خِلافًا للاعتقاد الشّائع، يبدو أنّ اتّجاه الكتابة بلغات مختلفة لا ينبع بشكل مباشر من الانتقال التّاريخيّ من الكتابة المسماريّة إلى الكتابة بالحبر. لماذا إذًا، ورغم كلّ شيء، حدثت هذه التّغييرات الكبيرة، وكيف كادت سرقة خيار البحر أن تقضي على اتّجاه الكتابة الخامس؟
لماذا نكتب بالطّريقة الحاليّة؟ تُكتب اللّغتان العربيّة والعبريّة، بالإضافة إلى عشر لغات أخرى على الأقلّ من اليمين إلى اليسار. رغم من تطوّر معظم اللّغات الأخرى المستخدمة اليوم، من نصّ قديم مشترك لها وللغات كالعربيّة والعبرية، إلّا انّ معظمها يُكتب من اليسار إلى اليمين. عندما تساءلتُ، كطفلة تتحدّث العربّية، عن سبب كتابة العديد من اللّغات في الاتّجاه المعاكس للغتي الأمّ، عَلِمتُ بأنّ اللغات القديمة نُحتت بمطرقة وإزميل على الحجر، بينما تمّت كتابة اللغات الأحدث، كاللّغات الأوروبيّة، بالحبر على الورق. وفقًا لهذا التفسير، ونظرًا لاستعمال معظم البشر يدهم اليُمنى للكتابة، يُفترض بانّ نحت الأحرف على الحجر من اليمين إلى اليسار هو أكثر سهولة، بينما يتم ترجيح الكتابة على الورق من اليسار إلى اليمين، كي لا تلطّخ اليد الكاتبة الصّفحة بالحبر كما قد يحدث في الاتّجاه المعاكس. رغم سماع هذا التفسير، أصابتني الدهشة، لأنني لم أشعر بفرق ملحوظ في الكتابة بالحبر على ورق بين اللّغتين الإنجليزيّة والعربيّة.
في الواقع، يعترض العديد من العلماء على هذه الحجّة. أوّلًا، الادّعاء بأنّ اتّجاه الكتابة مرتبط بميل الحبر لتلطيخ الصفحة غير مقنع، حيث كتب المصريّون القدماء الهيروغليفيّات في جميع الاتّجاهات على ورق البرديّ، أو رسموها بالألوان على جدران وأسطح أخرى قبل حواليْ 4600 سنة. كما كُتبت لغات أخرى في الشرق الأوسط بالحبر من اليمين إلى اليسار على مواد مثل الكتّان، البردي والبرشمان.
كتب المصريّون القدماء الهيروغليفيّة في كلّ اتّجاه على ورق البرديّ، أو رسموها بالألوان على الجدران وأشياء أخرى. برديّة للفرعون أمنحتب، قبل حوالي 1400 قبل الميلاد | متحف المتروبوليتان للفنون.
كما أنّه ليس واضحًا لماذا اعتبروا الحفر بالإزميل أسهل من اليمين إلى اليسار. للنّجاح بإنتاج إشارة كما هو مطلوب، يتطلّب عادةً تنويع زاوية الحفر بالحجر بين اليمين واليسار بالتناوب، وغالبًا ما يكون الحفرعموديًا. تمّت كتابة الهيروغليفيّة المصريّة، أو نقشها في كلّ الاتّجاهات دون تفضيل واضح لاتّجاه معيّن. علاوةً على ذلك، فإنّ الكثير من الكتابة، كالكتابة المسماريّة على سبيل المثال، تمّت عن طريق النقش أو الحفر على مواد ناعمة مثل الطين. بالنّسبة لأصحاب اليد اليُمنى، فمن الأسهل نقش الحروف عند رؤية الحرف السّابق، بدون تغطيته باليد الكاتبة.
