حاول الباحثون والعلماء على مرّ العصور فهم وتفسير الظّواهر الطّبيعيّة الأساسيّة. لقد ساهمت الرّغبة المتواصلة في استكشاف الطّبيعة ودراستها كثيرًا في فهم القُوى الّتي تعمل على تحديد وتصميم وتفسير الظّواهر بجميع أنواعها.
تعمل في الطّبيعة أربع قوى أساسيّة - القوّة النّوويّة الضّعيفة، القوّة النّوويّة القويّة، قوّة الجاذبيّة والقوى الكهرومغناطيسيّة. تؤثّر هذه القوى الأربعة على جميع الأجسام والحيوانات في آنٍ واحد. لكن ماذا بالنّسبة للذّرّات والجزيئات؟
تتأثّر الأجسام متعادلة الشّحنة الكهربائيّة بشكل خاصّ بقوّة الجاذبيّة، وهذه هي القوّة الرّئيسيّة الّتي تتحكّم بحركة الأجرام السّماوية وانجذاب الأجسام إلى الأرض. إنّ تأثير قوّة الجاذبيّة على الذّرّات المكوّنة من الشّحنات الموجبة (البروتونات) والشّحنات السّالبة (الإلكترونات) قابل للإهمال المقارنةً بالقوّة الكهرومغناطيسيّة المسؤولة عن الرّبط بين الذّرّات المختلفة مكوّنةً مجموعات أكثر تعقيدًا، مثلًا الجزيئات. القوّة الكهرومغناطيسيّة هي المسؤولة عن تكوين أنواع عديدة من الرّوابط بين الذّرّات وكذلك بين الجزيئات. تختلف أنواع الرّوابط بقوّتها وبطبيعتها ولذلك فإنّ كلّ نوع من هذه الرّوابط مسؤولٌ عن الصّفات المختلفة للمواد وعن ظواهر طبيعيّة مثيرة ومتنوّعة.
إنّ قدرة الوزغة (أبو بريص) المُذهلة على السّير على الأجسام المنتصبة دون أن تسقط على الأرض هي مثال على ظاهرة طبيعيّة عجيبة. كيف يمكنها ذلك؟ تتعلّق الإجابة، صدّقتكم أم لم تُصدّقوا، بروابط بين جزيئيّة تُسمّى قوى فان در فالس (Van Der Waals). لكن كي نفهم ما هي هذه الرّوابط وكيف تُكسِبُ الوزغةَ هذه القدرة العجيبة علينا أن نفهم أوّلًا ماهية القوّة الكهرومغناطيسيّة وكيف تعمل على تكوين هذه الرّوابط.
القوّة الكهرومغناطيسيّة
تتشارك القوّة الكهربائيّة والقوّة المغناطيسيّة في تكوين القوّة الكهرومغناطيسيّة. تتكوّن هاتان القوّتان بوجود شحنات كهربائيّة. القوى الرّئيسيّة العاملة بين الذّرّات وبين الجزيئات في الطّبيعة هي قوى الكهرباء السّاكنة (قوّة كهربائيّة تعمل بين شحنات كهربائيّة غير متحرّكة)، وهي الّتي تحدّد نوع الرّابط الّذي يتكوّن فيما بينها وقوّته وطبيعته.
يُؤدّي وجود الشّحنات الكهربائيّة، البروتونات والإلكترونات، في بُنية الذّرّات إلى تَكوّن القوى الكهربائيّة بين زوج من الذّرّات أو الجزيئات. تتحدّد قوّة الرّابط وطبيعته وفقًا لنوع الذّرّات و الجزيئات المتفاعلة وظروف البيئة المحيطة. أنواع الرّوابط الّتي يمكن أن تتكوّن بين الذرّات أو بين الجزيئات هي الرّوابط التّساهميّة (الكوفلنتية) والرّوابط الأيونيّة والرّوابط الهيدروجينيّة.
