمكن إجراء التّنفّس للثّدييات بنفس الطّريقة، وهم يأملون أن يصبح إجراء التّنفّس للإنسان بهذه الطّريقة ممكنًا. تخطيط موجز للدّراسة | المصدر: Institute of Research,TMDU
يسهل انتقال الغازات من خلال طبقة الخلايا الدّقيقة جدًّا لدى أسماك لوش البركة والحيوانات الأخرى الّتي تتنفّس عن طريق الأمعاء. قام الباحثون بإزالة جزءٍ من الطّبقة المخاطيّة الّتي تغطي مَعي فئران التّجارب، وذلك لتقليد مَعي سمكة لوش البركة، ثمّ وضعوا الفئران بعد تنويمها داخل حجرة صغيرة فقيرة بالأوكسجين. استطاع ثلاثة أرباع الفئران البقاء على قيد الحياة لمدّة خمسين دقيقة بعد تمرير غاز الأوكسجين من خلال مستقيم الشّرج، وتغلَّبت بذلك على نقص الأكسجين. لم يبقَ أيٌّ من الفئران الّتي لم تمرّ بهذا العلاج على قيد الحياة.
على الرّغم من أنّ النتائج مُشجّعة إلّا أنّ إزالة طبقة الخلايا من المَعي قد تكون معقّدة وقد تُشكّل خطرًا بالغًا على المرضى، خاصّةً أولئك الّين يعانون من أمراض صعبة وخطيرة. استخدم الباحثون المادّة السّائلة المسمّاة بير فلورو كربون (perfluorocarbon) في بحثهم لإدخال الأوكسجين عن طريق المَعي دون الحاجة إلى التّحضير المسبق المذكور. تستطيع هذه المادّة ضمّ كمّيّة كبيرة من الأوكسجين عن طريقة الارتباط بها، ويمكنها ربط ثنائي أكسيد الكربون أيضًا - الغاز الّذي يتمّ إطلاقه إلى الخارج في عمليّة التّنفّس. لقد سبق أن اقترح باحثون استخدام هذه المادّة ذات الخواص المميّزة كبديل للدّم.
ارتفعت نسبة الأوكسجين في دم الفئران والخنازير المُنوّمة ارتفاعًا ملحوظًا عندما قام الباحثون بتمرير السّائل الغنيّ بالأوكسجين من خلال مستقيم الشّرج، حتّى وإن لم تستطع الحيوانات التّنفّس عن طريق الرّئات بشكل عاديّ. يقول تاكانوري تاكيبي (Takebe)، الباحث الكبير الشّريك في المقالة، في مقابلة مع مجلة نيويورك تايمز: "لقد انتعشت الحيوانات انتعاشًا تامًّا بعد نقص حادٍّ جدًّا بالأوكسجين. لقد أذهلني ذلك".
النّهج المضادّ للغريزة
يأمل الباحثون استخدام هذه الطّريقة في المستقبل لرفع مستوى الأوكسجين لدى المرضى المعالجين ولو لفترة قصيرة، عند تعذّر استخدام ماكينات التّنفّس أو في حال عدم توفّرها. لقد ظهرت الحاجة الماسَّة لإيجاد طرق تنفّس بديلة في أعقاب النّقص الحادّ في ماكينات التّنفّس في أماكن كثيرة والّذي سبّبه وباء كوفيد - 19. يتابع تاكيبي ويقول: "من الواضح أنّنا بحاجة لاستراتيجيات متنوّعة من شأنها أن تساعد المرضى الّذين يعانون من الفشل الرّئويّ الحَادّ".
أصدر كايلب كيلي (Kelly) استعراضًا مرافقًا للمقال في مجلة Med العلميّة. يقول كيلي في مقابلةٍ أجرتها معه مجلة نيويورك تايمز إنّه عندما بلغت الفكرة مسامعه "حسبْتُ الأمر مزحةً وضحكت". إلّا أنّ كيلي عدَلَ عن هذا الموقف بعد أن قرأ نتائج الدّراسة، ولكنّه أشار إلى بُعد الزّمن الّذي سيتمّ فيه علاج المرضى بهذا النّوع من "حقنة الأوكسجين". من ضمن ما يستدعي التّحقّق منه، تأثير هذه الطّريقة على البكتيريا القاطنة في منطقة مستقيم الشّرج إقامةً دائمةً والّتي تعيش هناك في بيئة تكاد تكون معدومة الأوكسجين، وهل سيكون بوسع ثنائي أكسيد الكربون المنبعث في عمليّة التّنفّس ترك الجسم بالاستعانة بذلك السّائل الّذي يحمل الأوكسجين معه. لم تعاني فئران وخنازير التّجربة، عدا عن نقص الأكسجين، من الأمراض والمشاكل الّتي طالما يعاني منها المرضى الّذين هم بحاجةٍ للتّنفّس الاصطناعيّ. من المؤكَّد أن تقوم الدّراسات المستقبليّة باستقصاء هذه الأمور والتّحقّق منها.
قد تلاقي هذه الطّريقة من التّنفّس معارضةً شديدة من قبل المرضى المعالجين. يقرّ كيلي بأنّه "قد تكون فكرة استخدام هذا الجزء من التّركيب البنيويّ للجسم البشريّ في عملية تبادل الغازات أمرًا مُريبًا جدًّا". ويضيف: "إلّا أنّه يتوجّب علينا اعتماد المعطيات وإهمال الإحساس الغريزيّ".