من المُشاهَد أنه في كل فترة وفترة , وعند تقدم العلم والتكنولوجيا فانه يجلب معه ازدهاراً جديداً , وهنالك ارادة وتطلع دائمين للوصول الى أبعد ما يمكن , ابعد مما تسمح لنا به الطبيعة .
اذا آمن الكيميائيون في الماضي أنهم سيكتشفون طريقة يحولون فيها الرصاص الى ذهب , واحياناً اقنعوا البعض بانهم نجحوا في ذلك , نرى ان الهدف الكبير المنشود في فترتنا هو الإندماج البارد , نجد هنالك اشخاص يدعّون المرة تلو الأخرى أنهم نجحوا في تحصيله .
ما هو الإندماج ؟ الإندماج هو عملية تندمج فيها ذرات من عنصر معين معاً حتى تتكون ذرة من مادة أخرى , المثال الأهم والأشهر هو اندماج ذرتا هيدروجين لذرة هيليوم , وعند فحص كتلة ذرات الهيدروجين مقارنة بكتلة الهيليوم المُتكوِّن مع بقية نواتج الإندماج , نرى ان كتلة النواتج اقل . مفهوم أن الكتلة نفسها لم تفنى – ببساطة تحولت الى طاقة , وحسب المعادلة المشهورة التي صاغها البيرت اينشتاين : E=MC2.وهذه الطاقة يمكن رصدها لإحتياجات مختلفة .
المفاعل النووي الإنشطاري ليبشتات في سويسرا – انتاج كهرباء مُكلِف وخطر مقارنة بالإندماج | الصورة مأخوذة من ويكيبيديا , منتج الصورة: Roland Zumbuhl
الإندماج اذاً , هو مصدر ممتاز للكهرباء . عملياً , هذا مصدر طاقتنا الشمسية تماماً والتي يحدث في نواتها إندماج ذرات هيدروجين . في عملية الإندماج لا تنطلق طاقة كثيرة فحسب . بل هنالك أفضليتان مهمتان مقارنه بالعملية العكسية للإنشطار النووي , وفيها ينتجون اليوم كهرباء في مفاعلات نووية .
الأفضلية الاولى بيئية : نواتج الإندماج , أي ذرات الهيليوم , فانها غير مُشعة وليست سامة بأي شكل من الأشكال . عملياً , ولأن الهيليوم عنصر نادر على سطح الكرة الارضية , بالإمكان إيجاد إستعمالات هامة للذرات التي تم الحصول عليها في عملية الإندماج .
الأفضلية الثانية وهي الوفرة : الهيدروجين , الذي هو المادة الخام للإندماج , هو مادة متوفرة جداً على سطح الكرة الأرضية , فهو أحد مركبات جزيء الماء , والماء كما هو معروف أحد المواد الأكثر إنتشاراً في عالمنا . وليس كما في الإنشطار النووي , الذي يتطلب تفاعل معقد لتعدين اليورانيوم أو البلوتونيوم وتخصيبها , يمكن إنتاج غاز الهيدروجين في تفاعل أبسط والمادة الخام متوفرة ورخيصة .
.
الإندماج اذاً , هو مصدر الطاقة المثالي , لكن هنالك مشكلة مركزية واحدة فيه , كي نتسبب بإندماج ذرات الهيدروجين يجب أن نجعلها تصطدم ببعضها البعض , ولكن كلما اقتربت الذرات من بعضها أكثر ازدادت شدة التنافر بينها . لذا من اجل أن نجعلها في وضع تكون قريبة من بعضها كي تندمج , يجب تزويدها بطاقة إبتدائية كبيرة .
في نواة الشمس درجة الحرارة مرتفعة لدرجة انه توجد طاقة كبيرة لذرات الهيدروجين فتنجح في التغلب على التنافر المتبادل من اجل حدوث الإندماج , ولكن عندما نرغب في إستعمال الإندماج للحصول على الطاقة على سطح الكرة الارضية , نكتشف انه من الصعب جداً إنتاج حرارة مرتفعة الى هذا الحد .