إذا لم يكن ذلك كافيًا، فإنّ أقدم الكتابات تاريخيًّا، لم تُكتب بالضرورة من اليمين إلى اليسار. بما فيها الكتابة المسماريّة -وهي أقدم نصّ معروف لنا-، الهيروغليفيّة القديمة، والخطّ الكنعانيّ البدائيّ الذي تطوّرت منه جميع أنظمة الكتابة السّاميّة والأوروبيّة التي تُمارس اليوم.
جزء كبير من الكتابة، على سبيل المثال في الكتابة المسماريّة، عن طريق الحفر أو النقش على مواد ناعمة مثل الطين. نقش آشوريّ يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، مصنوع من نقش ستسيلوس على الطين الرطب بواسطة قصب السّكّر | Sheila Terry، Science Photo Library
كُتبت معظم الألواح في الكتابة المسماريّة من اليسار إلى اليمين. حيث أنّ الكتابة الهيروغليفيّة المصريةّ تُقرأ رأسيًّا وأفقيًّا على حد سواء. عند الكتابة أفقيًّا، فإنّ اتّجاه الكتابة والقراءة أحيانًا يكون من اليمين إلى اليسار، وأحيانًا في الاتّجاه المعاكس، ويتمّ تحديده حسب الاتّجاه الذي تنظر إليه الرّموز: دائمًا إلى بداية السّطر.
الكتابة الهيروغليفية المصريّة تُقرأ رأسيًّا وأفقيًّا، وفي كلا الاتّجاهين. في الصورة: 1. كتبت الحروف الهيروغليفيّة في أعمدة رأسيّة بوادي الملوك في مصر؛ 2. تتّجه الرّموز لليمين، القراءة من اليمين إلى اليسار؛ 3. تتّجه الرموز إلى اليسار، القراءة من اليسار إلى اليمين | Shutterstock، Luke Klingensmith، Fedor Selivanov، Dudareva1386
تشير الرّموز في الكتابة المسماريّة والهيروغليفيّة أحيانًا إلى كلمات كاملة، وأحيانًا إلى مقاطع لفظيّة، فيما ترمز في أحيان أخرى إلى أحرف. لكن حتّى أقدم نظام حرفيّ معروف لنا، وهو النصّ البدائيّ الكنعانيّ (المعروف أيضًا باسم أبجديّة سينائيّة أوليّة) والّذي تمّ استخدامه منذ حوالي 3800 عام، كُتب في اتّجاهات مختلفة، وأحيانًا غيّر اتّجاهه عدّة مرّات في نفس النّصّ.
أقدم نظام حرفيّ، النظام البدائيّ الكنعانيّ، كتبت في اتّجاهات مختلفة، وفي بعض الأحيان تمّ تغيير الاتّجاه في نفس النّصّ. أوّل نقش كنعانيّ تمّ فكّ شيفرته من سرابيط القديم - يغيّر الاتّجاه ويسبّب الفوضى | المصدر: ويكيبيديا | William Foxwell Albright، The Proto-Sinaitic Inscriptions and Their Decipherment
عندما وصل الخطّ الفينيقيّ، والذي كان قائمًا على النصّ البدائيّ الكنعانيّ، وشكَّل على ما يبدو مصدرًا لتطوّر جميع أنظمة الكتابة الهنديّة والغربيّة، تمّ تثبيت الكتابة من اليمين إلى اليسار فقط. ومنه أُشتقّ اتّجاه الكتابة العربيّة والعبريّة، وأنظمة الكتابة الأخرى في المناطق التي استقبلت التّجار الفينيقيّين. لكن في حين أن أنظمة الكتابة الأوروبيّة تستند أيضًا إلى نفس الكتابة الفينيقيّة، تتمّ كتابتها من اليسار إلى اليمين. إذا كان الأمر كذلك، فكيف ومتى تغيّراتّجاه الكتابة باللّغات الأوروبيّة؟
كلمات أحفوريّة
التّحدّي الذي يواجه علماء الكتابات القديمة (من اليونانيّة: رسم أثريّ)، يشبه التّحدّي الذي يواجهه علماء الحفريّات (علماء الأحياء القديمة): يتوجّب عليهم فكّ رموز التطوّر المستمرّ، بالاعتماد على اكتشافات جزئيّة. التحدّي مشابه لمحاولة إعادة إنشاء فيلم من خلال جمع صور متفرّقة منه. كلّما زاد عدد الصور التي لدينا، وكلّما استطعنا وضعها في التسلسل الزّمنيّ الدقيق، تمكنّا من إعادة إنتاج الحبكة بشكل أفضل.
