رغم وجود أدلّة قويّة تشير إلى انتقال الموارد الغذائيّة بين الأشجار في الغابة، إلّا أنّ إعادة النّظر في الدّراسات في المجال تثير التّساؤلات حول الفرضيّة القائلة إنّ هذه العمليّة برمّتها تتمّ عبر شبكة ضخمة من الفطريّات.
بالفعل، وجد العلماء في سنوات الثمانينيّات أدلّة تشير إلى أنّ الأشجار المجاورة يمكن أن تغذّي بعضها بالكربون. لاحقًا، تبيّن أنّ شبكة متشعّبة من الفطريّات الّتي تربط أنظمة جذورها، تلعب دورًا في حركة الكربون. أثارت هذه الاكتشافات خيال علماء البيئة والغابات ومحبّي الطّبيعة، ما أدّى إلى ظهور مجموعة من النّظريّات الّتي تنسب لأشجار الغابات صفة الإيثار؛ لأنّها تتقاسم الموارد فيما بينها.
نظرًا لمستوى التّرابط العالي بين جذور الأشجار، اِقترحت العالمة سوزان سيمارد (Suzanne Simard)، الّتي كانت من أوائل الباحثين في هذا المجال، تسمية النّظام القائم تحت الأرض من الجذور والفطريّات "شبكة الأشجار الواسعة" (Wood wide web)، قياسًا على اسم الشّبكة العنكبوتيّة العالميّة "ويب" - World wide web. لكنّ، دراسة جديدة أعادت فحص الأدلّة الموجودة بخصوص نقل الموارد من شجرة إلى أخرى في الغابة، ودور الشّبكات الفطريّة في هذه العمليّة، وأظهرت شكوكًا كبيرة حول قدرتنا على تأكيد النّظريّات المستندة إلى الأدلّة الموجودة. ماذا نعرف عن دور الفطريّات في توزيع الموارد بين أشجار الغابات، وأهمّيّتها البيئيّة في هذه العمليّة؟
هل فعلًا تربط "شبكة الأشجار الواسعة" الأشجار عبر الفطريّات؟ شجرة ذات جذور سميكة | Brandano07, Shutterstock
العلاقة بين الفطريّات والغابات
التّكافل (Symbiosis) هو نظام العلاقات المتبادلة بين مخلوقين، حيث يستفيد فيه الطّرفان من بعضهما أو يستفيد أحد الطّرفين بينما لا يتأثّر الآخر. التّعايش بين الأشجار والفطريّات يسمّى "ميكوريزا" (Mycorrhiza - باليونانيّة mycos=فطر؛ rrhiza=الجذر)، تساعد الفطريّات الأشجار على امتصاص العناصر الغذائيّة من التّربة، بينما تنقل الأشجار بعض منتجات التّمثيل الضّوئيّ إلى الفطريّات، والّتي تكون على شكل سكّريّات ومركّبات عضويّة أخرى تشمل الكربون.
في الغابة، يمكن أن تتّصل أشجار من أصناف مختلفة بنفس الفطر، كما يمكن للشّجرة الواحدة أن تتّصل بعدّة أنواع من الفطريّات. وفقًا لذلك، اُفترض أنّ هناك شبكة من الجذور والفطريّات الّتي قد تزيد من قابليّة انتقال الموادّ تحت الأرض بين أصناف النّباتات المختلفة حتّى بين الكائنات من ممالك منفصلة- النّباتات والفطريّات. قد أظهرت الأبحاث أنّ الشّجرة تنقل للفطريّات ما بين 6-13 بالمائة من الكربون الّذي تمتصّه من الهواء، بينما يمكن للفطريّات أن تزوّد الشّجرة بما يصل إلى 80 بالمائة من النّيتروجين وجميع كمّيّة الفوسفور الّذي تحتاجه. لذا، فإنّ تبادل الموارد بين الشّجرة الواحدة والفطريّات الموجودة بالقرب من جذورها يمثّل حصّة كبيرة من إجماليّ العمليّات الأيضيّة لكليهما.
