تعتبر العاصفة الشمسيّة ظاهرة نادرة، ولكن في ذروتها يمكن أن تُلحق أضرارًا بالغة ببنية الاتّصالات التحتيّة- وبنا أيضًا

من وقتٍ لآخر، يخبرنا الراصدون الجوّيّون في نشرات الأخبار عن عاصفة شمسيّة نادرة، والّتي تشمل انتشار وتزايد نفّاثات السوائل. ويطمئنوننا قائلين: "إنّها بعيدة جدًّا عنّا". ولكن قد يتغيّر هذا الوضع: هناك عواصف شمسيّة قويّة جدًّا، بحيث "تشهدها" الأشجار والمياه لسنوات طويلة.

بعض هذه الأحداث غير العاديّة هي "أحداث مياكي" (Miyake event)، الّتي سُمّيت باسم عالمة الفيزياء اليابانيّة الشابّة فوسا مياكي، والّتي وصفتها علميًّا في سنة 2012، في نهاية مناقشة أطروحتها للحصول على درجة الدكتوراة. وفي حال حصول مثل هذا الحدث اليوم، يمكن أن يؤدّي إلى عواقب وخيمة في شبكات الاتّصال- من الهواتف وحتّى الأقمار الصناعيّة.


هناك عواصف شمسيّة قويّة لدرجة أنّ الأشجار والمياه "تشهدها" لسنوات طويلة. صورة لعاصفة شمسيّة | NASA/Goddard Space Flight Center

وابل من الجسيمات 

بماذا تختلف عواصف مياكي عن العواصف الأخرى؟ في الأساس بالقوّة والتأثير في الكرة الأرضيّة. عاصفة شمسيّة عاديّة، أو في لغة الفيزيائيّين حدث الجسيمات الشمسيّة (Solar Particle Event)، أو باختصار SPE)-  تتميّز في انبعاث جسيمات مشحونة، بشكل عامّ بروتونات أو نوى الهيليوم. يُسَرِّع غلاف الشمس الجسيمات لسرعات فائقة بحيث تتحرّك باتّجاه الكواكب. تؤثّر العواصف   أحيانًا في الأقمار الصناعيّة خارج الغلاف الجوّيّ للكرة الأرضيّة: يصيب وابل الجسيمات  الأقمار الصناعيّة ويسبّب تشويشات في الاتّصالات.

 يطرأ بين الحين والآخر حدث أكثر تأثيرًا وأهميّة، يؤدّي إلى زيادة وجود جسيمات معيّنة على سطح الأرض: كربون 14، وهو نظير مشعّ للكربون، وهو عبارة عن ذرّة كربون تتكوّن نواتها من ستّة بروتونات وثمانية نيوترونات، وكذلك بريليوم 10، وهو نظير البريليوم، وهو ذرّة بريليوم تحوي  أربعة بروتونات وستّة نيوترونات.

هذان النظيران نادران جدًّا. من بين تريليون ذرّة كربون، عادةً ما تكون ذرّة واحدة فقط هي كربون 14؛ أمّا البريليوم 10 فهو أكثر ندرة. وهو موجود في الأرض بكميّات صغيرة جدًّا لدرجة أنّنا لا نعرف وجودها إلّا من خلال مخلَّفات تحلّلها.

في كلّ حدث شمسيّ، ينتج هذان النظيران في الغلاف الجوّيّ للأرض: تصطدم النيوترونات القادمة من الشمس بنوى الغازات الخفيفة في الغلاف الجوّيّ- مثل النيتروجين- وتكون النظائر جزءًا من نواتج هذه التفاعلات.


يطرأ بين الحين والآخر حدث أكثر تأثيرًا وأهميّة، يؤدّي إلى زيادة وجود جسيمات معيّنة على سطح الأرض. رسم توضيحيّ لجسيمات من عاصفة شمسيّة تصل إلى الأرض | ناسا

نظير كيميائيّ أسعدَني اليوم 

وبعد أن تتشكّل في الغلاف الجوّيّ، تصل هذه النظائر إلى الأرض. تستقبِل الأشجار نظير الكربون-14 من خلال  عمليّة التمثيل الضوئيّ، ويستقبِل الجليد نظير البريليوم- 10 الّذي يصل إلى الأرض مع هطول الأمطار. وهكذا، حتّى بعد سنوات عديدة من حدث مياكي، من الممكن تحليل وفهم ما حدث ومتى. يتمّ تأريخ الحدث باستخدام بصمات كربون 14 في الأشجار- وهي طريقة قديمة وشائعة في علم الآثار، حيث يتم تأريخ الموادّ العضويّة وفقًا لمتوسِّط عمر النظير، وهو الوقت الّذي ينقضي خلال عمليّة تحليل نصف الكميّة من الموادّ الأصليّة. حتّى حلقات الشجرة، كما تعلّمنا في طفولتنا، تساعد في تحديد عمر الشجرة: هذه طريقة تُعرف باسم علم تأريخ الشجر dendrochronology، من الكلمة اليونانيّة الّتي تعني شجرة، "dendron".