يُعتقد على نطاق واسع، أنّ أنظمة الكتابة الغربيّة المكتوبة الآن من اليسار إلى اليمين، تطوّرت من الكتابة الفينيقيّة المكتوبة من اليمين إلى اليسار. كيف يمكن تفسير انعكاس اتّجاه الكتابة؟ يُظهر التدقيق بشكل الأحرف على مرّ الوقت أنّه بعد الانتقال من اللاتينيّة القديمة إلى اللاتينيّة، في حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، لم يتمّ عكس اتّجاه الكتابة فحسب، بل تمّ عكس شكل الحروف، والتي أصبحت صورًا معكوسة لنفسها. يبرز هذا التّغيير بشكل خاصّ في الحروف غير المتماثلة (L وَ N وَ P وَ R وَ S). هناك تشابه مذهل بين الأبجديّة الفينيقيّة وأقدم أبجديّة يونانيّة، والتي تمّ اكتشافها منذ القرن الثامن قبل الميلاد -قبل عكس صور الأحرف في المرآة- عندما كانت الحروف لا تزال تكتب من اليمين إلى اليسار.
كيف ومتى إذًا حدث هذا الانعكاس المزدوج بترتيب كتابة الحروف وفي شكلها؟ يُظهر التاريخ أنّ الانعكاس كان حادًّا في بعض اللغات، نتيجة اصطدام متأخّر بين أنظمة كتابيّة متنافسة في نفس اللّغة. في إنجلترا على سبيل المثال، اتّبعت الكتابة من اليمين إلى اليسار حتّى نهاية الألفيّة الأولى بعد الميلاد، بأبجديّة رونيّة تسمى فوثارك (Futhark)، والتي سمّيت على اسم الرّموز الستّة الأولى فيها. لم يكن حتّى نهاية الألفيّة الأولى بعد الميلاد، مع انتشار المسيحيّة الرومانيّة في أوروبا، حيث حلّت الأبجديّة اللاتينيّة محل الحروف الرونيّة على الفور تقريبًا، ومعها تغيّر اتّجاه الكتابة والقراءة أيضًا بشكل حادّ.
يظهر صراع مماثل اليوم في اللغة الأذربيجانيّة، ومن هنا كانت مكانتها الحصريّة باعتبارها اللغة الوحيدة، التي تُقرأ وتُكتب بشكل متكرر في كلا الاتجاهين الأفقيّين. حوالي 10 ملايين من سكان جمهوريّة أذربيجان يكتبون ويقرؤون من اليسار إلى اليمين، في مزيج من الأحرف السيريليّة (الروسيّة) واللّاتينيّة. يعيش 15 مليون أذربيجانيّ إضافيّ في شمال إيران ويتحدّثون اللغة نفسها، لكنّهم يكتبونها ويقرؤونها من اليمين إلى اليسار بالخطّ الفارسيّ العربيّ.
لكن الأذربيجانيّة والإنجليزيّة هما استثناءات، وفي معظم أنظمة الكتابة من اليسار إلى اليمين كان التغيير أكثر تدريجيًّا.
