كلّ منّا يتثاءب، ومشاهدة شخص ما يتثاءب أو يفكّر في التّثاؤب يثير حاجتنا إلى التّثاؤب. لا يزال العلماء غير متأكّدين تمامًا لماذا نتثاءب

نُشرت المقالة في الأصل عام 2015 وتمّ تحديثها في كانون الثاني 2024

لغز: ما هو الأمر الّذي نقوم جميعنا به، لكنّنا لا نعرف سبب ذلك؟

تلميح: لا يقتصر الأمر على أنّنا لا نعرف سبب قيامنا بذلك، بل إنّه أمر مُعدٍ أيضًا! وهذا يعني أنّه عندما نرى شخصًا يفعل ذلك، نبدأ في تقليده بأنفسنا، حتّى دون أن نقصد ذلك.

نستسلم؟

أنا أتحدّث بالطّبع عن التّثاؤب

التّثاؤب فعل أساسيّ للجسم. الجميع يتثاءب، والحيوانات مثل الطّيور، الأسماك، الكلاب، القطط، التّماسيح وغيرها، حتّى الأجنّة البشريّة الّتي تنمو في بطن أمّهاتها. لماذا يهمّنا هذا الأمر كثيرًا، لأنّنا كمحبّي علوم، نرى  الظّواهر الطّبيعية غير المبرّرة  بمثابة كنز غامض لعقولنا المحبّة للغموض.

يجب علينا أوّلًا فهم ما هو التّثاؤب. وفق التّعريف العلميّ فإنَّ التّثاؤب هو فعل جسديّ لاإراديّ يقوم فيه المتثائب بفتح الفم والبلعوم على نطاق واسع، ويستنشق نفسًا عميقًا وطويلًا، ثمّ يخرج الهواء مع زفير أقصر، ويغلق الفم مرّة أخرى. نحن لا نختار متى نتثاءب، فهو يأتي من تلقاء نفسه، وغالبًا ما يكون من الصّعب جدًّا، بل من المستحيل تقريبًا، التّوقّف  عن التّثاؤب. لماذا يحدث هذا؟ لم نعثر بعد على إجابات علميّة كاملة لهذه الأسئلة، لكن لدى العلماء بعض الفرضيّات المثيرة للاهتمام.


التّثاؤب هو فعل جسديّ لاإراديّ. طفل صغير يفرك عينيه ويتثاءب | Lesterman, Shutterstock

لماذا تتثاءب أصلًا؟

الحقيقة هي أنّه لا أحد يعرف السّبب حقًّا. لقد أمضى العديد من العلماء سنوات في محاولة الإجابة عن هذا السّؤال وطرحوا فرضيّات مختلفة. على سبيل المثال، منذ حوالي ثلاثين عامًا، كان يُعتقد أنّه عندما يكتشف الجسم نقصًا في الأكسجين أو زيادة في ثاني أكسيد الكربون، فإنَّ ذلك يجعلنا نتثاءب من أجل إدخال كمّيّة أكبر من الأكسجين إلى الرّئتين والتّخلّص من فائض ثاني أكسيد الكربون. لكن تمّ دحض هذه الفرضيّة عندما دفعوا أشخاصًا لاستنشاق هواء يحتوي على تركيزات مختلفة من الأكسجين أو ثاني أكسيد الكربون، ورأوا أنّ ذلك لم يؤثّر على مقدار التّثاؤب الّذي قاموا به.

لذا، وعلى عكس ما قد يبدو منطقيًّا، فإنَّ التّثاؤب لا يعتمد على حالة تنفّسنا. هناك فرضيّة جديدة وأكثر قبولًا تقدّم تفسيرًا مختلفًا: التّثاؤب هي طريقة الجسم لتبريد الدّماغ. ووفقًا لهذا المفهوم فإنَّ التّمدّد العميق لعضلات الوجه والفكّ والإغلاق السّريع للفم في نهاية التّثاؤب يزيد من تدفّق الدّم إلى الوجه. فالهواء البارد الّذي يدخل إلى تجويف الفم أثناء التّثاؤب يبرّد هذا الدّم الّذي يستمرّ في التّدفّق نحو الدّماغ ويبرّده أيضًا. في الواقع لدى هذه الفرضية أدّلة قويّة.

في إحدى التّجارب، أظهر الباحثون أنَّ الأشخاص الّذين يضعون كيس التّدفئة على رؤوسهم يتثاءبون أكثر مقارنة بالأشخاص العاديّين، كما أنَّ الّذين يضعون كيس تبريد على رؤوسهم يتثاءبون أقلّ من الأشخاص العاديّين. وفي تجارب أخرى أُجريت على الفئران، قاموا بقياس درجة حرارة الدّماغ بمقياس الحرارة، ورأوا أنّها قبل التّثاؤب كانت مرتفعة، وانخفضت بعدها. لدى الحيوانات ذات الأدمغة الأكبر والأكثر تعقيدًا فترات التّثاؤب أطول. وهذا يدعم أيضًا فرضيّة تبريد الدّماغ، لأنَّ الدّماغ الكبير يستغرق وقتًا أطول ليبرد. ولكن هناك مشكلة في هذه الفرضيّة، فهي لا تفسّر التّأثير المُعدي للتّثاؤب.