تنجم جميع هذه الرّوابط عن قوى الكهرباء السّاكنة العاملة بين الذّرّات و الجزيئات. توجد أيضًا روابط أخرى تنجم عن قوى كهربائيّة أخرى تتكوّن نتيجة لحركة الشّحنات الكهربائيّة في الذّرّات والجزيئات والّتي تؤدّي إلى الظّاهرة الفيزيائيّة المسمّاة بالتّقطّب. تُسمّى هذه القوى بقوى فان درفالس وتُسمّى الرّوابط بروابط فان در فالس.
التّقطُّب وتكوّن ثنائي القطب في الجزيئات
عندما لا يكون انتشار الإلكترونات في الجزيء أو في الذرّة متناسقًا تتكوّن الحالة المُسمّاة بالتّقطّب. هذا يعني أنّه إذا كان عدد الإلكترونات في جانبٍ من الجزيء أكبر منه في جانبٍ آخر يكون الجزيء مقطّبًا. يحمل الجانب الّذي يكون فيه تركيز الإلكترونات هو الأكبر شحنة كهربائيّة سالبة ويُشار إليه على النّحو التّالي: (-δ). ويحمل الجانب الّذي يكون فيه تركيز الإلكترونات أقلّ شحنة كهربائيّة موجبة (+δ).
يمكن تحديد مدى توزّع الشّحنات في الجزيء بواسطة مصطلح ثنائي القطب الّذي يصف مقدار التّقطّب واتّجاهه. كلّما ازداد عدد الإلكترونات في الجانب السّالب (أي -δ أكبر) يكون ثنائي القطب أكبر. تزداد قيمة ثنائي القطب أيضًا مع ازدياد البعد بين الطّرف الّذي يحمل شحنة كهربائيّة موجبة وبين الطّرف الّذي يحمل شحنة كهربائيّة سالبة. يُمثّلُ ثنائي القطب بسهمٍ يرمز طوله إلى مقدار التّقطّب ويرمز اتّجاهه إلى اتّجاه التّقطّب (من الموجب إلى السّالب).
لننظر إلى جزيء الماء (H2O) لنجسّد عن طريقه ماهية ثنائي القطب. يتكوّن هذا الجزيء من ذرّة أكسجين (O) وذرّتين من الهيدروجين (H). "تُحبُّ" ذرّة الأكسجين الإلكترونات - بشكل طبيعيّ- أكثر من ذرّة الهيدروجين ممّا يجعل غالبيّة الإلكترونات الموجودة في جزيء الماء تتركّز بالقرب من ذرّة الأكسجين فيصبح جزيء الماء مقطبًا وله ثنائي قطب.
التّقطّب الموجود في جزيء الماء وثنائي القطب الّذي يمَثّله│التّخطيط مأخوذ من ويكيبيديا
بخلاف جزيئات الماء فإنّ جزيئات غاز الأكسجين (O2), والهيدروجين (H2) والنّيتروجين (N2)، هي جزيئات مكوّنة من ذرّتين متشابهتين، والغازات النّبيلة مثل الهيليوم (He) مكوّنة من ذرّات منفردة. توزيع الإلكترونات في جميع هذه الحالات هو توزيع متناسق، لكن هل يعني ذلك حتمًا أنّه لا يوجد ثنائي قطب في هذه الجسيمات؟ وإذا لم يكن لها ثنائي قطب فماذا سيكون نوع الرّابطة التي تتكوّن فيما بينها؟
لقد شغلت هذه الأسئلة الهامّة الكثير من الباحثين على مرّ السّنين. نجح أربعة من الباحثين في وصف ثلاثة أنواع من الرّوابط بين الجزيئات غير المشحونة والجسيمات الّتي لا تكوّن روابط أخرى فيما بينها. تسمّى هذه بروابط فان در فالس.