كما يحرُث الثّور
هناك أربعة اتّجاهات رئيسيّة للكتابة: تُكتب العربيّة والعبرية من اليمين إلى اليسار، فيما تكتب لغات أوروبا من اليسار إلى اليمين، وتُكتب لغات شرق آسيا من أعلى إلى أسفل، مع تقدّم الأعمدة في بعض اللّغات من اليمين إلى اليسار(كالكوريّة، الصينيّة واليابانيّة)، ومن اليسار إلى اليمين في البعض الآخر (كالأويغورية والمنغولية)، وأخيرًا، لغة الباتاك السموطريّة ولغة "الأونوا" التي يكتبها الفلبينيون من الأسفل إلى الأعلى. لكن هنالك أيضًا إمكانيّة خامسة في اتّجاه الكتابة، ولعلّها تُفسّر بالفعل آليّة الانعكاس.
معظم النّقوش اليونانيّة الباقية من القرن السادس قبل الميلاد لم تكتب من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، إنّما من مزيج يُسمّى ببوستريبيدون (Boustrophedon). وفقًا لهذه الطريقة، تبدأ الكتابة في اتّجاه واحد، لكنّها تستمّر في السطر التالي في الاتّجاه المعاكس، وهكذا دواليك. في اللغة اليونانيّة، بوس (βοῦς) هو ثور، ستروبي (στροφή) تعني دوران، ودون ( δόν) توصف ظرف الفعل. تشبه طريقة الكتابة حراثة الثور للحقل - ذهابًا وإيابًا، مع انعكاس الاتّجاه في نهاية كل تلم. وفقًا لذلك، تُكتب الأحرف الموجودة في الأسطر الزوجيّة عادةً بشكل معاكس للأحرف الموجودة في الأسطر الفرديّة، بحيث يتسنّى معرفة الاتّجاه الذي كُتب فيه كلّ سطر.
إنّ مرحلة التّحوّل للكتابة البستروبيدونيّة واضحة في العديد من النصوص اليونانيّة القديمة. أحد المخلّفات المعروفة المكتوبة بهذه الطريقة هي شيفرة جورتين - قوانين مدينة جورتين في جزيرة كريت، التي نظّمت ملكيّة العبيد، الميراث وأنظمة التبنّي، وفرضت عقوبات على الاغتصاب والزنا وغيرها. رغم تآكل معظم النقوش، الّا أنّ الجزء الباقي منها، بعرض حوالي عشرة أمتار وارتفاع متر ونصف، مثير للإعجاب للغاية. كنصّ بستروبيدوني كلاسيكيّ، تمّت كتابة الأسطر الفردية فيه من اليسار إلى اليمين، والزوجيّة من اليمين إلى اليسار. يظهر انعكاس اتّجاه الحروف بين السطور في الأحرف غير المتماثلة في اليمين واليسار مثل E أو P أو S.
من البقايا المعروفة المكتوبة بهذه الطريقة كود جورتين - قوانين مدينة جورتين في جزيرة كريت. مقتطف من كود جورتين، 450 قبل الميلاد | ويكيبيديا ، PRA
ماذا حدث للبوستروبيدون؟
ظهرت تقنيّة الكتابة المتقطّعة هذه بشكل مستقلّ في عدّة أماكن في العالم، على سبيل المثال، في الشعوب الصفائيّة في سوريا، في إمبراطورية سبأ المألوفة لنا من قصّة الملكة سبأ والملك سليمان، وأماكن أخرى. في علم اللّغة، كما هو الحال في علم الأحياء، يشير التطوّر الموازي لصفة ما، والتي تتطوّر بشكل مستقلّ في أماكن وسلالات مختلفة، إلى بعض مزايا هذه الصّفة. في الواقع، يجلب البستروبيدون معه مزايا والتي بفضلها هناك من يحاول اليوم إحياءه.