التّفسير المقبول: التّثاؤب وسيلة لتبريد الدّماغ. عقل يشعر بالحم | Sergey Novikov, Shutterstock

تثاؤب اجتماعيّ 

الشّخص الّذي يتثاءب يمكن أن "يصيب" الآخرين ويدفعهم للتّثاؤب أيضًا. هل سبق لك أن "أُصبت" بالتّثاؤب من شخص آخر؟ لقد تمّ بناء دماغنا لهذا الغرض: فهو يحتوي على خلايا عصبيّة خاصّة تسمّى "الخلايا العصبيّة المرآتيّة". الخلايا العصبيّة المرآتيّة هي خلايا "تقليد" تسمح لنا بتعلّم أداء مهامّ من خلال مشاهدة شخص آخر يؤدّيها، على سبيل المثال تعلّم الحياكة أو الرّقص. وقد أظهرت الدّراسات أنَّ هذه الخلايا تنشط في الدّماغ حتّى عندما نشاهد شخصًا يتثاءب.

وتسمّى ظاهرة التّثاؤب المعدية أيضًا بـِ "التّثاؤب الإجتماعيّ" وينسبها علماء الأعصاب إلى قدرتنا على التّعاطف مع الآخر. ووفقًا لهذه الفرضيّة، فإنَّ التثاؤب ردًّا على تثاؤب شخص آخر هي الآليّة المصمّمة لإثارة التّعاطف والإشارة إلى من حولنا بأنّنا في صالحهم.

يمكنك حقًّا ملاحظة أنَّ الأشخاص الّذين تربطهم علاقة شخصيّة، هم أكثر عرضة للإصابة بتثاؤب. في المقابل، فإنَّ الأشخاص غير القادرين على التّعاطف مع مشاعر الآخرين، مثل الأطفال دون سن الرّابعة الّذين لم يطوّروا هذه القدرة بعد أو الأطفال المصابين بالتّوحّد، هم محصّنون ضدّ ظاهرة التّثاؤب الاجتماعيّ. وتبيّن أنّ هذه الفرضيّة تعمل أيضًا عند النّظر في "عدوى" التّثاؤب  بين أنواع الحيوانات المختلفة: أظهرت إحدى الدّراسات أنَّ الكلاب تميل إلى التّثاؤب استجابةً لتثاؤب أصحابها أكثر من تثاؤب الغرباء.


وجدت دراسة أنَّ الكلاب تميل إلى التّثاؤب استجابةً لتثاؤب أصحابها أكثر من تثاؤب الغرباء. كلب يتثاءب | Reddogs, Shutterstock

وقت الاستيقاظ

هناك فرضيّة أخرى، والّتي قد تفسّر حاجتنا الجسديّة للتّثاؤب والطّبيعة المعدية للتّثاؤب، تسمّى "فرضيّة الإثارة". حاولوا التذكّر، في أيّ المواقف تبدأ بالتّثاؤب - عندما تكون متعبًا؟ تشعر بالملل؟ بالضّغط؟ ربّما قبل البدء بنشاط جديد؟ جميع الإجابات صحيحة! ما هو العامل المشترك بين جميع مواقف ما قبل التّثاؤب؟ في كلّ منهم تحتاج إلى شيء لتحفيز نشاط الدّماغ. في الواقع، وفقًا لفرضيّة الإثارة، فإنَّ هدف التّثاؤب هو تحفيز الدّماغ، وإعطاؤه نوعًا من "الاهتزاز" حتّى يتمكّن من العودة إلى أداء وظائفه بشكل أفضل.

وبحسب الفرضيّة، فإنَّ حركة عضلات الوجه والرّقبة أثناء التّثاؤب تؤدّي إلى تنشيط أجهزة مستشعرات خاصّة (مجسّات) في منطقة الرّقبة، الّتي ترسل إشارات محفّزة إلى الدّماغ وتسبّب تأثيرًا مماثلًا للتّأثير المحفّز لشرب القهوة. يمكن استخدام هذه الفرضيّة لشرح المنطق الكامن وراء التّثاؤب المعدي. ففي نهاية المطاف، فإنَّ مثل هذه الآليّة القادرة على زيادة يقظتنا والتأثير أيضًا على المقرّبين منّا، كان من الممكن أن تخدم الإنسان منذ فجر البشريّة في العديد من المواقف. على سبيل المثال، ربّما ساعد الرّجل القديم جميع أفراد القبيلة على الهروب من أسد عدوانيّ، وفي عصرنا اليوم يمكن أن يساعد جميع الطّلّاب في الصّفّ على التّركيز في درس مملّ للغاية في المدرسة.

من المهمّ التّذكّر أنَّ هذه فرضيّات فقط، لبعضها أدلّة مقنعة تمامًا والبعض الآخر أقلّ إقناعًا. توحي حقيقة أنَّ التّثاؤب ظاهرة يوميّة شائعة، وقد تمّ الحفاظ عليها على مدى ملايين السّنين من التّطوّر وما زالت موجودة في العديد من الحيوانات، بأنَّ التّثاؤب ربّما يكون له دور مهمّ، لكنّنا ما زلنا لا نستطيع القول بشكل قاطع ما هو. وهذا لغز ينتظر أن يحلّه علماء المستقبل.

 

0 تعليقات