الذكرى السابعة والستّون لنشر مقال واتسون وكريك عن تحليل مبنى الـ DNA؛ الاكتشاف الّذي غيّر العلم، الطّبّ، والهندسة إلى الأبد.
نُشِر في مثل هذا اليوم منذ 67 عامًا، في مجلّة Nature المرموقة، أحد أكثر المقالات شهرة في تاريخ العلوم الحديثة بشكل عامّ وعلوم الأحياء بشكل خاصّ. فقد عرض الباحثان جيمس واتسون وفرانسيس كريك في مقالهما الريادي بعنوان A Structure for Deoxyribose Nucleic Acid (بنية الحمض النّوويّ الريبوزي المنقوص الأكسجين) نموذجًا لمبنى جزيء الـ DNA. وقد تبيّن أنّ هذا النّموذج صحيح ودقيق، وهو يخدم علماء الأحياء منذ أكثر من ستّة عقود. هذا المقال القصير المكوّن من صفحة واحدة فقط، والّذي يشمل رسمًا توضيحيًّا واحدًا - تخطيطًا لنموذج الـ DNA رسمته زوجة كريك يدويًّا- هو نتاج أبحاث ماراثونية عابرة للقارّات وملخّص لمجهود فكريّ عظيم، بالإضافة إلى مضامين تكاد تنتهك القوانين الأخلاقيّة العلميّة. تتضمن القصّة الكامنة وراء المقال طموحًا لا ينضب، غيرة بين العلماء، ذكوريّة متطرفة، اضطهادا سياسيّا في الولايات المتّحدة في الخمسينات، وحتى بعض اللاسامية. يمثل هذا المقال كلّ ما هو جميل - وقبيح - في مجال العلوم.
سلّم ملولب
وفقًا للنّموذج الّذي عرضه واتسون (Watson) وكريك (Crick)، لجزيء الـ DNA ثلاثة مركّبات: جزيء السّكر (Deoxyribose)، أيونات الفوسفور (Phosphate)، وأحد الأنواع الأربعة لقواعد النيوكليوتيدات (nucleotide bases): بيورينَين (purins) - الأدينين والجوانين، وبيريميدينَين (pyrmidins) - الثّايمين والسّيتوزين. بحسب نموذج واتسون وكريك، فإنّ مبنى الـ DNA شبيه بسلّم لولبيّ يتكوّن من سلسلتين. يتكوّن الطرفان الجانبيان للسّلّم من وحدات متكرّرة من السّكّر والفوسفات، وأمّا "الدّرجات" فمن قواعد النيوكليوتيدات، الّتي ترتبط ببعضها بشكل منتظم وقويّ: يرتبط الأدينين دائمًا بالثّايمين، والجوانين دائمًا بالسّيتوزين. يلتفّ الجانبان حول محورهما، وفي كل عشرة أزواج من القواعد يكمل السلم دورة بمقدار 360 درجة.
تمّ إثبات نموذج واتسون وكريك في الآلاف من الأبحاث. ونظرًا للسّرعة الهائلة الّتي يتقدّم بها العلم، فإنّ الاكتشاف الّذي يصمد أكثر من 60 عامًا دون إثارة أيّ شكوك حوله يعتبر مثيرًا للإعجاب. ساهم هذا النّموذج في فهم كيف يشفَّر الـ DNA المعلومات، كيف يتضاعف، وكيف يمكن تغيير التّسلسل الوراثيّ عبر التّلاعبات المختلفة. للنموذج تطبيقات عديدة: في مجالات الهندسة الوراثيّة، أبحاث الأمراض وعلاجها، تحديد تسلسل الجينوم البشريّ، الأبحاث الوراثيّة، واليوم في المجال الجديد: العلاج الجينيّ. إنه بلا شكّ أحد أعظم الإنجازات العِلمية في القرن العشرين، وحتّى في تاريخ العِلم كلّه. كما سنرى، قام واتسون وكريك بتجميع أفكار عرضها علماء آخرون، وقد كان نموذجهما نتاج دمج هذه الأفكار معًا. وكما سنوضح، وصل بعض هذه الأفكار إليهما بطرائق غير نزيهة أحيانًا.