لنتخيّل على سبيل المثال، أننا نقف على قمة سلّم في مدينة جورتين، ونحفر نصًّا طويلًا على الحائط. من السهل أن نفترض أننا نفضّل أن نبدأ سطرا جديدًا في نهاية السطر السابق، بدلاً من النّزول على السلّم في نهاية كل سطر، ونقل جميع المعدات إلى الجانب الآخر للبداية بالسطر التالي. هذه الميزة لا تزال سارية حتى اليوم، وليس فقط لمن قاموا بنحت النّقوش الحجريّة: في نهاية كل سطر من القراءة أو الكتابة، يلزم تأخير قصير، لتحريك النظرة إلى بداية السطر التالي على الجانب الآخر من الصفحة أو الشاشة. كلما كان السطر أطول، وكلما كانت الكتابة بخط اليد وغير مستقيمًة تمامًا، كلما زاد التأخير في العثور على بقيّة النص.
لذلك، يرى البعض أنّه بعد التعوّد عليها، تصبح قراءة نصّ البوستروبيدون أكثر فعاليّة وسرعة. يقدّم مؤيّدو الطّريقة أدوات مجّانيّة وأنظمة تطوير البرامج لتحويل الملفات النصّيّة الحاليّة إلى بوستروبيدون، وقد تمّ إنشاء مواقع تقدم قصصًا للقراءة بهذه الصيغة.
هناك من يعتقد أنّه بعد التعوّد عليه، تصبح قراءة النص البستروبيدوني أكثر فعاليّة وسرعة. بداية قصّة الأطفال الكلاسيكيّة "الأرنب المخمليّ" لمارجري ويليامز: فرصة لممارسة مهارات البستروبيدون الخاصّة بكم باللغة الإنجليزيّة.
كان العصر الذهبيّ للبستروبيدون في اليونان في القرن السّادس قبل الميلاد. وفي القرن الخامس بدأ هذا النمط من الكتابة بالاختفاء تدريجيًّا، وفي العصر الهلنستيّ، ابتداءً من القرن الرابع قبل الميلاد، تمّ تحديد اتّجاه الكتابة من اليسار إلى اليمين. السبب الذي دفع اليونانييّن إلى تفضيل هذا الاتّجاه بالتحديد غير واضح. يدّعي بعض علماء النفس أنّه بسبب الاختلافات في نشاط الجانبين الأيمن والأيسر للدماغ، هناك ميزة معيّنة للكتابة من اليمين إلى اليسار في أنظمة الكتابة الساكنة مثل العربّية أو العبريّة، والتي لا تحتوي على أحرف حركة تقريبًا، بينما في أنظمة الكتابة التي تتضمّن أحرف ساكنة إلى جانب الحركات، فإنّ الأفضلية للكتابة هي من اليسار إلى اليمين. مع ذلك، فإنّ هذا التفسير قابل للنقاش.
فرضيّة أخرى، هي أنّه هناك خلفيّة قويّة للكتابة من اليسار إلى اليمين في الثقافة اليونانيّة، باتّباع تقاليد الكتابة السابقة التي كانت تمارس هناك. كان هذا "نظام خطّيّ ب" على سبيل المثال، والذي تمّ استخدامه في اليونان القديمة حتّى القرن الحادي عشر قبل الميلاد. لم يتمّ العثور على أدلّة كافية لهذا التّفسير أيضًا.
فرضيّة إضافيّة هي أنّ الكتابة اليونانيّة لم تنبثق عن الفينيقيّين، بل هي بالأحرى كنعانيّة. رغم أنّ الخطّ الفينيقيّ كان هو السائد في الشرق الأوسط، إلّا أنّ الخطّ البدائيّ الكنعانيّ لم يختف كلّيًّا، بل تطوّر إلى كنعانيّ واستمرت كتابته -على عكس الفينيقيّ- في جميع الاتّجاهات. وفقًا لهذه الفرضية، فإنّ النصّ اليونانيّ قائم على الكنعانيّة، لذلك يمكن الافتراض أنّه كتب بدون اتّجاه موحّد حتّى القرنين السّابع والسّادس قبل الميلاد.
