مضت 323 سنة على ميلاد أندرس سلسيوس، المسؤول عن طريقة قياس درجة الحرارة- لكن بشكل معاكس تمامًا لِما قصده أصلًا
ولد أندرس سلسيوس (Celsius) في السّابع والعشرين من تشرين الثّاني/ نوفمبر سنة 1701 في مدينة أوبسالا السّويديّة الّتي تبعد حوالي سبعين كيلومترًا عن العاصمة ستوكهولم، وهو سليل عائلة من العلماء، ونشأ كعالم كبير بحدّ ذاته. يعرِف اليوم كلّ شخصٍ في البلاد وفي غالبيّة بلدان العالم اسمه، وذلك بفضل سلّم قياس درجات الحرارة، المشهور والمفيد الّذي طوّره. يعلم قليل من هؤلاء أنّ سلسيوس لم يكن على علم بالسُّلّم المنسوب إليه اليوم، إذ أنّه ابتكر سُلّمًا شبيهًا إلّا أنّه معاكس: حدّدَ درجة الصِّفر كَدرجة غليان الماء ودرجة 100 كدرجة تجمّد الماء. تنخفض القيمة العدديّة للدّرجات، وفقًا لذلك، مع ارتفاع درجة الحرارة.
وُلد أندرس سلسيوس في السّابع والعشرين من تشرين الثّاني/ نوفمبر سنة 1707 | ويكيميديا, Olof Arenius
ُشُقّت الطّريق أمام أندرس نحو مسيرته العلميّة في شبابه، كونه ابن فلكيّ وحفيد جدَّيْن ضالعَيْن في مجالات العلوم الرِّياضيّة والفلكيّة. برزت مهاراته الرِّياضيّة الفائقة في صباه، وتعلّم علوم الفلك والرِّياضيّات والفيزياء في جامعة أوبسالا عند بلوغه، وتمّ انتخابه سكرتيرًا لِرابطتها العِلميّة. اقتدى بوالده عند بلوغه تسعة وعشرين عامًا، إذ تمّ تعيينه معلّمًا وباحثًا في العلوم الفلكيّة في الجامعة ذاتها. انطلق بعد ذلك بعاميْن في رحلة استغرقت أربع سنوات، زار خلالها أبرز مراصد النّجوم في أوروبا وأهمّها، وعمل إلى جانب كبار فلكيّي عصره.
بحث سلسيوس في هذه الفترة في ظاهرة شفق الشّمال أو الشّفق القطبيّ. لاحظ سلسيوس خلال المشاهدات الكثيرة الّتي أجراها بمعِيّة مساعده أولوف هيورتر (Hiorter) وجود نمطٍ غير اعتياديّ، حيث تعاظم اختلال بوصلته كلّما اشتدّت حِدّة الشّفق في السّماء، ولم تستقرّ إبرتها في موضعٍ معيّن. استنتج سلسيوس أنّ ظاهرة شفق الشّمال مرتبطة بشدّةِ حقل الكرة الأرضيّة المغناطيسيّ. نحن نعرف اليوم أنّ سلسيوس كان مُحِقًّا، إذ يتكوّن الشّفق القطبيّ عندما تصل الجُسيمات المشحونة كهربائيًّا من الرّياح الشّمسيّة بسرعة عالية إلى الكرة الأرضيّة. تتأثّر الجُسيْمات المشحونة كهربائيًّا بالحقل المغناطيسيّ، ممّا يجعل الحقل المغناطيسيّ للكرة الأرضيّة يوجّهها نحو الأقطاب المغناطيسيّة: القطب الشّماليّ والقطب الجنوبيّ.
بَحَث سلسيوس في ظاهرة شفق الشّمال أو الشّفق القطبيّ واستنتج أنّ الظّاهرة مرتبطة بشدّة حقل الكرة الأرضيّة المغناطيسيّ. الشفق القطبيّ فوق كنيسة في آيسلندا | Shutterstock, Sphototop
ما بين السّماء والأرض
نرى أنّه من الطّبيعيّ أن يوجّه علماء الفلك اليوم أنظارهم إلى السّماء، بعيدًا عن الكرة الأرضيّة. اختلفت الأمور في القرن الثّامن عشر، إذ انشغل الكثير من الفلكيّين أيضا وبشكل عاديّ للغاية بالقياسات الجغرافيّة ومشاهدة الأرصاد الجوّيّة. ذلك ما فعله سيلسيوس هو الآخر بعد عودته من جولته في مراصد النّجوم الأوروبيّة، إذ انضمّ إلى البعثة البحثيّة بقيادة الفلكيّ الفرنسيّ بيير لويس موفيرتو (Maupertuis) إلى لابلاند، شمال السُّويد، سنة 1736.
