سنتعرّف في هذه التجربة البسيطة على عمليّة التسخين بفرن الميكروويف، ونعرف في أيّ مكان من المستحسن وضع الغذاء وتسخينه، ونَحسب سرعة الضوء
يوصى بتواجد شخص بالغ عند إجراء التجربة
الموادّ والأدوات اللازمة لإجراء التجربة
-
فرن ميكروويف
-
قالبان من الشوكولاتة، أو قطع/ فُتات جبنة صفراء
-
مسطرة
-
آلة حاسبة
مجرى التجربة
يمكنكم مشاهدة مجرى التجربة في الفيديو التالي:
بادئ ذي بدْء - الشوكولاتة
يعود اختراع فرن الميكروويف لحادثة حدثت صدفةً: مرَّ بيرسي سبنسر (Spencer)، وهو أحد العمال في شركة إنتاج التجهيزات العسكريّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، سنة 1945 قُبالة هوائيّة (أنتين) رادار وفي جيب قميصه قطعة من الشوكولاتة، فلاحظ أنّ قطعة الشوكولاتة قد انصهرت فجأةً، تحوّلت إلى الحالة السائلة. طُوّرَ جهاز الرادار (الكاشوف) - Radar، الأحرف الأولى من (RAdio Detection And Ranging)، لِتحديد مكان تواجد الأجسام مثل الطائرات والسفن واتّجاهها، بواسطة إرسال أشعة في الحيز الفراغيّ، ثمّ الكشف عمّا إذا انعكست هذه الأشعّة من أجسام قد تكون اصطدمت بها، ومتى ومن أين بالضبط. أرسلَ جهاز الرادار الذي مرّ سبنسر بجنبه أشعّة من أمواج الميكرو، فافترَض سبنسر أنّ هذه الأشعة هي التي سخّنت قطعة الشوكولاتة وصهرتها، وقد كان محقًّا في هذا الافتراض. أدرك سبنسر أنّ فرصةً كبيرة تكمن في هذا الاكتشاف، تجلّت فيما بعد في تطوير جهاز لِتسخين الغذاء. يجدر الذكر هُنا بأنّ ثاني غذاء سُخِّنَ بأشعة أمواج الميكروويف هو الفشار - الذي ما زال يشكّل أحد الأغذية الأكثر شعبيّة، والتي تُحضّر بواسطة جهاز الميكروويف (البيضة هي الغذاء الثالث، إلّا أنّها تفرقعت). لاقت الفكرة نجاحًا كبيرًا إذ بادرت شركات تصنيع العتاد العسكريّ، كما كان متوقّعًا آخذًا بالاعتبار المكان الذي حصل فيه الاكتشاف، تصنيع أجهزة أفران الميكروويف.
شركات تصنيع العتاد العسكريّ هي أولى الشركات التي صنعت أفران الميكروويف. أوّل فرن ميكروويف تجاريّ، في سفينة "سفانا"، 1947 | flickr, Kelly Michals
كيف يسخّن الجهاز الذي يُولّد أمواج الميكرو (أمواج الرادار) الموادّ؟ قد يبدو الأمر عجيبًا وغريبًا، إلا أنّه ليس مفاجٍئًا لهذه الدرجة، إذ يعتمد عمله على مبدأ شائع نراه دائمًا من حولنا. لا بدّ أنّكم لاحظتم احترار الجسم الذي يُترك معرّضًا للشمس. تتعلّق درجة احتِرار الجسم المكشوف للشمس، كما قد تكونوا لاحظتم أيضًا، بلون هذا الجسم - تسخُن الأجسام غامقة اللون أكثر من الأجسام البيضاء أو الشفّافة عند تعرضها لأشعّة الشمس. تُدهن، لهذا السبب، الألواح الزجاجيّة التي تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من براميل تسخين الماء بأشعّة الشمس باللون الأسود. يمتصّ اللون الأسود الضوء، وهو نوع من الأشعّة الكهرومغناطيسيّة، ويحوّله إى حرارة.
