ساهم أبو الريحان البيروني من خلال ترحالاته العديدة وترجماته الثرية إسهامًا لا يقدّر بثمن للمعرفة البشرية وبحث الكون والجغرافيا وحتّى أنه تمكّن بمهارة ودقّة فائقة من قياس محيط الكرة الأرضية.
وُلد شخصٌ خبيرٌ ضليعٌ عالِمٌ فذٌّ تحدّى طرق البحث الّتي اعتمدها مثقفو وعلماء عصره في إقليم خوارزم الواقع بين ما يعرف اليوم بتركمانستان وأوزبكستان. لقد طوّرَ أبو الريحان البيرونيّ أساليب لدراسة السّماء والأرض غايةً في الدّقة والأناقة، وقام في الوقت ذاته بالتّوثيق الأنثروبولوجيّ واللّاهوتيّ واللّغويّ للقطاعات السّكّانيّة الّتي التقى بها في رحلاته وسط آسيا وغربها خلال عصر الإمبراطوريّة الإسلاميّة.
من مكّة حتّى النّجوم
اتّسعت رقعة وعظمة الإمبراطوريّة الإسلاميّة الفتيّة بعد وفاة النّبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم عام 623 للميلاد بسرعة كبيرة في أرجاء العالم. نشأت الإمبراطوريّة الإسلاميّة على خلفيّة تدنّي قوّة الإمبراطوريّة البيزنطيّة في الغرب والسّاسانية في الشّرق، وذلك بعد سنين طويلة دامية من الحروب بينهما. نشأت قوّة الخلفاء الأمويّين في خطّ التماس ما بين الإمبراطوريّتين الآخذتين في الاندثار. استولى الخلفاء الأمويّون خلال فترة قصيرة على مساحات شاسعة امتدّت من وسط آسيا إلى إسبانيا.
ورث الخلفاء العبّاسيّون الخلافة الأمويّة في القرن الثّامن الميلاديّ بعد مناهضة مكانتها، والحرب الّتي دارت بين السّلالتين واستولوا على الإمبراطورية الإسلاميّة ما عدا اسبانيا وشمال غرب إفريقيا. أسّس خلفاء بني العبّاس مدينة بغداد الّتي نمت وتحوّلت إلى أكبر مقاطعة مدنيّة في العالم. أقيم بيت الحكمة في المدينة وأصبح أحد رموز العصر الذّهبيّ للإمبراطوريّة الإسلاميّة. ترجم المثقّفون العرب مؤلّفات وكتابات علميّة يونانيّة وهنديّة وفارسيّة وغيرها إلى لغتهم العربيّة واحتفظوا بها في مكتبة بغداد. كان بيت الحكمة مركزًا نابضًا بالدّراسات الحديثة، ونشأ فيه المخترعون المرموقون أمثال الخوارزميّ الّذي يُعدّ مؤسّس علم الجبر.
عوضًا عن ترجمة المؤلّفات والكتابات المختلفة إلى العربيّة، انصرف علماء الإمبراطوريّة الإسلاميّة ومثقّفوها إلى تصحيح المؤلّفات والكتابات الرّياضيّة التّقليديّة وتنقيحها ومناقشتها، مثل كتابات أرسطو وتلماي. حظيت الكتابات الّتي اختصّت بعلم الفلك والتّنجيم في تلك الفترة بشعبيّة كبيرة؛ لأنّها ساهمت في اكتشافات جغرافيّة ذات أهمّيّة بالغة بالنّسبة للإمبراطوريّة الإسلاميّة مترامية الأطراف.
أخذت قوّة الخلافة العبّاسيّة في وسط آسيا في التّضعضع مع نهاية القرن العاشر الميلاديّ، ذلك على الرّغم من ازدهارها العلميّ. سيطر العبّاسيّون ظاهريًّا فقط على مساحات شاسعة في هذه المنطقة؛ إلّا أنّ الحكم الفعليّ فيها كان من حكّام محلّيّين أداروا وسيّروا شؤونها. احتفظ أصحاب النّفوذ هؤلاء بالحركة الثّقافيّة الّتي جلبتها الإمبراطوريّة ورأَوْا في كادر العلماء رمزًا للمكانة وشهادة على عظمة سلالتهم.
وُلد محمّد بن أحمد البيرونيّ المعروف بالبيرونيّ في أواخر القرن العاشر الميلاديّ (973 - 1048 للميلاد) في مدينة كاث الواقعة في الجانب الشّماليّ الشّرقيّ من الإمبراطوريّة الإسلاميّة (جنوب ما يعرف اليوم بأوزبكستان).
