تصف العديد من لوحات الكهوف الّتي تعود إلى عشرات الآلاف من السّنين حيواناتٍ من أنواعَ مختلفةٍ، وبجانبها سلاسل قصيرة من النّقاط أو الخطوط. يدّعي الباحثون الآن أنّ الغرض من هذه العلامات هو توثيقأوقات التّودُّد والولادة للحيوانات. لم يكن هذا الادعاء مقنعًا للجميع.
زُيّنت جدران مئات الكهوف في أوروبا بلوحات رائعة للأبقار، الماموث، الغزلان وغيرها من الحيوانات، والّتي تمّ رسمها قبل عصرنا بحوالي 40 -13 ألف سنة. قام الرّسّامون القدامى برسم حيوانات رائعة ومليئة بالتّعابير، بواسطة عدّة خطوط، تنجذب إليها العين على الفور. لكن، ركّزت عين بن بيكون (Ben Bacon)، الباحث المستقلّ من بريطانيا العظمى، على جزء آخر من اللّوحة: النّقاط والخطوط الّتي غالبًا ما تتواجد بجانب الحيوان. ما المعنى من ورائها؟
قال بيكون: "لطالما أذهلني معنى هذه العلامات. لذلك، بدأت في محاولة فكِّ رموزها، وقمت باستخدام أساليب مشابهة لتلك الّتي استخدمها باحثون آخرون في فكّ رموز الكتابات اليونانيّة القديمة. بمساعدة المعلومات والصّور لرسومات الكهوف الموجودة في المكتبة البريطانيّة والإنترنت، قمتُ بجمع أكبر قَدرٍ ممكنٍ من البيانات، وبدأت في البحث عن أنماط متكرِّرة".
قام بيكون بالتّواصل مع باحثين من جامعة دورهام وكُلِّيَّة لندن الجامعيّة مع تقدِّم بحثه، وتوصّل الفريق معًا إلى فرضيّةٍ جريئة إلى حدٍّ ما: كانت النّقاط والخطوط هي أولى محاولات الإنسان لنقل المعلومات، باِستخدام العلامات على الأسطح. بمعنًى آخر، إنّها شكلٌ من أشكال ما قبل الكتابة. وفقًا للباحثين، تُشير العلامات إلى وقتٍ معيّن من العام،تتزاوج فيه الحيوانات المرسومة، وفي بعض الأحيان أيضًا تُشير إلى وقت الولادة. بالمقابل، يعتقد باحثون آخرون، أنّ باحثي الفريق يقفزونإلى استنتاجات بعيدة المدى، دون إثباتها بشكلٍ صحيحٍ.
هل هذه العلامات نوعٌ من التّقويم القديم؟ ثلاثة خطوطٍ مرسومة داخل سمكة سلمون، منحوتة منذ حوالي 17 ألف عام على جدار كهف بيندل في إسبانيا | الصّورة: Berenguer، M.، 1994
التّقويم الأوّل؟
وجد بيكون وزملاؤه 606 رسمةً قديمةً لحيوانات كانت بجانبها نقاط وخطوط. في بعض الحالات، كانت هذه الإشارات مجرّد صفٍّ من العلامات المتطابقة. ولكن، في حالات أخرى، تواجدت علامة على شكل Y بين النّقاط أو الخطوط- خطٌّ واحدٌ يتشعّب منه الخطّ الثّاني. اِحتوت الأسطر في بعض الأحيان على ثلاث علامات، وأحيانًا أكثر من ذلك، ولكن ليس أكثر من 13 علامة على الإطلاق. اقترح العلماء الّذين فحصوا هذه العلامات في الماضي أنّها تمثِّل دمًا نازفًا من الحيوان، أو أنّها جزءٌ من رسم الحيوان نفسه. في المقال الجديد، رفض الباحثون هذه الفرضيّات، وأشاروا إلى أنّه غالبًا ما يكون نفس عدد العلامات المرئيّة بجوار حيوان معيّن، في اللّوحات من أماكن وأزمنة مختلفة. على سبيل المثال، بجانب الخنزير البرّيِّ، كان هناك دائمًا أربعة أسطر أو نقاط. يدّعي الباحثون أنّ هذا ليس من قبيل الصُّدفة: فهذه العلامات تُشير إلى رقمٍ ما.