تحدث العمليّة ذاتها، تقريبًا، في فرن الميكروويف: تمتصّ الموادّ الغذائيّة مثل الزيوت والسّكّر، والماء بشكل خاصّ الأشعة التي يُولّدها الميكروويف، وتحوّلها إلى حرارة. يسخن الماء، الذي يُشكّل نسبة معيّنة من كافّة الموادّ الغذائيّة، فتنتقل حرارته إلى سائر أجزاء الغذاء. لا تمتصّ الموادّ البلاستيكيّة، مثلًا، أشعّة أمواج الميكرو - أي أنّها شفّافة لها، لذلك لا تسخن الأواني المصنوعة من البلاستيك في فرن الميكروويف. لماذا نشعر إذًا بسخونة الصحن البلاستيكيّ عند إخراجه من الميكروويف؟ الغذاء الموجود في الصحن هو الذي يسخن وينقل الحرارة إلى الصحن. تزداد سرعة حركة جسيمات المادة التي يتكوّن منها جسم ما عند ارتفاع درجة حرارته. توجد، بشكل عام، ثلاثة أنواع من الحركة التي تتحرّك بها جسيمات المادة: الحركة التذبذبيّة (الارتجاجيّة أو الاهتزازيّة) الموضعيّة، وهي حركة جسيمات المادّة في الحالة التراكميّة الصلبة، والحركة الدورانية التي تكسبها جسيمات المادة في الحالة التراكمية السائلة (جنبًا إلى جنب مع الحركة التذبذبية)، والحركة الانتقاليّة (الإزاحة) - أي انتقال الجُسيم من نقطة إلى أخرى في الفراغ - والتي تُضاف للجسيمات في الحالة التراكميّة الغازيّة. تزداد سرعة دوران الجزيئات - جزيئات الماء خاصّةً - فترتفع درجة حرارة الماء (درجة الحرارة هي مقياس لمعدل الطاقة الحركيّة لجسيمات المادّة). يمكن تمثيل ذلك بشخص يدفع الدوّامة (الكاروسيل) التي تدور بالأولاد من حين لآخر، فتزداد سرعة دورانها.
تعكس الفلزات أمواج الميكرو، عندما تصطدم بها - كما تعكس الفلزات المصقولة الضوء المرئيّ في المرآة. تضمن المادّة الفلزيّة التي يُصنع منها فرن الميكروويف بقاء الأشعّة داخله وعدم خروجها منه.
تمتصّ جزيئات الماء، الذي يشكّل نسبة معيّنة من أيّ مادّة غذائيّة، التي تدور أمواج الميكرو فتزداد سرعة دورانها - أي ترتفع درجة حرارة الماء. رسم توضيحي لعمل فرن الميكروويف | Science Photo Library
الموجة الراكدة (الموقوفة)
أشعّة فرن الميكروويف هي أشعّة كهرومغناطيسيّة تمامًا مثل أنواع أشعة أخرى لا بدّ أن تكونوا قد سمعتم عنها - أمواج الراديو، الأشعّة تحت الحمراء، الأشعّة فوق البنفسجية، أشعّة رونتجن، أشعّة جاما - وأمواج الضوء المرئيّ أيضًا. تتكوّن الأشعة الكهرومغناطيسيّة، ومن ضمنها أشعّة الميكروويف، من أمواج من الحقل الكهربائيّ تتحرّك بسرعة الضوء (تجاهلنا، للتسهيل، الحقل المغناطيسيّ المُعامد للحقل الكهربائيّ والذي يتقدّم معه جنبًا إلى جنب). تتيح لنا الشوكولاتة، لحسن الحظّ، توضيح كينونة الموجات وإجراء القياسات عليها. تنعكس أمواج الميكروويف، كما سبق ذكره أعلاه، عند اصطدامها بجدران الجهاز. يتمّ تصميم أفران الميكروويف بحيث تتكوّن داخلها "أمواج راكدة" (موقوفة)، مثلما تتذبذب أوتار القيثارة عند النقر عليها، أو مثل هزّ طرف خيط مربوط من طرفه الآخر إلى الأعلى والأسفل. أو كما في الرسم المتحرّك التالي:
تتكوّن أشعّة الميكروويف، مثل سائر أنواع الأشعّة الكهرومغناطيسيّة، من أمواج حقل كهربائيّ تتحرّك بسرعة الضوء. يعرض الرسم المتحرّك الموجة | المصدر: ويكيبيديا، متاح للجميع.