البيروني على طابع بريدي صدر في الاتحاد السوفيتي بمناسبة مرور ألف عام على ولادته| المصدر: Jim Pruitt، Shutterstock
أبحَرَ في شتّى المجالات العلميّة
عانت المنطقة في هذه الفترة من عدم الاستقرار السّياسيّ والصّراعات المتكرّرة على السّلطة بين إمبراطوريّات وممالك فارسيّة محلّيّة. وصلت، على الرّغم من ذلك، تحوّلات العصر الذّهبيّ للإمبراطوريّة الإسلاميّة إلى عتبة البيرونيّ الشّابّ. تعلّم الصّبيّ الشّابّ من الكتابات اليُونانيّة المترجمة علوم الهندسة الإقليديّة ونظريّات علم الفلك التّلمائيّة وسرعان ما برز في هذه المجالات. اضطر البيرونيّ إلى النّزوح من المدينة الّتي وُلد فيها عندما بلغ الثّانية والعشرين بعدما تحولت إلى ساحة قتال مع اندلاع الحرب الأهليّة المحلّيّة؛ إذ استولت سلالة الحكام الإيرانيّين المامونيان على تلك المنطقة.
توالت تنقّلات البيرونيّ خلال حياته في أرجاء وسط آسيا وغربها سعيًا وراء الرّاعي والنّصير تارةً، وهربًا من الحروب الّتي نشبت في المنطقة تارةً أخرى وبحثًا عن العمل لدى الحكام أحيانًا. أتاحت تنقّلات ورحلات البيرونيّ هذه، رغم صعوبتها، المجال لجمع القياسات والمؤشّرات الجغرافيّة المختلفة والتّعرّف على ثقافات جديدة.
كان أحد أول الأعمال المهمّة للبيرونيّ كتابه: الآثار الباقية عن القرون الخالية أو ما يُسمّى بـِ"التّسلسل الزّمنيّ للأمم القديمة" الّذي وصف فيه البيرونيّ ابن الثلاثين عامًا التّقويم السّنويّ والثّقافات البوذيّة واليهوديّة والنّصرانيّة والإسلاميّة والمانويّة (أو المنانية) وثقافات أخرى غيرها. يدّعي بعض المؤرّخين أنّ البيرونيّ كان شديد الحرص في البحث عن الدّقّة في التّسلسل الزّمنيّ في تقويم الأمم المختلفة واستحوذ عليه ذلك كثيرًا؛ فقام بمقارنة الفرضيّات الرّياضيّة والجغرافيّة الأساسيّة الّتي وضعت على أساسها المناسبات والأعياد في الثّقافات العريقة في المناطق الجغرافيّة المختلفة.
أدّى اهتمامُ البيرونيّ في علم الإنسان (الأنتروبولوجيا) إلى تأليف الكتاب التّحفة بالغ الدّقّة: كتاب الهند (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة أو مرذولة) الّذي يرى فيه الكثير نشأة الهنديّات أو علوم الهند. وثق البيرونيّ انطباعاته عن الهند حينما رافق بعثة احتلال فارسيّة أتت بالدّمار، حسب وصفه، على أرض شمال الهند، ولم يمنعه ذلك من وصف الثّقافة الهنديّة الكبيرة في كتاب الهند. احتلّ السّلطان محمود الغزنويّ، أوّل حكام السّلالة الغزنويّة قبل ذاك الوقت بقليل، سنة 1017، تلك المنطقة. اتّسع نفوذ الغزنويّ من شمال غرب إيران إلى إقليم البنجاب الهنديّ.
أصبح البيرونيّ آنذاك عارفًا مرموقًا بمهاراته البارزة في التّنجيم والجغرافيا، وعُيّن منجّمًا ملكيًّا وكُلّفَ بالمشاركة في حملات الغزنويّ وفتوحاته. وصف البيرونيّ في كتابه النّظام الطّبقيّ المحليّ بالتّفصيل، ووصف الزّيّ الّذي تميّزت به الطّقوس المختلفة ووصف الجغرافيا وعلم الفلك المتبعة في التّقويم السّنويّ الهنديّ. كان لديه المتّسع من الوقت، خلال رحلاته، لتعلّم السّنسكريتيّة الّتي أصبحت لغة إضافيّة ترجم منها المؤلّفات العلميّة.
الدراسات الأنثروبولوجية والعلمية. كتابات البيروني الفلكية | المصدر: Sputnik / Science Photo Library
اعرف نفسك واعرف المقياس
مع اتّساع رقعة الإمبراطوريّة الإسلاميّة لتشمل مساحات شاسعة ازدادت الحاجة إلى رسم الخرائط وتطوير أدوات الملاحة المتقدّمة وملاءمة التّقويم الإسلاميّ في المناطق الزمنيّة المختلفة وتحديد "القِبلة" - وجهة صلاة المسلمين نحو مكّة المكرّمة. اعتمدت هذه الأمور على الإحداثيّات الجغرافيّة؛ فأصبحت هذه الضّروريّات السّياسيّة الدّوليّة والدينيّة مهنةً عمِل فيها المنجّمون والرّياضيّون.
