ما الفرق بين المثل "الضّفدعة في المياه السّاخنة" وسلوك الضّفادع في الواقع؟ وما الّذي يمكن تعلّمه عن أنفسنا من خلال هذا الفرق؟
تمّ تسجيل المقال من قبل المكتبة المركزية للمكفوفين وذوي العسر القرائي
للقائمة الكاملة للمقالات الصوتيّة في الموقع
إذا أدخلنا ضفدعة لمياهٍ تغلي ستقفز خارجها فورًا. لكن إذا تمّ تسخين الماء تدريجيًّا، فإنّها لن تلاحظ التّغيير وستستمرّ في الغليان وهي على قيد الحياة. أيبدو هذا مألوفًا؟ يُستخدم هذا المثل الشّائع في الكثير من الأحيان لوصف التّغييرات الصّغيرة والتّدريجيّة الّتي قد تفوتنا إلى أن تأخذنا العواقب على حين غرّة. لكن مشكلة المثل هذا… أنّه ليس صحيحًا. في الواقع، إنّ دخول الضّفدعة للمياه السّاخنة سيؤثّر على جسدها بشكل فوريّ، حيث لن تتمكّن من القفز خارجها. ستؤثّر الحرارة في خلايا الضّفدعة، وستفكّك البروتينات في ساقيها الدّقيقتيْن. بالمقابل، ستمكث الضّفدعة في المياه الّتي يتمّ تسخينها، إلى أن تصل درجة حرارة غير محتملة لها، وتحاول الهرب خارجًا.
تعود قصة الضّفدعة إلى عدّة تجارب أُجريت قبل مائة وخمسين عامًا. هذه التّجارب لا تتناسب مع المعايير الأخلاقيّة للبحث العلميّ المتعارف عليها في يومنا هذا. ويمكننا أن نفترض أنّها لم تكن لتنفذ في وقتنا هذا. ترجع أقدم تجربة سُجّلت في هذا المجال لعام 1869، حسب وصف عالم الأحياء الحيويّ الألمانيّ فريدريخ جولتس (Goltz). أفاد جولتس بأنّ الضّفادع بقيت في الماء الّذي تمّ تسخينه تدريجيًّا، وقفزت خارجًا عندما كان الماء ساخنًا منذ البداية. لكن هناك جزءًا مهمًّا قد حُذِف من القصّة الّتي تصلنا عن تجارب جولتس، الضّفادع الّتي لم تقفز خارجًا كانت جميعها قد خضعت لعمليّة إزالة الدّماغ قبيل التّجربة. أمّا الضّفادع ذات الأدمغة السّليمة قد حاولت الهرب من الماء المسخّن تدريجيًّا. لاحقًا، انضمّ لجولتس باحثان ألمانيّان آخران، هاينزمان (1872) وفراتشر (1875)، قد أجريا تجارب مشابهة وادّعوا أنّ الضّفادع لا تقفز خارج المياه، التي يتم تسخينها تدريجيًّا بالبطء الكافي.
لقد نفى فيكتور هاتشيسون (Hutchison) عالم الأحياء من جامعة أوكلاهوما هذه الأسطورة تمامًا، من خلال التّجارب الّتي أجراها في عام 2002، حيث أظهر أنّ نشاط الضّفادع يزداد شيئًا فشيء، داخل المياه الّتي تسخن تدريجيًّا إلى أن تقفز خارجها. "إذا قمت بوضع ضفدع في مياه ساخنة، فإنّه لن يقفز خارجها، بل سيموت. أما إذا وضعتها في مياه باردة، فستقفز قبل أن تسخن، الضّفادع لا تجلس في انتظاركم"، قال داجلاس ميلتون (Melton)، عالم أحياء من جامعة هارفرد في عام 1995.
الضّفادع، على غرار الزّواحف والأسماك، هي كائنات خارجيّة الحرارة ("ذوات الدّم البارد")، أي أنّها لا تمتلك آليّات داخليّة للحفاظ على درجة حرارة الجسم، لذا فهي تتأثّر كثيرًا بحرارة البيئة المحيطة، ويتغيّر مستوى نشاطها وفقًا لحرارة الشّمس. يتناقض ذلك مع الكائنات من ذوات الدّم الدّافئ، مثل الطّيور والثّدييات، والّتي تمتلك مجموعة من الآليّات للحفاظ على درجة حرارة ثابتة للجسم، مثل تحديد ارتفاع درجة الحرارة أو الارتجاف عند انخفاضها.