تَسخُن، داخل الميكروويف، المواقع من الغذاء التي تنصبُّ عليها قمم الأمواج أكثر من المواقع الأخرى. لاحظوا أنّ الموجة الراكدة (الموقوفة) تتذبذب فتتحوّل قممها إلى حضيض (نقاط دنيا) وبالعكس، فمن الأدقّ القول بأنّ المواقع من الغذاء التي تقع عليها قمم الأمواج وحضيضُها هي التي تسخن أكثر من غيرها. لا تسخن، بالمقابل، المواقع من الغذاء التي تقع عليها عُقد (node) الأمواج - الممثّلة بالنقاط الحمراء في الرسم المتحرّك أعلاه والتي لا يحدث فيها تغيّر في الحقل الكهرومغناطيسيّ.
ذلك هو أحد أسباب قلّة التجانس في سخونة الغذاء داخل الميكروويف. أحد الحلول لهذه المشكلة هو استدارة صحن الميكروويف أثناء عمله، كي تتغيّر مواقع الأجزاء من الغذاء التي يصادف تطابقها مع العقد.
وضعنا، في التجربة، لوح الشوكولاتة على صحن فرن الميكروويف مقلوبًا كي لا يستدير، وشغّلنا الجهاز، فشاهدنا المواقع التي تطابقت مع قمم الأمواج وكذلك مواقع العقد، بدقّة متناهية.لاحظنا أنّ إحدى هذه العقد تقع تمامًا في مركز الصحن، وليس هذا صدفةً بل هو أمر مقصود: لِتجنُّب وجود نقطة تسخن دون توقّف، فتفوق حرارتها الحدّ المتاح. لا يتغيّر موقع مركز الصحن عند استدارته، ولذلك إمّا أن تسخن هذه النقطة، في مركز الصحن، دون توقّف، وإمّا أن لا تسخن بتاتًا - والإمكانية الثانية هي الأكثر أمانًا. ما يمكن استنتاجه من التجربة إذًا، أنّه يجدر بنا أن نضع الوعاء الذي يحتوي على الغذاء المراد تسخينه بجانب مركز الصحن قليلًا، وليس تمامًا في مركزه. يستحسن تشغيل الفرن لفترات زمنيّة قصيرة ومتقطعة، وتحريك الغذاء فيما بينها، بما فيه الغذاء في مركز الوعاء، ذلك في حالة لم يتسنّى لنا وضع الوعاء بجانب مركز صحن الميكروويف، مثلًا إذا كان الوعاء كبيرًا.
تُوضح التعليمات، كما تظهر في دليل المستخدم، كيفية ترتيب الغذاء على صحن الغذاء. يجب وضع الأجزاء السميكة من الغذاء على أطراف الصحن كي تسخن بسرعة أكبر مما لو وضعت في مركز الصحن، ذلك لأن حواف الصحن تصلها كمية أكبر من الطاقة | أخذت الصورة من كُتيّب دليل مستخدم الميكروويف SHARP R-658
سرعة الضوء
يمكن قياس سرعة الضوء باستخدام جهاز الميكروويف، ما قد يبدو غريبًا، بخلاف ما قيل عن مبدأ عمل الجهاز، بإنّه لم يكن في الواقع غريبًا. تتحرّك جميع أنواع الأشعّة التي ورد ذِكْرها آنفًا، ومن ضمنها أمواج الميكرو بسرعة الضوء. يمكننا قياس "طول الموجة" - المسافة بين قمّتين متجاورتين على طول الموجة، وذلك عن طريق قياس البعد بين نقطتين متجاورتين مصهورتَين على لوح الشوكولاتة الذي تم تسخينه داخل فرن الميكروويف، إذ سبق وقلنا إنّ النقاط التي تسخن بالدرجة الأعلى (وتنصهر الشوكولاتة فيها)ـ هي التي تقع عليها قمّة الموجة أو حضيضها (النقاط الدنيا).
