اكتشف الباحثون كيف تقتل الخلايا نفسها: تُنتج الخلايا تجمّعات من البروتينات الّتي تفكّك جدار الخليّة، وتكوّن فجوات كبيرة فيه، حتّى تنهار الخليّة تمامًا
يتمّ إنتاج خلايا جديدة يوميًّا في جسم الإنسان، بينما تموت ملايين الخلايا الأخرى، وتُعتبر هذه العمليّة ضروريّة لصحّة الجسم وتطوّره السليم. تقوم الخلايا القديمة أو التالفة، الخلايا المُصابة بالفيروسات أو البكتيريا وكذلك الخلايا السرطانيّة بقتل نفسها، وتحلّ محلّها خلايا جديدة. في هذه العمليّة، يتمّ تنشيط سلسلة طويلة من الأحداث الخاضعة للرقابة والّتي تؤدّي إلى موت الخلايا.
في الماضي، اعتقدوا أنّ الخليّة لا تشارك بشكل نشط في هذه العمليّة، وافترضوا أنّ سبب الوفاة هو تغلغل السوائل في الخليّة، ما يؤدّي إلى تضخّمها تدريجيًّا حتّى تنفجر في النهاية. لكنّنا، نعرف اليوم أنّ موت الخلايا هي عمليّة مُنظَّمة ومُخطَّطة، تتحكّم فيها الخليّة بنفسها.
كشفت دراسة نُشرت عام 2021 أنّ بروتينًا صغيرًا يُدعى "نينجورين-1" (ninjurin-1)، يسبّب تمزّقات قاتلة في غشاء الخليّة، لكنّ الطريقة الّتي يعمل بها البروتين لا تزال غير واضحة. وفقًا لدراسة نُشرت مؤخّرًا في مجلّة "نيتشر" Nature، اكتشف علماء من جامعة بازل ما يحدث في الخليّة خلال مراحل حياتها الأخيرة، قبل أن تموت.
هناك عدّة طرق يمكن للخلايا من خلالها أن "تنتحر"- أي تقتل نفسها. ركّزت الدراسة الحاليّة على واحدة من تلك الطرق، والّتي تُدعى الموت الخلويّ الحُمّيّ المُبرمَج (pyroptosis). والّتي تحدث في الخلايا السرطانيّة، وكذلك في الخلايا المُصابة ببعض البكتيريا وفيروسات مُعيَّنة، حيث يتمّ إطلاق الجزيئات الّتي تثير الالتهاب وتحذّر الخلايا المجاورة من مشكلة أو عدوى.
عمليّة تمزيق غشاء الخليّة بمشاركة بروتين "نينجورين-1" (ninjurin-1). تتجمّع بروتينات النينجورين-1 (أخضر-أصفر) وتشقّ غشاء الخليّة (رمادي)، محتويات الخليّة باللون الأزرق | المصدر: Biozentrum, University of Basel
ثقب في الغشاء
يتكوّن الغشاء الدهنيّ الّذي يُحيط الخليّة ويفصل محتوياتها عن البيئة الخارجيّة من طبقتَي دهون، تتداخل فيهما بروتينات تُدعى بروتينات عبر غشائيّة (Transmembrane proteins)، والّتي تلعب أدوارًا رئيسة في نشاط الخليّة، حيث تمكّن الاتّصال بين الخلايا، وتنقل جزيئات إلى داخل الخليّة وخارجها، وتساهم في التصاق الخلايا المجاورة، وتوفّر الدعم الهيكليّ.
أحد هذه البروتينات هو نينجورين-1، وهو بروتين صغير مبنيّ من لولبين متّصلين ببعضهما ومندمجَين في غشاء الخليّة. لمعرفة كيفيّة عمل البروتين؛ استخدم الباحثون العديد من التقنيّات المتقدّمة مثل الرنين المغناطيسيّ النوويّ (Nuclear magnetic resonance، باختصار NMR)، والّذي يمكّن فحص بنية وديناميكيّة بروتينات الغشاء في المحلول، وكذلك استخدموا المجهر الإلكترونيّ المبرّد، الّذي ينتج صورة متقدّمة، دقيقة وثلاثيّة الأبعاد للبروتين في بيئته الطبيعيّة، بتكبير ملحوظ.
في الحالة الطبيعيّة، تتوزّع بروتينات نينجورين-1 بشكل عشوائيّ في غشاء الخليّة، ولكن عندما تتعرّض الخليّة لضرر هيكليّ أو عندما تصاب بفيروس أو بكتيريا، يتمّ إعطاء إشارة مسؤولة عن تنشيط سلسلة من الأحداث، والّتي بدورها تبدأ العمليّة الّتي تؤدّي إلى موت الخليّة. اكتشف الباحثون أنّه في المرحلة الأخيرة من هذه العمليّة، يتّصل اثنان من بروتينات النينجورين-1 ببعضهما البعض، ويخترقان الغشاء في نقاط معيّنة حتّى يتفكّك. في وقتٍ لاحق، تنضمّ إليهما بضع جزيئات أخرى، ويتمّ تكوين هيكل كبير على شكل عدّة ألواح متجاورة؛ يشكّل هذا المركّب نوعًا من السياج الّذي يُغلَق من كلا طرفَيه بشكل حلقة. تُفتَح الحلقات في الوسط مثل السحّاب، وتكوّن فتحات كبيرة في الغشاء، وتتسرّب من خلالها محتويات الخليّة إلى الخارج، ويتمزّق الغشاء تدريجيًّا وتتلف الخليّة.
يوضّح سباستيان هيلر (Sebastian Hiller)، الباحث الّذي تولّى رئاسة فريق البحث: "تأسّست الفكرة السائدة على أنّ الخليّة تتضخّم حتّى تنفجر في النهاية بسبب زيادة الضغط الأسموزيّ. واليوم نعرف حقًّا كيف تتمزّق الخلايا. بدلًا من الانفجار مثل البالون، يُنتِج بروتين نينجورين-1 نقاط تمزّق في غشاء الخليّة، ما يتسبّب في تشقّقات الجدار في مواقع معيّنة".
قد يساهم الفهم العميق للعمليّات المشاركة في آليّات موت الخلايا، بما في ذلك دور نينجورين-1 في تفكيك غشاء الخليّة، في تطوير أدوية جديدة للأمراض المعدية، الأمراض الالتهابيّة، أو أنواع السرطان الّتي تتعطّل فيها عمليّات موت الخلايا وتنمو الخلايا بدون رقابة، مثل سرطان القولون وسرطان الكبد.