اكتشاف عبقريّ. فرانسيس كريك. في الأعلى: جيمس واتسون | الصّورتان: ويكيبيديا
منافسة قويّة
بدأت القصّة عام 1951 مع عالِمَين تشاركا نفس الغرفة في مختبَر كافندش (Cavendish) الشّهير في كامبريدج: واتسون، عالِم الأحياء الشّابّ اللامع الّذي كان عمره 23 عامًا فقط، وكريك، خبير البلورات الّذي يكبره بـ 12 عامًا. أثار اهتمامَ كليهما مبنى جزيء الـ DNA. لم يكن هذا الموضوع ذا شعبيّة في ذلك الحين، وكانت البروتينات مركز اهتمام الباحثين. حتّى أوائل الخمسينات، كان بين علماء الأحياء إجماع أنّ البروتينات هي الّتي تنقل المعلومات الوراثيّة. وعندما بدأت تتكون أدلّة على أنّ المادّة الوراثيّة هي جزيء الـ DNA، حاول واتسون وكريك تحليل مبنى الجزيء، لفهم كيف يمكن أن ينقل المعلومات عبر الأجيال.
لم يكن واتسون وكريك الوحيدَين في مجال البحث هذا، فقد سعى باحثون من مؤسّستَين متنافستين إلى تحليل مبنى الجزيء أيضًا. وبين المنافسين الأوائل كان الكيميائيّ البارز لينوس باولينغ (Pauling)، الّذي عمل في كاليفورنيا وفاز في وقت لاحق بجائزَتَي نوبل (عام 1954 في الكيمياء وعام 1962 للسّلام) وزميله في البحث روبرت كوري (Corey). كان لمختبر كافندش "حساب" مع باولينغ، لأنّه "سرق" من المختبر أحد الاكتشافات حول مبنى معيّن للبروتينات. ادّعى باولينغ وكوري أنّ الـ DNA مبنيّ من ثلاث جدائل، لا اثنتين. وبسبب مواقفه السّياسيّة، خصوصًا اعتراضه على السّلاح النّوويّ، كان باولينغ من ضحايا الاضطهاد السّياسيّ خلال الحرب التي قادها بلا هوادة عضو مجلس الشيوخ جو مكارثي ضدّ الشّيوعيّة. لم يحصل باولينغ على جواز سفر، ولم يتمكّن من حضور المؤتمرات العلميّة خارج الولايات المتّحدة. وهناك من يدّعي أنّه لو لم تضيّق السّلطات عليه وتُعِق عمله، لكان قد اكتشف المبنى المزدوج للـ DNA قبل واتسون وكريك. فقد كانا يعلمان أنّ باولينغ سرعان ما سيدرك أنّ نموذجه خاطئ.
أمّا المنافسان الرّئيسيّان لواتسون وكريك فكانا من إنجلترا، وتحديدًا في كلية الملك (King's College) في لندن، حيث عمل باحث البلورات موريس ويلكنز (Wilkins) والباحثة اليهوديّة الشابة النّشيطة روزاليند فرانكلين (Franklin). كانت العلاقة بين الاثنين سيّئة جدًّا. اعتقد ويلكنز أنّه مدير فرانكلين، بينما اعتبرت فرانكلين نفسها باحثة مستقلّة. وكونها امرأة - ويهوديّة أيضًا - ألحق الضّرر بها من حيث مكانتها بين العلماء. توصلت فرانكلين، خبيرة البلورات، إلى ثلاثة اكتشافات مهمّة حول مبنى الـ DNA: وجود جزيئات الفوسفات في الجانب الخارجيّ للجزيء (ألقت محاضرة حول ذلك في King's College عام 1951، في ندوة كان واتسون حاضرًا فيها)، تمييز المبنى المتناظر للجزيء، وتصوير حيود الأشعّة السينية من بلّورة للجزيء في أيّار 1952. أدّت بيئة العمل العدائيّة إلى تخلّي فرانكلين عن أبحاثها في مجال الـ DNA في أوائل عام 1953 وقد كتبت مقالًا حول هذا الموضوع، وبدأت بالتّركيز على مجالات بحث أخرى. سلّمت فرانكلين معظم المعطيات الّتي جمعتها عن الـ DNA إلى زميلها المكروه ويلكنز، بما في ذلك الصورة الّتي أُطلق عليها اسم "الصورة 51".