عادة ما تعتمد دراسة انتقال الموارد على قياس المركّبات الكيميائيّة الّتي تحوي نظائر مختلفة لعنصر معيّن. والنّظائر هي ذرّات من نفس العنصر، تمتلك عددًا متساويًا من البروتونات في نواتها، مّا يمنحها خصائص كيميائيّة متشابهة، ولكنّها تحوي كمّيّة مختلفة من النّيوترونات، وبالتّالي تكون كتلتها مختلفة. فإذا سمّدنا شجرة بموادّ مغذّية مثل النّيتروجين أو الفوسفات الّتي تحوي نظيرًا نادرًا، يمكننا متابعة توزيع هذه الموادّ بين أجزاء الشّجرة، وبينها وبين البيئة المباشرة. ويمكننا لاحقًا قياس كمّيّة النّظير النّادر الموجود في الفطريّات والنّباتات المجاورة، وفهم ما إذا كانت قد حصلت على مواردها من الشّجرة أم من مصادر أخرى.
بشكل مشابه، عادة ما يقوم الباحثون بتحديد الأشجار الّتي تحوي نظائر مختلفة لعنصر الكربون، عن طريق تعريض أوراقها لغاز ثنائي أوكسيد الكربون المعزّز بهذه النّظائر. إذا عُثر على هذه النّظائر لاحقًا في الأشجار المجاورة، أو في شبكات الفطر الموجودة في الأرض، أو حتّى ثمارها الموجودة فوق الأرض، فإنّنا نستنتج أنّها حصلت على الكربون من تلك الشّجرة.
أظهرت دراسات سابقة فحصت النّباتات الصّغيرة المزروعة في أصص مشتركة داخل الدّفيئة، أنّ مركّبات الفوسفور انتقلت بالفعل بين النّباتات من نفس النّوع، في حين انتقل النّيتروجين بين النّباتات من أنواع مختلفة. لاحقًا، أظهر مقال مرموق أنّه حتّى في الغابة، لا تتناقل الأشجار الصّغيرة من أنواع مختلفة الكربون فيما بينها فحسب، بل أيضًا بين الأشجار النّاضجة من أنواع مختلفة. أظهرت الأبحاث الإضافيّة أنّ الكربون الموسوم انتقل أيضًا لثمار الفطر الّتي تنمو عند قاعدة الأشجار، وأنّ الفطريّات الّتي امتصّت أكبر كمّيّة من الكربون الموسوم تنتمي إلى الأنواع القادرة على التّعاون مع معظم أصناف الأشجار.
تساعد الفطريّات الأشجار على امتصاص الموارد الغذائيّة، بينما تنقل الأشجار نواتج عمليّة التمثيل الضوئيّ الّذي تقوم به إلى الفطريّات. تشكّل جذور النبات والفطريّات شبكة فطريّة في التربة | Thierry Berrod, Mona Lisa Production / Science Photo Library
تأكيد دون دحض
فحص مقال المراجعة (Review article) والمنشور مؤخّرًا جزءًا من الاستنتاجات المقبولة والأدلّة الّتي تدعمها حول دور شبكات الميكوريزا في تخصيص الموارد بين أشجار الغابات. لتحقيق هذه الغاية، هدف الباحثون إلى التّركيز على تفسيرات بديلة للظّواهر المرصودة، والّتي لا تعتمد على شبكات الميكوريزا، وفحصوا بعناية ما إذا كانت المجموعات الضّابطة الّتي استخدموها في كلّ دراسة تدحض هذه التّفسيرات.
يشير الادّعاء الأوّل الّذي تمّ اختباره إلى أنّ شبكات الميكوريزا شائعة في الغابات حول العالم، والّتي يتمّ تعريفها بأنّها شبكة من جذور الأشجار العديدة الّتي ترتبط بفطر واحد. وجد الباحثون أنّ معظم الدّراسات السّابقة افترضت وجود مثل هذه الشّبكة عندما "تستضيف" جذور شجرتين متجاورتين نفس النّوع من الفطريّات. في الواقع، في بعض الأحيان قد يكون حجم الغزل الفطريّ (Mycelium)- أي الشّبكة الّتي تنشئها الفطريّات المتعايشة مع الجذور- أصغر من أن يربط حتّى شجرتين متجاورتين، ناهيك عن شبكة كاملة وكبيرة. لذا، فإنّ الفطريّات من نفس النّوع والموجودة على جذور أشجار قريبة، لا تخلق بالضّرورة صلة بينهما. حتّى عندما يكون نفس الفطر بالضّبط على جذور الأشجار المجاورة، قد لا يكون هناك اتّصال مستمرّ بين أنظمة الجذر، إذ يمكن أن ينقطع تسلسل الشّبكات في المنتصف بسبب التّآكل أو التّلف. لذلك، حتّى عندما يكون الفطر هو نفسه- أي يحوي نفس الحمل الجينيّ- فإنّه قد لا يشكّل اتّصالًا مستمرًّا بين نظامي الجذور، وإنّ الموادّ المميّزة مرّت عبر التّربة.