روابط فان در فالس
أثمرت الدّراسات غير العادية الّتي قام بها كلّ من ويلم هندريك كيسوم وبيتر ديباي الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء وفريتز وولفجانج لوندون ويوهانس ديديريك فان در فالس الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عن تعريف ثلاثة أنواع من القوى الّتي تنجم عن ظاهرة التّقطّب وتكوّن ثنائي القطب في الجزيئات:
قوى ثنائي قطب - ثنائي قطب، وتُسمّى أيضًا قوى كيسوم وهي الرّوابط الأكثر قوّةً من بين ثلاثة أنواع روابط فان در فالس. عندما يقترب جزيء له ثنائي قطب ثابت، مثل جزيء الماء، من طرفه السّالب إلى الطّرف الموجب لجزيء آخر له ثنائي قطب ثابت يحدث تجاذب بين الجزيئين. وعندما تتقارب الأطراف السّالبة لجزيئين من بعضهما يحدث تنافر بينهما.
قوى ثنائي قطب - ثنائي قطب مُحدَثة، وتُسمّى أيضًا قوى ديباي وهي تعمل عندما يقترب جزيء له ثنائي قطب ثابت من جزيء حياديّ غير مقطّب، عديم ثنائي القطب الثابت. عندما يقترب جزيء مقطّب مثل جزيء الماء كثيرًا من جزيء غير مقطّب مثل جزيء الأكسجين (O2) يتكوّن على جزيء الأكسجين ثنائي قطب صغير بتأثير ثنائيّ القطب الثّابت الّذي على جزيء الماء، أيّ أنّ ثنائي القطب الثّابت على جزيء الماء يُحدِثُ تقطّبًا على جزيء الأكسجين ويؤدّي إلى تكوين ثنائي قطب. لذا يُسمّى هذا النّوع من ثنائي القطب ثنائي القطب المُحدَث.
يتكوّن ثنائي القطب المُحدَث عندما يقترب الطّرف السّالب لثنائي القطب الثّابت من ذرّة أو جزيء غير مقطّبة. يؤدّي هذا الاقتراب إلى دفع إلكترونات الذّرّة أو الجزيء غير المقطّبة إلى الطّرف البعيد. يؤدّي انتقال الإلكترونات إلى حدوث التقطّب فيتكون ثنائي قطب مُحدَث يتّجه طرفه الموجب نحو الطّرف السّالب لثنائي القطب الثّابت فيحدث تجاذب بينهما. عندما يبتعد ثنائي القطب الثّابت يبطُل التّقطّب المُحدَث وتعود الذّرّة أو الجزيء الآخر ليصبحا غير مقطّبين.
قوى ثنائي القطب اللحظي - ثنائي القطب المُحدَث، تُسمّى هذه القوى أيضًا قوى لوندون وهي الأضعف من بين ثلاثة أنواع الرّوابط ولكنّها الأكثر تميّزًا. ما يميّز هذه القوى هو أنّها تعمل دائمًا بين أيّ زوج من الذّرّات أو الجزيئات في الطّبيعة بدون علاقة بشحنتها ومدى تقطّبها، مثل قوّة الجاذبيّة الّتي تؤثّر على أيّ جسم كان بدون علاقة بشحنته الكهربائيّة.
تتحرّك الإلكترونات بشكل دائم حول نواة الذّرّة ذات الشّحنة الكهربائيّة الموجبة. قد يصبح انتظام الإلكترونات حول النّواة، في لحظات زمنيّة قصيرة جدًّا ونتيجة لهذه الحركة، غير متناسق ممّا يولّد ثنائي قطب صغير لفترة زمنيّة قصيرة جدًّا يستمر وجوده حتّى تعود الإلكترونات وتُغيّر أماكن تواجدها نتيجة لحركتها. يسمّى ثنائي القطب من هذا النّوع بثنائي القطب اللّحظي. إذا تكوّن ثنائي قطب لحظيّ في ذرّة أو جزيء موجود بالقرب من جزيء غير مقطّب فإنّ ثنائي القطب اللّحظيّ قد يؤثّر على توزيع الإلكترونات في هذا الجزيء فيتكون فيه تقطب مُحدَث. تتكوّن في هذه الحالة قوّة تجاذب بين الجزيئين أو بين الذّرّتين. تؤدّي قوى لوندون إلى تجاذب بين الذّرّات والجزيئات فقط وتُسمّى أيضًا بقوى التشتُّت (Dispersion).