بغض النّظر عن الاتّجاه المحدّد المُختار، يبدو أنّ القرار بشأن اتّجاه كتابة موحّد يبسّط الكتابة والقراءة بشكل كبير. كدليل، رغم فوائده، اختفى البستروبيدون في النهاية، وجميع أنظمة الكتابة الرئيسيّة في العالم الحديث حدّدت اتّجاه كتابة ثابت.
سرقة خيار البحر العظيمة
لأكثر من ألفيْ عام لم يتمّ استخدام البستروبيدون خارج أقسام علوم الّلغة والتاريخ، تمّ استخدامه على الأكثر كأداة فنيّة. هذه هي الطريقة التي أدّت إلى اختراع اللّغة المحيط أطلسيّة على سبيل المثال - لغة البستروبيدون الغنيّة التي طوّرها اللّغويّ مارك أوكراند من أجل فيلم "أتلانتس". اكتسب أوكراند شهرة لغويّة سابقًا في هوليوود بعد تطوير لغة معقدة للكلينجوس (Klingon) لسلسلة أفلام رحلة بين النّجوم (Star Trek). تمام كلغة الكلينجوس، كان للغة المحيط أطلسيّة أيضًا قواعد نحويّة مفصّلة ونظامًا كبيرًا للكتابة والمفردات، لكن لم يتمّ التحّدّث بها وكتابتها خارج استوديوهات ديزني.
أوكراند يعلّم أبجديّة لغة المحيط أطلسيّة
في عام 2001 ، تمّ إحياء البستروبيدون في مكان غير متوقّع - جزيرة بنتيكوست في المحيط الهادئ. تشتهر الجزيرة الصغيرة، الواقعة بين أستراليا ونيوزيلندا، بفعالية "غوص الأرض" (land diving)، التي ألهمت اختراع قفزة البنجيّ. في عام 2001، ظهرالرّئيس فيرليو بوبورنفانوا (Boborenvanua) من جزيرة بنتيكوست في مؤتمر الأمم المتّحدة بشأن الشعوب الأصليّة، معلنًا رسميًّا إنشاء دولة توراغا (Turaga) المستقلّة في شمال شرق الجزيرة.
شكّل الإعلان تتويجًا للتوتّر المتزايد بين سكان الجزر والحكومة الغربيّة في طبيعتها، والتي هي نتاج للاستعمار البريطانيّ والفرنسيّ. أعلن الرّئيس أنّه سيكون للأمّة، من بين أشياء أخرى، عملتها وبنكها الخاصّة بها، استنادًا إلى أنياب الخنازير البرّيّة والمحار، ولغة استنادًا إلى لغة راجا (Raga) وهي إحدى اللّغات التقليديّة لمنطقة ميلانيزيا، ونظام كتابة يسمّى بالافيولي (Avoiuli) يعتمد على اللّوحات الرمليّة التقليدية في الجزيرة. نظرًا لأنّ السمة المركزيّة للرسومات الرمليّة هو رسمها دفعة واحدة، دون رفع العصا عن الأرض، فقد تمّ إنشاء اللّغة أيضًا بحيث يمكن كتابتها بشكل مستمرّ دون رفع القلم عن الورقة. لذلك كان البستروبيدون هو الخيار الواضح.
طوّر بوفورنوفناوا نظام كتابة يسمّى أفيولي، يعتمد على اللوحات الرمليةّ التقليديةّ في جزيرة بنتكوست. أعلاه: اللّوحة الرمليّة التقليديّة. أدناه: أبجدية أفيولي ويكيبيديا ،PhillipC ، سيمون أجار / Omniglot.com
لمدّة 14 عامًا، أدارت دولة توراجا المستقلّة مدرسة تقليديّة صغيرة بلغة أفيولي، حيث تعلّم العشرات من الأطفال كتابة البستروبيدون، ولكن في سنة 2015 حدثت الأزمة. داهم القرويّون المجاورون الريف في توراجا وسرقوا خيار البحر، وهو منتج غذائيّ مرغوب. وردًّا على ذلك، نظّم الرّئيس بوبورنفانوا غارة على القرية المجاورة، تم من خلالها إحراق العديد من الأكواخ. انتهت المغامرة باعتقال الرّئيس، ممّا أدى إلى إلحاق أضرار وخيمة بالنشاط وإغلاق المدرسة. اليوم، لا يوجد سوى القليل ممّن يمكنهم القراءة والكتابة بالطريقة التي ابتكرها بوبورنفانوا، ويبدو أنّ عادة الكتابة والقراءة في بوستروبيدون تسير في طريقها إلى صفحات التاريخ.