يشير الادّعاء الثّاني إلى أنّ شبكات الميكوريزا تلعب دورًا مهمًّا في نقل الموارد بين أشجار الغابات مّا يساعد الأشجار الصّغيرة على الاستقرار والنّموّ. في الواقع، وجد الباحثون أنّه في العديد من الدّراسات الّتي فحصوها أنّ المجموعة الضّابطة لم تدحض بعض التّفسيرات البديلة المحتملة لتفسير تحسين أداء الأشجار الصّغيرة أو لنقل الموارد بين الأشجار. على سبيل المثال، اِستخدمت العديد من الدّراسات إمّا فواصل محكمة الإغلاق تمامًا، أو فواصل منفذة جزئيًّا تمنع مرور الجذور فقط أو الجذور والفطريّات معًا. لكن بغضّ النّظر عن نوع الفواصل، خاصّة تلك الّتي تحدّ من مرور الموارد في التّربة، قد تؤثّر في وظيفة الأشجار بشكل مستقلّ عن وجود الفطريّات الّتي توصل جذورها ببعضها البعض، مّا يعني أنّه مجرّد تقليل حجم التّربة المتاحة لجذور الأشجار والفطريّات المحيطة بها قد يضرّ بأداء الأشجار، مّا يجعل هذه الأشجار غير مناسبة لتكون ضمن المجموعة الضّابطة في هذه الدّراسات.
بالإضافة إلى ذلك، أشار مؤلّفو مقال المراجعة إلى أنّ اعتبار الأشجار الطّرف المسيطر في علاقتها مع الفطريّات ليس بالضّرورة صحيحًا، إذ إنّ ذلك لا يتوافق مع بعض نتائج الدّراسات السّابقة. على سبيل المثال، أظهرت بعض هذه الدّراسات أنّ الفطريّات الجذريّة يمكن أن تؤدّي إلى تفاقم نقص النّيتروجين الّذي يعيق ويؤثّر في الأشجار "المضيفة"، وهو ما يشير إلى محدوديّة قدرة الأشجار على السّيطرة على هذه العلاقات المتبادلة.
وأخيرًا، أشار الباحثون إلى أنّه حتّى عند تجاهل جميع التّفسيرات البديلة لتحسين أداء الأشجار في وجود الفطريّات الجذريّة، فإنّ النّتائج ليست قاطعة. عند فحص كافّة النّتائج المنشورة في المقالات العلميّة الّتي تناولت انتقال الموارد عبر شبكات الميكوريزا، يتّضح وجود نطاق واسع من النّتائج المحتملة: بدءًا من تحسين حالة الأشجار الصّغيرة في وجود الفطريّات الميكوريزيّة، ووصولًا إلى تأثير حياديّ أو حتّى سلبيّ.
وفقًا للادّعاء الثّالث، فإنّ الاشجار النّاضجة تُعطي الأولويّة لتعزيز نقل الموارد وإشارات التّحذير عبر شبكات الميكوريزا إلى نسلها. مع ذلك، ورغم أنّ هذا الادّعاء سائد بشكل رئيس في الثّقافة الشّعبيّة، لم يجد الباحثون أيّ أساس في المقال الّذي حظي بمراجعة وتقييم النُظراء (peer review) من قبل خبراء في المجال ونُشِر في المجلّات العلميّة.
بالإضافة إلى هذه الادّعاءات الثّلاثة الرّئيسة، أشار الباحثون إلى العديد من الأخطاء في عرض الدّراسات السّابقة الّتي تناولت شبكات الميكوريزا. عند فحص 11 مقالًا رئيسًا في هذا المجال، والّتي استندت إلى خمسين دراسة متابعة أو أكثر، وجدوا أنّ نتائجها غالبًا ما يتمّ الاستشهاد بها بشكل غير دقيق، وأنّ محتواها يبالغ في أهمّيّة شبكات الميكوريزا.
