اكتمل مشروع الجينوم البشريّ، المشروع الضخم لتخطيط DNA الإنسان، رسميًّا قبل عشرين عامًا. بدأ مردود هذا المشروع على الطبّ وعمّا نعرفه عن الآليّات داخل جسم الإنسان يتجلّى شيئًا فشيئًا.

إنّ السؤال: ما الّذي يجعلنا بشرًا؟ ليس سؤالًا فلسفيًّا فحسب وإنّما معضلة بيولوجيّة معقّدة الحلّ. أثبت العلماء في منتصف القرن العشرين أنَّ الـ DNA الّذي يتركّز عند الإنسان في 23 زوجًا من الجزيئات الضخمة، الكروموزومات، هو المادّة الوراثيّة الّتي تنقل المعلومات من جيلٍ إلى جيل. أصبح لاحقًا تشخيص الموّرثات (الجينات) فيه ممكنًا، أي تتابع أو تسلسل الأحماض النوويّة في الـ DNA الّذي يُشكِّل شيفرة التعليمات لجميع الصفات المولودة ووظائف الخلايا الحيّة، من البكتيريا الصغيرة جدًّا حتّى المخلوقات المعقّدة كثيرة الخلايا مثل الإنسان. شمّرت الأوساط العلميّة، في أعقاب ذلك، عن ساعدَيها وانخرطت في مشروع ضخم فريد من نوعه يهدف إلى اكتشاف التسلسل الكامل للـ DNA البشريّ - كامل الجينوم البشريّ. 

انطلق في سنة 1990م مشروع جينوم الإنسان، وطمح المبادرون، إلى هذا المشروع الكبير الّذي بلغت تكاليفه حوالي ثلاثة مليار دولار من الميزانيّة العامّة،، إلى إتمامه خلال خمسة عشر عامًا. ووضع المبادرون نصب أعينهم غاية فكّ شيفرة تسلسل 3.2 مليار من الأحماض النوويّة الموجودة داخل جميع خلايا الجسم ذات النواة، مع العلم أن عدد الأحماض النوويّة هو فعليًّا ضِعفا ذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّ الخليّة الواحدة تحوي نسختين كاملتين من الـ DNA - مصدر إحدى هاتين النسختين هو الأمّ ومصدر النسخة الثانية هو الأب. 

מבנה הסליל הכפול של ה-DNA | איור: Leigh Prather, Shutterstock
مشروع يطمح لفكّ شيفرة مخطوطة مكوّنة من أكثر من ثلاثة مليار حرف. هيكل يُمثّل لولب الـ DNA المزدوج. | رسم: Leigh Prather, Shutterstock

 

طريقة سينجر لتحديد التسلسل

اعتمد المشروع الواعد على تكنولوجيا تُسمّى تسلسل سينجر، يعتمد نشاطها بالأساس على المعرفة الّتي اكتسبناها عبر السنين عن مبنى الـ DNA. من المهمّ أوّلًا أن نعرف أنَّ الـ DNA مكوّن من أربعة أنواع من لَبِنات البناء تُسمّى "قواعد": الأحماض النوويّة أدنين (Adenine)، ثيمين (Thymine)، جوانين (Guanine) وسيتوزين (Cytosine)، وباختصار C، G، T، A. ترتيب هذه اللّبِنات داخل تسلسلات الـ DNA الطويلة يشكّل شيفرات لجميع المعلومات اللازمة لبناء البروتينات المسؤولة عن العمليّات الحياتيّة داخل الخلايا على أنواعها. سيصبح بالإمكان إذًا، في حالة فكّ تتابع القواعد، الكشف عن البنية التحتيّة البيولوجيّة لوجودنا. 

نحن بحاجة إلى معلومة مهمّة أخرى عند قيامنا بقراءة الجينوم البشريّ بواسطة الآلة، وهي أنّ كلّ تتابع في الـ DNA هو عمليًّا عبارة عن سلسلتَين طويلتَين من الأحماض النوويّة تلتفّان معًا على شكل لولب مزودج، من جديلتَين. تتلاءم هاتان السلسلتان فيما بينهما تلاؤمًا تامًّا، بحيث أنّ كلّ حمض نوويّ في إحدى الجديلتين يقابله الحمض النوويّ المعاكس في الجديلة الأخرى. يقابل الثيمين في إحدى الجديلتين الحمض النوويّ أدنين في الجديلة الأخرى ويقابل السيتوزين الجوانين، وبالعكس. 