لمدّة 14 عامًا، أدارت دولة توراجا مدرسة صغيرة بلغة أفيولي، حيث تعلّم عشرات الأطفال الكتابة بالبستروبيدون. لائحة الدخول إلى المدرسة. يظهر اسمها في الجزء العلويّ من كتاب بوستروبيدوني: "المعهد الميلانيزيّ للعلوم والفلسفة والإنسانيّة والتكنولوجيا". فيما يلي المواد التي يتمّ تدريسها بلغة إنجليزية ركيكة. تصوير: Tabisini، ويكيبيديا.
عولمة "الأفقيّ رأسيّ"
قبل الختام، لنلق نظرة سريعة على الشرق الأقصى، الذي شهد أيضًا تغييرات جذريّة في مجال اتّجاه اللّغة. تمّت كتابة اللّغة الكوريّة، اليابانيّة والصّينيّة لسنوات عديدة من الأعلى إلى الأسفل، مع قراءة الأعمدة من اليمين إلى اليسار. لذا فإنّ تصفّح كتاب باللغة الصينيّة كان يشبه تصفّح كتاب بالعربيّة. اليوم، تُكتب الثلاث لغات بشكل أفقيّ، من اليسار إلى اليمين على غرار اللغة الإنجليزيّة، كما تمّ عكس ترتيب الصّفحات في الكتب. حدثت هذه التغيّرات مؤخّرًا نسبيًّا نتيجة للعولمة.
كان أوّل برعم يبشّر بتغيير الاتّجاه في الصّين في كانون الثاني 1915م، مع نشر العدد الأوّل من مجلّة العلوم (科學). افتتحت الطّبعة جملة مكتوبة بشكل واضح من اليسار إلى اليمين: "هذا العدد مطبوع بالعرض، بدءًا من أعلى اليسار، ليس من أجل الابتكار ولكن لتسهيل إدخال الصيغ الرياضيّة، الفيزيائيّة والكيميائيّة. نعتذر لقرّائنا". في العقود التالية، أصبحت الكلمات والمفاهيم الأوروبيّة شائعة بشكل متزايد في النّصوص الصينيّة التقليديّة، وأصبحت الحاجة إلى قلب الورقة بشكل متكرّر 90 درجة لقراءتها أكثر صعوبة. في عام 1949، في نهاية الثورة الشيوعيّة، قرّر الحزب أن تكتب النّصوص الرسميّة بشكل أفقيّ فقط.
اليوم، تتمّ كتابة معظم النّصوص في الصّين من اليسار إلى اليمين، ولكن من المألوف أن تصادف نصًّا رأسيًّا، على سبيل المثال عندما يكون هنالك مسافة ضيّقة وطويلة بين عمودين في إحدى الصحف. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يتمّ نقش المعابد التقليديّة ومعابد المدينة المحرّمة ورسمها بأربعة رموز، كلّها مكتوبة من اليمين إلى اليسار - نوع من الكتابة الاحتفاليّة الّتي تضمّ أربعة أعمدة من النّصّ، يعتمد اتّجاهها على اتّجاه الأعمدة في اللغة الصينيّة التقليديّة، مع كلمة واحدة فقط في كل عمود.