ماذا قال هؤلاء القدامى؟ افترض الباحثون أنّ العلامات مرتبطةٌ بالوقت، وهو نوعٌ من التّقويم القديم."لو كانت هذه الخطوط تعكس عدد الأيّام أو حتّى الأسابيع، لتوقّعنا العثور على مزيدٍ من العلامات". ولذلك افترضوا بأنّها تعبّر عن الشّهور، وعلى وجه التّحديد- الأشهر القمريّة.
توقّع الباحثون العثور على المزيد من العلامات لو كانت هذه الخطوط تعكس عدد الأيّام أو حتّى الأسابيع، لذلك افترضوا أنّها كانت شهورًا، وعلى وجه التّحديد- أشهرًا قمريّة. أقدم التّقاويم المعروفة لدينا هي التّقاويم الّتي تتبّع ظهور القمر- وهي ظاهرةٌ يسهُل ملاحظتها ومتابعتها. حقيقة أنّ أطول سطر من العلامات يحتوي على 13 نقطة تُقدّم دعمًا إضافيًّا لذلك: في السنة الشّمسيّة -أي دوران الأرض حول الشّمس- هناك حوالي 12.4 شهرًا قمريًّا. وبالتّالي، يمكن أن تحتوي السّنة الّتي تتكوّن من أشهر قمريّة على 13 شهرًا- مثل السّنة الكبيسة في التّقويم العِبريّ.
تشير العلامات إذن إلى عدّة أشهر. لكن، عدّة أشهر اعتبارًا من أيّ وقتٍ؟ متى تبدأ السّنة؟ يفترِض الباحثون أنّ القدامى بدأوا العام في الرّبيع، في الوقت الّذي يذوب فيه الثّلج، وتبدأ العديد من النّباتات في التّفتُّح وإخراج الأوراق. هذه العلامات بارزة للغاية، وربّما هذا هو السّبب في أنّ عددًا ليس بقليلٍ من الثّقافات بدأوا تقويمهم في الرّبيع- من التّقويم الرّومانيّ القديم وحتّى التّقويم العبريّ، الّذي كان يبدأ سابقًا في شهر نيسان. اِفترض الباحثون أنّ عدد الخطوط أو النّقاط يشير إلى عدد الأشهر الّتي مرّت منذ بداية العام- في الرّبيع. كما ويعتقدون أنّ من قام بتمييزها أراد أن ينقل معلومات حول حَدَثٍ وقع في ذلك الشّهر، وتتعلّق بالحيوان المرسوم بجوار هذه العلامات- على سبيل المثال: الشّهر الّذي يتزاوج فيه، أو يهاجر أو يتكاثر.
ما الذي تمثّله علامة Y الّتي تظهر أحيانًا في منتصف سطر النّقاط أو الخطوط؟ يفترض الباحثون أنّ العلامة موجودة للاحتفال بالشّهر الّذي تحدث فيه الولادات. قد يرمز الشّكل Y إلى تحوّل الحيوان إلى اِثنين عُقْب الولادة، أو ببساطةٍ، يصوّر شكل السّاقيٍن المتباعدتيْن أثناء الولادة. وفقًا للفرضية، يشير العدد الإجماليّ للعلامات إلى الشّهر الّذي تتزاوج فيه الحيوانات- وهو أيضًا الوقت الّذي تؤدي فيه طقوس التّودُّد أو المغازلة، عندما يقاتل الذّكور بعضهم بعضًا.