طول الموجة هو البعد بين نقطة معيّنة على امتداد الموجة والنقطة المناسبة لها تمامًا والواقعة في الدورة التالية، مثلًا البعد بين قمّتين متتاليتين | تصوير: يفعات جروس
نحتاج لقياس المسافة بين ثلاث نقاط منصهرة (لأنّها سخنت) على لوح الشوكولاتة، بحيث تقع على استقامة واحدة ، فنضمن بذلك قياس المسافة بين قمّة الموجة والقمّة التالية. يمكن أن نكتفي، بدلًا من ذلك، بقياس البعد بين نقطتيْن مصهورتَيْن على لوح الشوكولاتة تُمثلان قمّة موجة وحضيضها (النقطة الدنيا) الأقرب إليها، ثمّ ضرب النتيجة باثنين، فتكون النتيجة طول الموجة التي تنبعث من الجهاز.
نستعين بعد ذلك بقيمة تردّد عمل الميكروويف المسجّلة عادةً على جدار جهاز الميكروويف الخارجيّ الخلفيّ، ومعها وحدات قياس التردّد وهي الهيرتز، والتي تعني "مرّات في الثانية". هذا هو تردّد الموجة - عدد الأمواج التي تنتج وتمرّ في كلّ ثانية داخل الجهاز.
تردُّد عمل فرن المايكروويف مسجّلٌ عادةً على جدار الجهاز الخارجيّ الخلفيّ. التردّد المسجّل في الصورة أعلاه هو 2450 ميجا هيرتز | الصورة: Andrew Lambert Photography / Science Photo Library
الخطوة الأخيرة، في طريق حساب سرعة الضوء - أي المسافة التي يقطعها الضوء في الثانية الواحدة - هي أن نضرب طول الموجة الذي قسناه بعدد الأمواج التي تمرّ في الثانية - التردّد - المسجّل على جدار فرن الميكروويف. علينا الانتباه الى أنّ التردد المكتوب غالبًا ما يظهر بوحدات الميجاهيرتز (MHz)، أي مليون هيرتز، المشار إليها بالحرف Mega) M)، لذا علينا إضافة ستّة أصفار (مليون) إلى الرقم المكتوب على الجهاز. نحصل بذلك على سرعة الضوء بالسنتمترات في الثانية الواحدة، ويمكن تحويلها إلى أمتار في الثانية بواسطة تقسيم النتيجة على مئة (يوجد 100 سنتمترات في المتر الواحد)، ثم نقسم على ألف كي نحوّل النتيجة إلى كيلومترات في الثانية (1000 متر في الكيلومتر الواحد).
تُحسَب سرعة الضوء بواسطة ضرب طول الموجة الذي قيسَ في التجربة بعدد الأمواج التي تمرُّ بالثانية الواحدة والمكتوب على الجدار الخارجي الخلفيّ للجهاز. تظهر في الصورة سرعة الضوء التي حُسبت في التجربة | تصوير: يفعات جروس
يتّضح أنّ طريقة القياس المنزليّة ثمّ حساب سرعة الضوء، دقيقة للغاية، فقد حصلنا على نتيجة 301 ألف كيلومترًا تقريبًا في الثانية الواحدة، وهي نتيجة قريبة جدًّا من 299792 كيلومترًا في الثانية الواحدة، القيمة الحقيقية لسرعة الضوء. ذلك مذهل، بالنظر إلى طريقة القياس!