الكائنات خارجيّة الحرارة، بما في ذلك الضّفادع، حسّاسة للتّغييرات الطّفيفة في درجة حرارة محيطها: عندما يكون الجوّ باردًا، تنخفض درجة حرارة جسمها ومعها مستوى نشاطها، بينما يؤدّي الطّقس الدّافئ إلى زيادة درجة الحرارة والنّشاط. هذه القابليّة للتّأثّر بالحرارة الضّرورية للبقاء، تثير فيها غريزة البحث عن مكان مناسب بشكل أكبر عند تغيّر ظروف الطّقس، مثل الانتقال من منطقة مظلّلة إلى منطقة مضاءة، أو مغادرة المياه الّتي تزداد درجة حرارتها. عادةً ما تبحث ذوات الدّم البارد عن بيئة باردة نسبيًّا، لتجنّب الحرارة الزّائدة، أو التّعرّض للشّمس والسّخونة. عندما ترتفع درجة حرارة محيطها، ستهرب إذا كان ذلك ممكنًا (أي أنّ الزّيادة في درجة الحرارة ليست سريعة بما يكفي، لتضرَّ بخلاياها وتعيق هروبها).
هذه القصّة الشّائعة عن الضّفادع توفّر لنا فهمًا حول كيفيّة تعاملنا كبشر مع المعلومات، أكثر ممّا تقدّمه من حقائق حول الضّفادع. تنتشر هذه القصص كالنّار في الهشيم في الذّهنيّة الجمعيّة للبشر، وذلك لمدى تماهينا مع المعطيات الّتي تطرحها، والّتي "تبدو" لنا منطقيّة. لذا نتعامل مع هذه القصّة وكأنّها حقيقيّة لا ريب فيها، ولا نبذل جهدًا في التّحقّق من صحّتها. أمّا إذا تعرّضنا لقصّة نراها أقلّ منطقيّة، لشكّكنا بمصداقيّة التّجربة واستنتاجاتها. الباحثون هم بشرٌ مثلنا، ولديهم ميولهم وانحيازاتهم المشابهة أيضًا - كنزعة الاستنتاج وفقًا للحدس، عوضًا عن استخدام المنهجيّة العلميّة المنظّمة، التي تعتمد على تحليل البيانات فقط.
مثال عن "الانحياز التّأكيديّ" - من يؤمن بالأبراج لن يجد شيئًا سوى الحقيقة في توقّعات الأبراج اليوميّة.| xenia_ok, Shutterstock
عن الضّفادع والانحياز
الانحيازات في البحث العلميّ ليست بالقليلة، ويبرز من بينها تأثير تمويل البحث. على سبيل المثال، BPA هو مركّب متواجد في البلاستيك، وقد رُبِطَ بخصائص ضارّة للصّحّة. أظهرت الأبحاث المموّلة من قبل صناعات البلاستيك، الّتي تنتج منتجات تحتوي على BPA، عدم وجود تأثيرات ضارّة خاصّة لهذا المركّب، بينما كانت الأبحاث المستقلّة أو تلك الّتي تُجرى بناءً على تكليف من هيئات صحّيّة حكوميّة تُشير إلى خطورته.
أحد الطّرق المتبعة لتجنّب التّحيّز في التّجارب السّريريّة هي القيام بتجارب مزدوجة التّعمية (double-blinded study)، الّتي يفضّل استخدامها في تقييم فعاليّة الأدوية. كلّ من الأطباء والمرضى لا يعرفون أيّ المرضى حصل على الدّواء الفعليّ، وأيّهم حصل على النّسخة الوهميّة (وهي أدوية لا تتسبّب في تأثير فسيولوجيّ) وبهذه الطّريقة، لا يمكن لمعتقداتهم وتوقّعاتهم التّأثير على النّتائج.
منح عالم النفس الإنجليزي بيتر واسون هذه الظاهرة اسم "الانحياز التأكيدي" (): وهي ميلنا على الاعتماد على القصص والأبحاث التي تتناسب مع معتقداتنا وقيمنا، وتجاهل الحقائق الّتي تتناقض مع ما كنّا نعتقده سلفًا. من يؤمنون بالأبراج على سبيل المثال، قد يقرؤون التّنبّؤات اليوميّة في الصّحيفة، ويفسّرون الأحداث الّتي تحدث في ذلك اليوم كدليل على صحّة الأبراج. لا يعمل هذا الانحياز بشكل واعٍ أو مقصود، لكنّه صاحب تأثير كبير على قدرتنا الاستنتاجيّة.
على ما يبدو، لن تظلّ الضّفدعة في وعاء الماء الّذي يسخن تدريجيًّا. إذا كانت فتحة الوعاء واسعة بما فيه الكفاية، فقد تقفز خارج الوعاء. لكن إذا أزلنا دماغها قبل التّجربة، وكان الوعاء مغلقًا ولم تجد لها مهربًا، سيكون مصيرها أن تطهى وهي على قيد الحياة. أمّا بالنّسبة لنا، فمن المفضّل أن نطرح الأسئلة ونشكّك في الحقائق ولا نتقبّل أي شيءٍ كمسلَّم به.