كان هدف البعثة تحديد شكل الكرة الأرضيّة بالاستعانة بالقياسات الّتي تُجرى عليها- أي الفصل فيما إذا كانت الأرض هي كرة متكاملة مثاليّة. أجرت البعثة قياساتها بالقرب من القطب الشّماليّ، ثمّ قورنت المُعطيات الّتي تمّ جمعها مع معطيات جمعتها بعثة أخرى كانت قد أجرَت قياسات مشابهة في الإكوادور، بالقرب من خطّ الاستواء. توصّل الباحثون، بعد ما يقارب سنة من القياسات الّتي أُجريت في ظروف من البرد القارس السّائد في الدّائرة القطبيّة الشّماليّة، والّذي يخرُّ عظام الجسد، إلى أنّ الأرض ليست كرة مثاليّة، مصادقين بذلك على ما كان آيزيك نيوتن قد أقرّه، بأنّ الكرة الأرضيّة أكثر تسطّحًّا عند القطبيْن، وأنّها بيضاويّة الشّكل.
انضمّ سيلسيوس إلى البعثة البحثيّة بقيادة عالِم الفلك الفرنسيّ بيير لويس موفيرتو إلى لابلاند من أجل تحديد شكل الأرض. البعثة وعتادها خلال إجرائها القياسات | Sheila Terry / Science Photo Library
استغلّ سيلسيوس الشُّهرة والمكانة العالية الّتي حاز عليها بسبب مشاركته في البعثة في إقناع الحكومة بإقامة مرصد نجوم حديث في أوبسالا. شُيّد مرصد النّجوم فعلًا خلال خمس سنوات، وزوّده سيلسيوس بالأجهزة الحديثة الّتي كان قد ابتاعها خلال رحلاته.
أجرى سيلسيوس على مرّ السّنين الكثير من المشاهدات على الأجرام السّماويّة. طوّر سيلسيوس طريقة ضوئيّة لقياس شدّة أضواء النّجوم، ودأب على جدولة البيانات المتعلّقة بالمئات من النّجوم بعناية بالغة. استعان سيلسيوس بألواح زجاجيّة شفّافة متطابقة لقياس شِدّة الضّوء. راقب النّجم عن طريق هذه الألواح، وقارن شدّة أضواء النّجوم بناءً على عدد الألواح الزّجاجيّة الّتي لزمت لحجب ضوئها بشكلٍ تامٍّ . احتاج، على سبيل المثال، لخمسة وعشرين لوحًا زجاجيًّا لإخماد ضوء نجم الشِّعرى اليمانيّة (سيريوس)، وهو النّجم الأشدّ سطوعًا في سماء اللّيل.
شُيِّدَ مرصد النّجوم سنة 1741 في أوبسالا، وأمدّه سيلسيوس بالأجهزة الّتي كان قد ابتاعها خلال رحلاته. يظهر منزل سيلسيوس في الرّسم أعلاه، يعتلي مرصد النّجوم سقفه | ويكيميديا, JavierMC
من السّاخن الى البارد
انشغل جميع سكّان أوبسالا في عيد الميلاد سنة 1741 بفتح الهدايا حول المواقد المشتعلةومشاهدة الثّلوج المتراكمة في الشّوارع. جميعهم، عدا سلسيوس. أجرى سلسيوس في تلك الأمسية الاحتفاليّة مشاهدته الأولى بالاستعانة بمقياس درجة الحرارة الجديد الّذي ابتكره أثناء مشاهدته للأرصاد الجوّيّة.
اختار سلسيوس نقطتين مرجعيّتيْن سهلتيْ القِياس لِمقياس درجة الحرارة الّذي ابتكره- هما درجة غليان الماء، الّتي يتحوّل فيها السّائل إلى الحالة الغازيّة، أي إلى بخارٍ ساخن، ودرجة تجمّد الماء، الّتي يتحوّل فيها الماء السّائل إلى الحالة الصّلبة، أي الجليد. قاس سلسيوس هاتيْن النّقطتيّن بواسطة مقياس حرارة زئبقيّ، ثمّ حدّد لهما القيمتيْن 0 وَ 100، ثمّ قسّمَ المجال بينهما إلى أجزاء متساوية محدِّدًا بذلك مقدار الدّرجة الواحدة. لم يكن الاختيار صدفةً- بحث سلسيوس عن النّقاط المرجعيّة الأكثر طبيعيّة وتجانسًا قدر الإمكان. صحيح أنّ درجة حرارة الغليان تتعلّق بالضّغط الواقع على المادّة (الضّغط الجوّيّ)، إلّا أنّها تبقى ثابتة بمستوى سطح البحر، وقد تتغيّر تغيّرًا طفيفًا لا تستطيع أجهزة قياس ذلك الزّمان تمييزه. أشارت درجة الصّفر (0) على سُلّم سلزيوس الأصليّ إلى درجة حرارة غليان الماء، وأشارت درجة مئة (100) إلى درجة حرارة تجمّد الماء. ليس هذا خطأً. اعتقد سلزيوس أنّ هذه هي الطّريقة الأسهل، لأنّ الطّقس في فصل الشّتاء السُّويديّ بارد جدًّا، ففضّل الامتناع عن التّعامل مع درجات ذات قيم سالبة.