ومثال على ذلك، يمكن مشاهدته في منطقة نهر دروزت (Druzet) في جبال الألب جنوبيّ فرنسا. قام الباحثون مؤخّرًا بفحص عيّنات الكربون 14 من 172 شجرة هناك، وأدّى التأريخ الكربونيّ إلى استنتاج مفاده أنّ تأثيرات حدث مياكي في هذه المنطقة كانت محسوسة في نهاية  العصر الجليديّ الأخير، قبل 14300 عام. ووصلَنا تأكيد آخر وغير متعلّق بذلك في منطقة بعيدة عن هناك، من النوى الجليديّة في جرينلاند، والّتي تحوي مخلَّفات من البريليوم 10. كان التطابق كاملًا، ووفقًا للباحثين، فإنّ هذا هو أقدم وأهمّ حدث مياكي معروف للعلم؛ وفي السنوات العشر الّتي تلت بحث مياكي، تمّ التعرّف على ستّة أحداث من هذا القبيل على مدار حوالي 8000 سنة.

وربّما تمكّن من عاش آنذاك من رؤية علامات هذا الحدث في الشفق القطبيّ في المنطقة الاستوائيّة، على غرار الشفق الشماليّ والجنوبيّ، لكن لا يوجد دليل على ذلك. بخلاف ذلك، لم يكن لهذا الحدث أيّ تأثير في البشر. تقول مياكي اليوم إنّ الوضع مختلف تمامًا: فمثل هذا الحدث كان من شأنه أن يلحق أضرارًا جسيمة في شبكة الحواسيب الّتي توفّر البيانات- الأقمار الصناعيّة، أجهزة الراديو، الهاتف، التلغراف، وغير ذلك- حتّى ولو لفترة محدودة من الزمن.


تخبر الأشجار أنّ عواقب حدث مياكي كانت محسوسة في هذه المنطقة قبل 14300 سنة. شجرة متحجّرة في منطقة نهر الدروزت  | Cécile Miramont

ممكن التلخيص، أنّ حدث مياكي لا يؤثّر فقط في الأشجار والجليد. على سبيل المثال، حدث كارينغتون، رغم أنّه ليس حدث مياكي، كان حدثًا مشابهًا: عاصفة شمسيّة حدثت منذ وقت قصير- من الناحية الجيولوجيّة- في سنة 1859. وبشكل عامّ، قبل سنة واحدة من ميلاد هرتزل، أيّام العصر الفيكتوريّ ونهاية العصر الجليديّ الصغير الّذي استمرّ عدّة قرون. 

رغم ذروة الثورة الصناعيّة في تلك الفترة، لكنّ اتّصالات البيانات كانت محدودة للغاية ولم تؤثّر العواصف الشمسيّة الكبيرة في المكالمات الهاتفيّة؛ لأنّ الهاتف لم يكن موجودًا بعد، ناهيك عن شبكات الإنترنت أو Zoom. إنّ حدثًا من نوع كارينغتون، أو لا قدّر الله، من نوع حدث مياكي، إذا حدثا اليوم، يمكن أن يؤثّرا فينا جميعًا بطريقة مروعة وبشكل نهائيّ في ظلّ الاعتماد الكبير على وسائل الاتّصال، حتّى أولئك الّذين يسافرون على متن الطائرات قد يتعرّضون للأذى بسبب زيادة التعرّض للإشعاع مع عدم وجود مرشّحات حماية تقريبًا.

أقوال الحكيمة

تقول مياكي نفسها، والّتي لم تشارك في البحث، إنّ النتائج الجديدة مثيرة للغاية ولكنّها ليست مفاجئة، وإنّ البحث في هذا المجال ما زال في بدايته، وحسب أقوالها، هناك المزيد من الحِكَم الّتي يمكن استخلاصها من جذوع الأشجار.

هذا درس جديد مثير للاهتمام حول فترات النشاط الزائد للشمس مقابل فترات الهدوء، حيث لا تكون أحداث مياكي شائعة. مِمَّ تنبع هذه الأحداث؟ قد تكون مرتبطة بمُستعِر أعظم- انفجار نجم ضخم- أو بالنفّاثات المنبعثة من النجوم القزمة الحمراء، ولكن لا توجد حتّى الآن استنتاجات حاسمة، وربّما تخزن الشمس الطاقة المغناطيسيّة لفترات طويلة، وتنبعث في لحظة معيّنة. يمكنها أن تنبعث في أيّةلحظة، وربّما حتّى قريبًا، نظرًا لتكرار أحداث مياكي السابقة. إذًا- أين تخطّطون لعقد حدث مياكي القادم؟

0 تعليقات