نموذج واتسون وكريك في متحف لندن الوطنيّ | الصّورة من ويكيبيديا
طرق ملتوية
لم تتواصل فرانكلين بشكل كافٍ مع واتسون عندما قدم لزيارة كينجز كوليدج، لذلك كان حديثه بالأساس مع ويلكنز. فاجأ ويلكنز واتسون عندما عرض عليه "الصّورة 51" دون موافقة فرانكلين أو علمها. وعندما رأى واتسون المذهول الصّورة، أدرك أنّ مبنى الـ DNA لا بدّ أن يكون لولبًا مزدوجًا. بالإضافة إلى ذلك، سُرّب لكريك تقرير كتبته فرانكلين بشأن التّقدّم الّذي أحرزته في بحثها لصالح صندوق الأبحاث الّذي قام بتمويل منحتها. فهم واتسون من خلال هذا التّقرير أنّ السّلسلتَين في اللّولب تنتظمان في اتّجاهين متعاكسين. توفيّت فرانكلين جرّاء مرض السّرطان في عام 1958، دون أن تعلم بتسريب بياناتها.
كان واتسون وكريك مُنظِّرَين علميَّين، ولم يُعنَيا بالتجارب. خلال شهر آذار عام 1953، أجريا نقاشات مكثّفة حول مبنى الجزيء، وبنيا في نهاية المطاف نموذجًا جديدًا يدمج أفكارا اكتشفها علماء أجروا التّجارب: رؤى باولينغ، تقارير فرانكلين المسرّبة، واكتشاف إروين تشارغاف (Chargaff) أنّ النّسبة بين كميّة الأدينين والثايمين والنسبة بين كمية الجوانين والسيتوزين هما دائمًا 1:1 (اكتشاف لم يبدُ مهمًّا آنذاك). وقد طوّر واتسون وكريك النّموذج من خلال بناء نموذج للجزيء مكوّن من قطع كرتون بسيطة تمثّل وحدات بناء الجزيء.
في نفس العدد من مجلّة Nature، نُشِرت ثلاثة مقالات، الواحد تلو الآخر. الأوّل هو مقال واتسون وكريك الشّهير. الثاني نشره ويلكنز، فيما نشرت فرانكلين المقال الثّالث. هذا النّشر الثّلاثيّ هو نتاج المنافسة الشّديدة بين الباحثين، الّذين قدّموا للمجلّة في نفس الوقت مقالات تتناول نفس الموضوع. اختتم واتسون وكريك مقالهما التّاريخيّ بكلمات شكر: "لقد استمددنا الدّعم والتّشجيع من معرفتنا لنتائج لم تُنشر، ومن أفكار الدكتور ويلكنز، الدكتورة فرانكلين، ومساعديهما في كينجز كوليدج بلندن". اعترف واتسون حينما كتب سيرته الذّاتيّة (في سنّ 40 فقط!) أنّه رأى الصّورة 51، التي ساهمت كثيرًا في بناء النّموذج. على الرّغم من ذلك، لم تحظَ مساهمة فرانكلين بالتّقدير الذي تستحقه في ذاك الوقت. وكما أسلفنا، توفّيت فرانكلين قبل الأوان، ومُنحت جائزة نوبل على هذا الاكتشاف عام 1962، بعد أربع سنوات من وفاتها، لواتسون، كريك، وموريس ويلكنز (لا تَمنح الجائزة لشخص بعد وفاته).
رغم عدم احترام الأخلاقيّات العلميّة (بعبارة ملطّفة) لـدى واتسون وكريك، ورغم أنّنا ذكرنا آنفا أنّ ما فعلاه لم يتعدّ استخدام أفكار علماء آخرين، ما حدا بالبعض إلى نعتهما بالاحتيال، لا يمكننا الاستهانة بالأهميّة الفائقة لاكتشافهما وبعبقريّتهما. توفرت لدى فرانكلين جميع المعطيات، لكنّها لم تربط بينها حينذاك، ولم يقم الباحثون الآخرون بذلك أيضًا. قد استعان واتسون وكريك بعملها دون موافقتها، لكنّهما لم يسرقا فكرة النّموذج منها. فقد أدّى الخيال، الجرأة -وفي بعض الأحيان الوقاحة-، بعد الرؤية والرؤى، واتباع مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" لدى العالِمَين إلى توصلّهما للإجابة.
التدقيق اللغوي: أ. موسى جبران
الإشراف والتدقيق العلمي: رقيّة صبّاح أبودعابس