يوضّح الفيديو التّالي كيف تتكوّن رابطة فان در فالس بين ذرّتين حياديّتين بواسطة ثنائي قطب لحظيّ مُحدَث. نشاهد في الفيديو إلكترونات الذّرّتين وهي تتحرّك من جانب إلى آخر حول النّواة (النّقطة السّوداء) مُكوّنةً ثنائي قطب لحظيّ. عندما تكون الذّرّتان قريبتين من بعضهما البعض يؤدّي ثنائي القطب اللّحظيّ في إحداهما إلى تكوّن ثنائي قطب مُحدث لدى الذّرّة الثّانية وتتجاذب الذّرّتان إلى بعضهما مكوّنة رابطة فان در فالس فيما بينهما.
فالس والوزغة (أبو بريص)
صحيح أنّ روابط فان در فالس بين ذرّتين/جزيئين هي روابط ضعيفة لكن ما الّذي يحدث عندما تتكوّن هذه الرّوابط بين عدد كبير من الجزيئات أو الذّرّات؟ يمكن أن نجد الإجابة في إحدى الظّواهر الطّبيعيّة المثيرة. لذلك علينا أن نتعرّف أوّلًا على الوزغة (أبو بريص).
قبل أن يتعرّف العلماء لأوّل مرّة على الذّرّة استعملت الوزغة قوى فان در فالس للتّسلّق على الحيطان والشّجر وصيد الحشرات. الوزغة هي سحليّة صغيرة مغطّاة بقشور ذات ألوان متغيّرة من البرتقاليّ الفاتح حتّى البنيّ الفاتح. إحدى صفاتها المثيرة هي قدرتها العجيبة على التّسلّق على الحيطان والأجسام العموديّة الملساء. لكن لماذا لا تسقط الوزغة عن هذه الأجسام؟ وكيف تلتصق بالحيطان؟
تتكوّن كفّة رجل الوزغة من ألياف دقيقة جدًا (حوالي عُشر قُطر شعرة رأس الإنسان) وتُسمّى باللّغة العلميّة Setae. عدد الألياف في كفّة رجل الوزغة هو عدد ضخم - ما يُقارب 5000 ليف في المليمتر المربّع الواحد. ينقسم كلّ ليف من هذه الألياف إلى ألياف أكثر دقّة تُسمّى علميًّا Spatulae. تُكوّن الجزيئات الموجودة في أطراف هذه الألياف، وغالبيتها زلاليات (بروتينات)، روابط فان در فالس مع الجزيئات والذّرّات الموجودة على السّطح الّذي تلامسه. على الرغم من أن ّروابط فان در فالس ليست قويّة فإنّ شدّتها تصبح قويّة جدًّا لأنّ عددًا كبيرًا جدًّا من الألياف يتلامس مع السّطح. التّجاذب بين أطراف ألياف أرجل الوزغة وبين السّطح يكون قويًّا بشكل يتيح المجال للوزغة السّير عموديًّا حتّى على الزّجاج الأملس.
تصوير الألياف التي تُكوّن كفّة رجل الوزغة بواسطة مجهر الإلكترونات│ أخذت الصّورة من مقالة نُشرت في مجلة Nature سنة 2000 (Adhesive Force of a Single Gecko Foot-Hair)
لقد أصبح بإمكاننا تفسير وفهم هذه الظواهر المثيرة للاهتمام والكثير من الظواهر الأخرى بعد جهود كبيرة مقرونة بحب استطلاع بذلها علماء مثل كيسوم وديباي ولندن و فان در فالس. كما وأدّى فهمنا لروابط فان در فالس إلى فهم صفات سوائل وغازات مختلفة وسلوك أنظمة التّوزيع مثل المستحلبات والمحاليل المعلقة وغيرها. إنّ هذا هو مثال رائع للطّريقة الّتي يمكن للعلم أن يفسّر بواسطتها ظواهر طبيعيّة مثيرة لحبّ الاستطلاع عن طريق اكتشافات أساسيّة مثل القوى والرّوابط بين الجزيئات والذّرّات.