قال بول بيتيت (Paul Pettitt)، أحد الباحثين الرّئيسيّين في المقال، لموقع "نيو ساينتست" New scientist على الإنترنت: "هذه هي بالضّبط الأشياء الّتي أتوقع أن يسجّلها الصّيّادون وجامعو الثّمار في العصر الحجريّ. إذا كان هناك ثمّة شيءٍ يستحق التّوثيق والتّذكّر، فهوالحيوانات وكلّ ما يتعلّق بها، وخاصّة أوقات السّنة الّتي يصطاد فيها البشر، والّتي بدونها لن يتمكّنوا من البقاء على قيد الحياة؛ ولذلك، هم يقومون بجمع المعلومات عن أوقات تكاثرها وولادتها. إنّ الأمر منطقيّ للغاية".
هل حدَّد الصّيّادون وجامعو الثّمار القدامى وقت ولادة البيسون (الثّور الأمريكيّ)؟ رسومات بيسون على جدار مغارة لاكوبسييه بإسبانيا | الصّورة: Javier Trueba / MSF / مكتبة صور العلوم.
"الشّهر الّذي تلد فيه البيسون"
من أجل اختبار فرضيّاتهم، قام الباحثون بمقارنة الأشهر الّتي تتزاوج فيها الحيوانات المختلفة المصوّرة في لوحات الكهف وتلد حقيقةً، بالأشهر الّتي تشير إليها العلامات المجاورة لها، وفقًا لتفسيرهم. وقد وجدوا تطابقًا جيّدًا بين الاثنين، خاصّةً عندما يتعلّق الأمر بالخيول، البيسون، الثّيران، وكذلك الماموث، الّتي اشتقّت عاداتها الإنجابيّة من تلك الخاصّة بأقاربهم من الأفيال. على سبيل المثال، بجانب معظم لوحات البيسون، كانت هناك ثلاث أو أربع علامات، وكان هناك أيضًا عددٌ قليلٌ منها بخمس علامات. يتزاوج البيسون عادةً في الشّهر الرّابع أو الخامس بعد ذوبان الثّلوج في الرّبيع. لاحظ الباحثون أنّ التّسلسلات الّتي توجد فيها علامة Y، تكون دائمًا في المرتبة الثّانية- بالتّوافق مع الوقت الّذي تلد فيه إناث البيسون.
ومع ذلك، كانت النّتائج أقلّ وضوحًا بالنّسبة للغزلان، وكذلك بالنّسبة للماعز البرِّيّ.على ما يبدو، فقد توصّلوا إلى عددٍ مختلفٍ تمامًا من العلامات في لوحاتٍ مختلفة، ، من واحد إلى 13، دون توافقِ واضحٍ كما هو الحال مع البيسون أو الماموث. كان هذا هو الحال أيضًا مع الأسماك، على الرّغم من أنّ هذا الأمر قد يكون ناتجًا لأنّ الباحثين لم يفرّقوا بين الأنواع المختلفة من الأسماك؛ في حين أنّ الأشخاص الّذين تركوا هذه العلامات، استهدفوا نوعًا معينًا. ومع ذلك، وجد الباحثون في الطّيور أنّ علامة Y كانت دائمًا تقريبًا في المرتبة الثّانية أو الثّالثة، متوافقةً مع الشّهر الّذي تضع فيه العديد من إناث الطّيوربيضها.
يعتقد الباحثون أنّ كلّ هذه البيانات تدعم فرضيّاتهم: العلامات هي نوعٌ من التّقويم المبكِّر، وتشير إلى أحداث معيّنة في حياة الحيوانات الّتي يتمّ رسمها بجانبها. لكن، لا يتّفق الجميع على هذه الاستنتاجات.