طوّر البيرونيّ بنفسه، بالاعتماد على درايته المتعمّقة بالكتابات متعدّدة الثّقافات، طرقًا وأدوات بحثيّة مكّنته، من ضمن أمور أخرى، من إعداد خريطة السّمت الأولى للبلاد. احتوت هذه الخريطة على الأماكن الدّقيقة للمدن المختلفة في الشّرق الأوسط والهند (يمكنكم القراءة عن خطوط العرض والطّول في موقع معهد دافيدسون). لعلّ المثال الأكثر شهرةً لطريقة القياس الّتي أوجدها البيرونيّ هي تلك الّتي مكّنته من حساب محيط الكرة الأرضيّة بواسطة أربعة من المعطيات فقط، والاعتماد على دوال الجيوب وقاعدة فيثاغورس.
الأسطرلاب النحاسي في العصور الوسطى: تطوير إسلامي أصلي استخدمه البيروني في حساب حجم الأرض | المصدر: David Parker / Science Photo Library
عندما يلتقي المثلّث الدّائرة
يجب، حسب طريقة البيرونيّ، أوّلًا قياس ارتفاع الجبل، أيَّ جبلٍ كان ما دام ليس منخفضًا جدًّا. يجب، من أجل ذلك، اختيار نقطتين أو علامتين بمستوى سطح البحر وقياس المسافة بينهما. ننظر إلى قمة الجبل من كلّ نقطة من النّقطتين، ونمدّ خطًّا وهميًّا بيننا وبين قمّة الجبل. يمكن قياس الزّاوية المتكوّنة بين سطح البحر وبين الجبل بواسطة الأداة المسمّاة بالأسطرلاب - وهي عبارة عن لوحة دائريّة تمّت معايرتها بالدّرجات ولها عقربٌ (مُؤشِّر) مركزيّ واحد طورّه علماء الإمبراطوريّة بما فيهم البيرونيّ نفسه. تظهر على الأسطرلاب درجات الزّاوية النّاتجة عندما يشير العقرب إلى قمّة الجبل. تمكّن البرونيّ من إيجاد ارتفاع الجبل بالاستعانة بدوال الجيوب الّتي تُبيّن العلاقة بين زوايا المثلّث وبين أطوال أضلاعه (التفسير الرياضي الوافي باللغة الإنجليزية)
حسابات البيروني: قياس وحساب ارتفاع الجبل (يمين) وحساب نصف القطر بالزاوية بين الجبل والأفق (يسار) | الرسوم التوضيحية: ماريا جوروشوفسكي ، شاترستوك
مسك الختام
استقرّ البيرونيّ في آخر أيّام حياته في مدينة غزني قرب أفغانستان اليوم. قضى سنوات حياته في العمل الإبداعيّ الدّؤوب في خدمة خلفاء السّلالة الغزنويّة جنبًا إلى جنب مع المثقّفين والعلماء الآخرين الّذين أرسلهم السّلطان إلى المدينة. لم يعرف تاريخ وفاة البيرونيّ ويقدر أنّه توفّي بين السّنوات 1047 و 1054 للميلاد.
أصدر البيرونيّ في حياته ما يقارب مائة وثلاثة كتب، منها إبداعات تُحفة تُعدُّ نقطة الانطلاق لمجالات جديدة من الدّراسات. صنّف البيروني كتبه إلى ما لا يقل عن 12 فئة منها كتب الفلك، أدوات القياس، التّسلسل الزّمنيّ، اللّاهوت، الرّياضيات، الجغرافيا ومتفرّقات. طوّر البيرونيّ أدوات لقياس الأجسام المختلفة من خلال دمج أفكار أرخميدس كما أصدر في آخر أيّام حياته مؤلّفات في الطّبّ والصّيدلة.
تشهد كتاباته أنّه تنبّأ عام ألف ميلاديّ بوجود قارّةٍ بعيدة في منطقة أمريكا؛ كما أشار في بعض مؤلّفاته، خمسمائة عام قبل عصر كوبرنيكوس، إلى احتمال دوران الأرض حول الشّمس. ليس هناك أدنى شكّ بأنّ ما أنجزه البيرونيّ من أعمال في حياته هو أنشودة كلّها مدح لحبّ الاستطلاع والنّقد العلميّ والصّبو نحو الدّقّة في الأبحاث والدّراسات.