من أجل قراءة تسلسل غير معروف من الـDNA يتمّ تسخينه من أجل فصل الجديلتين عن بعضهما ثمّ يتمّ تركيب جديلة مُعاكسة أو مضادّة تلائم المقاطع المجهولة. يمكن استنتاج التسلسل المراد اكتشافه من معرفتنا تسلسل الجديلة الجديدة الّتي تمّ تركيبها. 

 يجري تشخيص التتابع أو التسلسل الّذي اتّصلت وفقًا له لبنات الأساس الجديدة فيما بينها، وذلك عن طريق وَسْمٍ كيميائيّ لكلّ واحدة من لبنات البناء المستخدَمة في تركيب الجديلة الجديدة. يتمّ وسم لبنات الأساس بطريقة سينجر بواسطة إدخال عيوب قابلة للتشخيص في مبناها. تَستَخدم الطرق الحديثة الوسم الفلورسنتيّ للَبنات الأساس الّتي تُشكِّلُ سلسلة من الخرز المُلوّن. يمكن، بهذه الطريقة، للحاسوب والمجهر قراءة تتابع لبنات الأساس بسهولة. 

החיבור בין הגדילים תמיד יהיה כך ש-T מול A ו-G מול C | איור: grayjay, Shutterstock
يتكوّن كلّ حمض نوويّ من قاعدة (G, T, A أو C)، ووحدة سكريّة (D) وفوسفور (P). يكون الاتّصال بين الجدائل دائمًا على النحو: T مقابل A و-G مقابل C | التخطيط: grayjay, Shutterstock 

 

اليوتوبيا والسباق

تُتيح طريقة سينجر تحديدًا دقيقًا وموثوقًا لتسلسل الجينوم، إلّا أنّها بطيئة للغاية، حيث أنَّ إلقاء مهمّة تحديد تسلسل 3.2 مليار من القواعد على مختبرٍ واحد ليس عمليًّا. من أجل تقسيم ضغط العمل ومشاركة عددٍ أكبر من العلماء من مزيدٍ من الدول؛ حصلت مختبراتٌ عديدة في جميع أنحاء العالم على مقاطع DNA وطُلب منها تحليلها والكشف عن التسلسل فيها. كانت المعلومات حول التسلسل الكامل متاحةً للاستخدام لمن شاء، وذلك لإتاحة المجال للتعاون العلميّ المثمر. إنّها حقًّا غايةٌ مثلى نصبو إليها في مجال العلوم.

اختلّت وتشوّشت هذه الحالة المثاليّة في خضمّ العمل، عندما ظهرت شركة سيليرا (Celera) التجاريّة والمتخصّصة في مجال البيوتكنولوجيا، إذ صرّح رؤساؤها أنّهم قادرون على إتمام عمليّة تحديد التسلسل الجينيّ خلال فترة لا تتعدّى نصف الزمن الّذي تبقّى لإنهاء المشروع. تعقّدت الأمور عندها، إذ اختلف القائمون على المشروع العامّ مع شركة سيليرا في مسألة حقّ ملكيّة المعلومات الّتي يتمّ اكتشافها خلال عمليّة تحديد التسلسل الجينيّ، وفيما إذا سيبقى كلّ شيءٍ متاحًا ومكشوفًا لمن شاء، أم أنّه يتوجّب الحفاظ على الأسرار التجاريّة. تسابق الجانبان وآلت نتيجة السباق إلى التعادل. في الرابع عشر من نيسان سنة 2003م صدر إعلان عن انتهاء المشروع، وذلك قبل حوالي سنتَين من الموعد المحدَّد، وبعد خمسين عامًا من اكتشاف مبنى الـ DNA. 

ריצוף DNA במעבדה | צילום: TEK IMAGE / SCIENCE PHOTO LIBRARY
آلت المنافسة بين العلم الجماهيريّ المكشوف وبين المختبرات التجاريّة إلى التعادل. تحديد تسلسل DNA في المختبر | تصوير: TEK IMAGE / SCIENCE PHOTO LIBRARY
 

النهاية الّتي ما بعد النهاية

لم يكتمل حقًّا تحديد تسلسل الجينوم البشريّ مع انتهاء السباق. توجد لكلّ طريقة علميّة قيودٌ تُكَبّلها كما أنَّ دقّتها قد تكون منقوصة. كان التسلسل الّذي أُكمِلَ قبل حوالي عشرين عامًا بمثابة مُسَوّدةٍ أوّليّة للتسلسل الكامل. تطوّرت طرق ووسائل تحديد التسلسل منذ ذلك الحين وبُشِّرنا مؤخّرًا أنّ مجموعة دوليّة للدراسات والأبحاث قد أتمّت فكّ شيفرة التسلسل الكامل للجينوم البشريّ بجميع أجزائه. 