رغم أنّ هذا المقال نقديّ للغاية، وقد خضع للعديد من المراجعات، إلّا أنّ الباحثين امتنعوا عن التّشكيك في نتائج الدّراسات الّتي تناولت انتقال الموارد بين أشجار الغابات، وأهمّيّة الفطريّات الجذريّة لعمل الأشجار. كان النّقد موجّهًا للتّشكيك في تفسير النّتائج الّتي تستند بشكل مفرط إلى وجود شبكات فطريّة تربط الأشجار، مع تجاهل التّفسيرات البديلة.
جزء من الشبكة الفطريّة الّتي تسمح بالتكافل بين الأشجار والفطريّات. أطراف الشبكة الفطريّة لفطر الأمانيت (Amanita ) | مصدر: Nilsson et al
إذًا، ماذا نعرف حقًّا؟
تعدّ الفطريّات الجذريّة مكوّنًا مهمًّا للغابات، وهي ضروريّة لنموّ الأشجار الصّغيرة. من المؤكّد أنّ الموارد مثل السّكّريّات، النّيتروجين والفوسفور تنتقل بين الأشجار في الغابة، بل يمكن القول إنّ وجود الفطريّات يزيد من هذا الانتقال ويحسّنه. مع ذلك، اعتبارًا من اليوم، هناك القليل من الأدلّة الّتي تؤكّد الفرضيّة القائلة إنّ الانتقال بأكمله يتمّ عبر شبكات الفطريّات الجذريّة، بدءًا من جذور الشّجرة النّاقلة ووصولًا حتّى أنسجة الشّجرة المستقبِلة.
يبدو أنّ الفرق حادّ، خاصّة في ضوء القدرات العجيبة الّتي نُسبت في العقود الأخيرة إلى شبكات الفطريّات: هل تنتقل الموادّ من شجرة إلى أخرى عبر شبكات الفطر، أم أنّها تقوم بذلك عبر التّربة؟ لكن، يمكننا أيضًا التّساؤل: ما مدى أهمّيّة هذا الاختلاف في فهمنا لبيئة الغابات؟ هل نقوم بالفعل "برمي الصّالح مع الطّالح"؟
تُعتبر المقالات من هذا النّوع في غاية الأهمّيّة في توجيه المجال العلميّ الّذي تتناوله، وفي الحدّ من هدر الموارد على توجّهات بحثيّة غير مثمرة. منذ نشر المقال، تغيّر محور اهتمام البحث في هذا المجال خلال العام الماضي، حيث تمّ تخصيص العديد من المقالات لتقديم الآراء، بما في ذلك المعارضة. يتعامل معظم هذه المقالات مع التّفاصيل الدّقيقة المجهريّة والجزيئيّة لانتقال الموارد الغذائيّة بين أشجار الغابات، في الوقت الّذي تواجه فيه الدّراسات الجديدة صعوبة في إيجاد منصّة علميّة للنّشر عبرها.
من المؤكّد أنّ الرّغبة في تقديم الأدلّة سواء لدعم أو دحض النّظريّات يرتبط بالإحباط الّذي يشعر به الباحثون في هذا المجال، حيث بدأ فيه البحث منذ ما يقرب خمسين سنة، ومنذ ذلك الحين بدأت الأدلّة تتراكم على انتقال الموارد الغذائيّة بين أشجار الغابات. لاحقًا، تطوّرت فرضيّات حول توزيع الموارد الغذائيّة بطرق "اشتراكيّة" أو "إيثاريّة" لأشجار الغابات وأهمّيّة الشّبكات الفطريّة، لكن بمرور الوقت تبيّن أنّ أساسها العلميّ كان هشًّا. هل هناك مبرّر لتفضيل الدّراسات الأوسع الّتي تسمح لنا بالنّظر إلى الصّورة الكبيرة وفهم الطّبيعة بشكل أفضل؟ أم أنّ المنظورَين كلَيهما مهمّان بنفس القدر؟ سيكون من المثير للاهتمام متابعة هذا المجال من البحث لمعرفة المَنحى الّذي سيسلكه.