هكذا نشأ مبدا الإندماج البارد , وتسابق علماء كثيرون خلف طموح إيجاد ظروف تُمكِّن من حصول عملية إندماج ذرات هيدروجين بدرجات حرارة منخفضة اكثر . وهكذا ركض الكيميائيون في الماضي خلف الذهب والغنى , وفي ايامنا قمة طموح علماء كثيرين إيجاد مصدر متكامل للطاقة .
البحث عن الإندماج البارد وصل الى القمة عام 1989 , عندما أعلن كيميائيان في مؤتمر صحفي احتفالي أنهم وجدا في تفاعل الكتروليزا لفلزات داخل ماء ثقيل انطلاق طاقة اكثر بكثير من تلك التي استثمرت في التفاعل , وذلك بفضل إندماج بارد لذرات هيدروجين في الماء . وقد حاولت مجموعات كثيرة اعادة هذه التجربة ولكن دون جدوى , واخيراً عُرفت اخطاء القياس والأخطاء النظرية التي قاموا بها وأثبت عملياً أنه لم تتكون أي طاقة في هذا التفاعل . كان ذلك خطأ آخر من اخطاء كثيرة في المجهود المُستمر دون توقف لإيجاد طاقة رخيصة ( رغم وجود من تجرؤا على الإدعاء أنه كان خداعاً مقصوداً ) , اخفاق إضافي في سلسلة التجارب للحصول على الإندماج البارد .
اندماج ذرات الهيدروجين , الصعوبة في جعلها تقترب من بعضها | المخطط من ويكيبيديا
هل يوجد مستقبل للإندماج البارد ؟ معظم العلماء اليوم مقتنعون أن عملية الإندماج البارد غير ممكنه , لكن ما زال بعض العلماء يؤمنون به ويحاولون ايجاد طريقة للحصول عليه . حتى الآن دون أي نجاح في هذا المجال , أحياناً يُعلن عن أدلة النجاح في تنفيذ الإندماج البارد . ولكن يتم دحض المُكتشفات بسرعة , عملياً يتلقاها العلماء أصلاً بنوع من الشك والريبة .
إحدى الطرق المرحلية , بين الإندماج البارد والإندماج الساخن , هي محاولة تنفيذ تجربة الإندماج داخل فقاعات ماء , وذلك بواسطة "قصفها" بامواج صوتيه والتي تتسبب بهدم جدران الفقاعة بسرعة , هكذا تسخن الفقاعة خلال فترة قصيرة لدرجة حرارة مرتفعة تُمكِّن من حدوث الإندماج. بهذه الطريقة من المُفترض ان يكون الإندماج إندماجاً ساخناً , لكنه يحدث في بيئة باردة . حتى الآن ورغم أن التقارير الأولية أيضاً أشارت الى نجاح حدوث عملية الإندماج , لم تنجح التجارب المتكرره لإثبات أن ما حدث في فقاعة الماء كان إندماجاً .
وماذا بالنسبة للإندماج الساخن ؟ هذا المجال بالذات يتقدم بوتيرة مذهله . رغم أن ذلك قد يكون مفاجئاً , إلا أنه توجد اليوم طريقة حتى ولو لفترة زمنية قصيرة ومكان صغير ومحدد جيداً , للحصول على درجة حرارة أعلى من تلك الموجودة في نواة الشمس , اذا أضفنا في نفس المكان ذرات هيدروجين , يحدث اندماجها بطريقة مشابهه للعملية التي تحدث في مركز الشمس .
هكذا فان المشكلة الفيزيائية المتعلقة بايجاد طريقة لتنفيذ الإندماج على الكرة الأرضية قد وجدت طريقها الى الحل – وذلك بفضل عمل غير قليل يتم في قسم الفيزياء - معهد وايزمن , الذي يمتلك المعدات اللازمة لإنتاج درجات الحرارة المطلوبة . يتركز الجهد الآن بإيجاد حلول هندسية تُمكِّن من تحويل هذه العملية لأداة عملية ومُربحة من ناحية إقتصادية ومن ناحية ميزان الطاقة . واذا نجحنا في ذلك , لا شك اننا سنرى محطات لتوليد الكهرباء مرتكزه على إندماج الهيدروجين . واليوم هذه هي التكنولوجيا الأضمن للحصول على طاقة بعملية الإندماج .