تمَّ خلال ما مرّ من الزمن تصحيح الأخطاء الّتي وُجِدت في التسلسل الأصليّ، وتحديدًا تمّ إكمال تسلسل الأجزاء الّتي كان من الصعب تحديدها، مثلًا، بسبب التسلسلات الّتي تتكرّر مرارًا وتكرارًا وتُصعّب المهمّة. أُضيف إلى الجينوم المُخطّط تسلسلٌ مكوّن من حوالي مائتي مليون لبِنة بناء لم يتمّ تخطيطها أصلًا. كانت الجينات الّتي تحوي التعليمات لبناء الريبوزومات -الآلات الجزيئيّة المسؤولة عن إنتاج البروتينات في الخليّة- من ضمن الأجزاء الناقصة من الجينوم. ووُجِدَ في الأجزاء الجديدة 3064 جينًا لم يكن معروفًا في السابق، منها 140 جينًا يحوي تعليمات لإنتاج البروتينات. تتوفر دلائل على أنّ لهذه الجينات علاقة بتطوّر الدّماغ، والتوحُّد، وأمراض الأوعية الدمويّة، ونشاط جهاز المناعة والسرطان. 

كان هناك اكتشاف هامّ آخر يعود فضله إلى إتمام تخطيط الجينوم. يتعلّق هذا الاكتشاف بموقع وجود السنتروميرات، وهي أجزاء التسلسل الجينيّ الّتي تربط الكروموزومات الّتي نحصل عليها من الأمّ مع الكروموزومات المقابِلة الّتي نحصل عليها من الأب. يتوجّب علينا معرفة أماكن وجود السنتروميرات بشكل دقيق من أجل فهم عمليّات انقسام الخلايا في أجسامنا؛ لأنّها، أي السنتروميرات، تلعب دورًا مهمًّا في عمليّة انقسام الخليّة. تمّ، بالإضافة إلى ذلك، تشخيص مواقع في الـ DNA مسؤولة عن التحكّم الوراثيّ فوق الجينيّ، أي مدى التعبير عن الجينات، الّذي يؤثّر في كيفيّة ظهور صفات وراثيّة معيّنة. 

בחינת רצף גנטי על צג של מחשב טאבלט | צילום: TEK IMAGE / SCIENCE PHOTO LIBRARY
تتيح الطرق المحوسبة في أيامنا، خلال بضعة أيام، إتمام تحديد التسلسل الجينيّ الّذي كان في السابق يستغرق بضع سنوات. فحص التسلسل الجينيّ على شاشة حاسوب  لوحيّ| تصوير: TEK IMAGE / SCIENCE PHOTO LIBRARY 

 

شيفرة الحياة

ما زالت أهميّة تأثيرات تحديد تسلسل الجينوم البشريّ هائلة؛ إذ يُشكّل التسلسل الجينوميّ الحبلَ الّذي يربط بين بني البشر جميعًا، وتشخيص التسلسل الكامل للـ DNA البشريّ يُسهّل على العلماء الكشف عن التغيّرات في الشيفرة الّتي تؤدّي إلى الأمراض الوراثيّة. سيتمكّن الباحثون أيضًا من دراسة التسلسل الضخم واكتشاف الجينات غير المعروفة وقوالب مثيرة للاهتمام في الشيفرة الوراثيّة الّتي قد تدلّنا على البيولوجيا الّتي تجعلنا كما نحن. 

كان التعاون غير الاعتيادي الّذي حصل في الأوساط العلميّة بسبب هذا المشروع الطَّموح مكسبًا آخر؛ إذ قويَ الإدراك بأنّ التعاون العلميّ من جميع أرجاء العالم من شأنه أن يتيح فكّ لغز مشاكل كثيرة تُشغل البشريّة وتُقلقها، ومن شأنه تحقيق إنجازاتٍ واعدة.

 

0 تعليقات