أجرى سلسيوس مشاهدته الأولى في عيد الميلاد بالاستعانة بمقياس درجة الحرارة الجديد الّذي ابتكره. يظهر في الصّورة مقياس سلزيوس الأصليّ لدرجة الحرارة، في أوبسالا | Scandinavie 2012, CC BY-NC-SA 2.0, flickr
استُخدِمت في تلك الفترة سلالم كثيرة لقياس درجة الحرارة، اعتمد كلّ سُلّم منها على نقاط مرجعيّة أخرى وعلى وحدات قياس مختلفة. أشارت درجة الصّفر (0) على سُلّم رومير، مثلًا، إلى درجة حرارة تجمّد الماء، لكنّ درجة غليان الماء على هذا السُّلّم هي ثمانون (80) درجة. أمّا سُلّم فهرنهايت، الّذي ما زال مستخدمًا في أيامنا، فقد حُدّدت له نقطتا مرجِعيّة: تشير النّقطة المرجعيّة الأولى، وهي صفر (0) درجة فهرنهايت، إلى درجة حرارة انصهار خليط من الملح والجليد بنسبة 1 إلى 1 من حيث الكمّيّة، وتشير النّقطة المرجعيّة الثّانية، الّتي حُدِّدت لها في بادئ الأمر القيمة تسعون (90) ثمّ تغيّرت إلى ستّ وتسعين (96) لاحقًا، إلى درجة حرارة جسم الإنسان المعافى. كان تقدير فهرنهايت لِدرجة حرارة جسم الإنسان بعيدًا عن الواقع، إذ تُقدّر اليوم بثماني وتسعين وسِتّة أعشار (98.6) درجات فهرنهايت- وهي توازي سبعًا وثلاثين (37) درجة مئويّة.
صعّبَ تعدّد سلالم قياس درجات الحرارة في تلك الفترة من المقارنة بين القياسات المختلفة نظرًا لتباين هذه السلالم وافتقارها للتّجانس. احتلّ سُلّم سلسيوس الصّدارة بشكلٍ تدريجيّ في غالبيّة الأماكن في العالم، وذلك لبساطته وسهولة استخدامه بالمقارنة مع السّلالم الأخرى. ساهمت تجزئة مجال القياس بين نقطتيْن إلى مائة جزء (درجة) -وهو رقم يسهُل استخدامه في الطّريقة العشريّة-، وكذلك استخدام خواصّ الماء الأساسيّة- المورد المتوفِّر والرّخيص، في رواج سُلّم سلسيوس.
يُستخدم اليوم سُلّم سلسيوس بالشّكل المعاكس لما اختاره سلسيوس أصلًا- يشير الصّفر إلى درجة حرارة تجمّد الماء وتشير المائة إلى درجة حرارة غليان الماء. بادر عالِم النّباتات السُّويديّ كارولوس لينيوس (Linnaeus)، بعد وفاة أندرس ووفقًا للتّوثيق المتوفّر، إلى استخدام الصّورة المعكوسة للسُّلّم لِتوثيق درجة الحرارة داخل دفيئتِه، فكان بذلك من أوائل من استخدَموه.
لم يُسمّى السُّلّم على اسم سلسيوس فور ابتكاره. درجت تسمية السُّلّم بـِ "السُّلّم المئويّ، أو سلّم المائة درجة" (Centigrade) خلال ما يقارب مائتي سنة تلت ابتكاره. نجَمت مشكلة معيّنة عن هذه التّسمية، لأنّ بعض اللّغات الأوروبيّة، مثل الإسبانيّة والفرنسيّة، تستخدم كلمةً مشابهةً تعني وحدة قياس الزّوايا. قرّرت اللّجنة الدّوليّة للأوزان والمقاييس سنة 1948 تسمية سُلّم درجات الحرارة سُلّم "سلسيوس" والإشارة إلى كلّ درجة بـِ C°. يُستخدم في العلوم اليوم سُلّم كِلفن، الّذي يعتمد على سُلّم سلسيوس لكنّه يبدأ بالصفر المطلق، بحيث تكون درجة حرارة تجمّد الماء 273.15 درجة بسلّم كلفن مقابل صفر سلسيوس. يُُجنّبنا سُلّم كِلفن استخدام الدّرجات السّالبة قطعًا.
مقياس سلسيوس، أوّل مقياس لدرجة الحرارة:
لم يحظَ أندرس سلسيوس بمشاهدة نجاح السُّلّم الّذي ابتكره. تُوفّي سلسيوس من مرض السِّلّ سنة 1742 ولم يتعدّ عمره اثنين وأربعين عامًا. تمّ دفنه بجانب قبر جدّه، ماغنوس سلسيوس، في الكنيسة في أوبسالا، المدينة الّتي وُلد وَعاش فيها.