هناك العديد من الطُّرق الجيّدة للتّنبّؤ بموعد ولادة الحيوانات البرّيَّة، لذلك لا داعي لتسجيلها. لوحة قديمة لثور البيسون وطائرٍ بشريٍّ على جدارٍ في كهف لاسكو في فرنسا. الصّورة: Javier Trueba / MSF / مكتبة صور العلوم
شكوك وأسئلة
شكَّكَ عددٌ غير قليلٍ من الباحثين في أفكار مؤلّفي المقال. تتعلّق بعض الاعتراضات بتسلسل النّقاط والخطوط نفسها. قالت عالمة الآثار الأمريكيّة كارينلي أوفرمان (Karenleigh A. Overmann) إنّ العلامات تتلاشى بعد هذا الوقت الطّويل، وليس من الواضح دائمًا، ما إذا كان شكل معيّن هو حرف Y متشعّب أو مجرد خطٍّ. "برأيي، فإنّ محاولة تفكيك هذه العلامات المتكرّرة وتحديدها يمثّل مشكلة بعض الشّيء."
طرح عالم الأنثروبولوجيا الأمريكيّ جون هوكس (John Hawks) سؤالًا مثيرًا للاهتمام يتعلّق بالمقال على تويتر: حتّى لو قمنا بتحديد علامة Y بشكلٍ صحيحٍ، عندما نريد تحديد موقعها في تسلسل النّقاط أو الّسطور، فمن أين يجب أن نبدأ العدّ- من اليمين أم اليسار؟ وكيف لمقالٍ يتناول فكرة نظامٍ مشابهٍ للكتابة ألّا يذكر هذا السّؤال إطلاقًا؟
كانت لدى هوكس أيضًا شكوك بشأن مسائل أكثر جوهريّة في فرضيّات الباحثين. أشار الباحثون في المقال إلى تطابقٍ بين موقع علامة Y بجوار رسومات لحيوانات معيّنة والشّهر الّذي تلد فيه تلك الحيوانات. لكن، وفقًا لهوكس، "كلّ هذه الحيوانات العاشبة تلد في فترة حوالي شهر أو شهريْن بعد بداية الرّبيع. لا توجد معلومات مختلفة هنا. جميعها متشابهة". التّسلسلات قصيرة، وتظهِر ببساطة في معظم الحالات علامة Y في الموضع الثّاني، بغض النّظر عن نوع الحيوان المرسوم بجانبها. هذا يقلّل بشكلٍ كبيرٍ من القُوّة الإقناعيّة لهذه البيانات.
كتب عالم الأنثروبولوجيا الأستراليّ بيرس كيلي (Piers Kelly) في مدوّنته أنّه على عكس بيتيت، فهو في الواقع لا يعتقد أنّ الوقت المحدّد للولادة أو المغازلة للحيوانات يستحقُّ هذا النّوع من التّوثيق. وأوضح أنّ "دورة حياة الحيوانات، في أيّ بيئة، مرتبطةٌ بعلامات موسميّة لا حصر لها". على سبيل المثال، عرف الصّيّادون وجامعو الثِّمار أنّ وصول طائرٍ مهاجرٍ معيّنٍ يبشِّربنضوج ضفادع من نوعٍ معيّنٍ. كما وينبّئُجفاف البحيرة بفقس اليرقات الّتي تجذب الطّيور إلى منطقة ما، وهكذا… بكلمات أخرى، أعتقد أنّ هناك طُرقًا أفضل بكثير للتّنبّؤ بموعد ولادة الحيوانات البّريّة، بدلًا من حساب الدّورات القمريّة من بداية الموسم". وأضاف أنّه بالتّأكيد لا داعي للاحتفاظِ بهذا التّوثيق للأجيال القادمة.
لا يدّعي المعارضون بالضّرورة أنّ تفسير مؤلّفي المقال خاطئ، لكنّ البيانات الحاليّة لا تكفي لدعمه.كتب هوكس: "الفرضيّة يمكن أن تكون صحيحةً فِعلًا، وأنا أحبّ الأفكار الجريئة! لكنّي أودّ أن أرى تحقيقًا أكثر شموليّةً للتّفسيرات البديلة".