يشجع هذا التنّوع في اتّجاهات القراءة والكتابة الصينيين على التمتّع بمرونة ذهنيّة في اتّجاه قراءة الرموز المكتوبة. غالبًا ما يلاحظ السياح الغربيّون في الصين ذلك في التسمية التوضيحيّة للحافلات. على جانب كلّ حافلة، تُكتب الرموز الصينيّة في الاتّجاه المعاكس، لأسباب تتعلّق بالتناظر، وأحيانًا يتمّ ربطها بأحرف لاتينيّة يكون اتجاه كتابتها معكوسًا أيضًا.
تنوّع اتّجاهات القراءة والكتابة يشجّع الصينيّين على تطوير المرونة العقليّة، فيما يتعلّق باتّجاه قراءة الرموز المكتوبة. شاحنة البريد الصينيّة: الكتابة على الأبواب دائمًا من مقدّمة السيّارة إلى الأمام، لذا تظهر الكتابة في الباب الأيمن من اليمين إلى اليسار - بما في ذلك باللّغة الإنجليزيّة: TSOP ANIHC | ويكيبيديا، Vmenkov
حدثت أيضًا عمليّة انتقال مماثلة من الكتابة الرأسيّة إلى الأُفقيّة في اليابان، ولكن لا تزال هناك اتّجاهات تقليديّة أكثر قبولًا. في المتاجر، يمكنك العثور على كتب في الاتّجاه الرأسيّ التقليديّ (تاتاجاكي)، والتي تُقرأ من اليمين كما في العربّية، وكتب جديدة تُقرأ من اليسار كما في اللغة الإنجليزيّة (يوكوجاكي).
انضمّت كوريا الجنوبيّة إلى اتّجاه العولمة هذا فقط في العقود الأخيرة. في سنة 1988م، بدأت أوّل صحيفة كوريّة بطباعة مقالاتها من اليسار إلى اليمين. وفي التسعينيّات، انضمّت إليها جميع الصحف الأخرى تدريجيًّا. اليوم، يُستعمل اتّجاه الكتابة الرأسيّ فقط في الكتب والصحف القديمة، أو كعنصر تصميميّ.
سياسة نظام الكتابة
الاستثناء الأكثر بروزًا هو تايوان، المعروفة أيضًا باسم "جمهورية الصين"، والتي حافظت إلى حد كبير على اتجاه كتابتها الرأسيّة لأسباب تاريخيّة وسياسيّة. في سنة 1911م، مع الإطاحة بآخر سلالة من الأباطرة، تأسست جمهورية الصين في بر الصين الرئيسي. بعد انتصار القوّات الشيوعيّة في الحرب الأهلية سنة 1949م، تحوّل برّ الصين الرئيس إلى "جمهورية الصين الشعبية"، فيما كانت جزيرة تايوان آخر بقايا "جمهورية الصين". نشأ خلاف ثقافي وسياسي طويل الأمد بين البلدين، حيث ادّعى كل جانب السيادة على الصين وتقويض شرعية النظام المنافس.
أدى هذا الوضع إلى أنه على عكس البر الرئيسي للصين، الذي يحكمه نظام ثوري، حافظت تايوان إلى حد كبير على التقاليد الصينيّة القديمة، بما في ذلك اتجاه الكتابة والقراءة. ومع ذلك، يجد المحافظون التايوانيون أيضًا صعوبة في مقاومة قوى العولمة، ومنذ التسعينيات، بدأت نفس العملية التدريجية للانجراف نحو الكتابة الأفقية تحدث أيضًا هناك. تُطبع اليوم جميع الصحف في الجزيرة تقريبًا من اليسار إلى اليمين.
بالإضافة لذلك، فقد اُكتشف تاثير اتجاه القراءة على عوامل نفسيّة وادراكيّة. في دراسات أجرت مقارنة بين التجسيد المرئي للوقت في أماكن مختلفة من العالم، طُلب من المشاركين ترتيب سلسلة من الصور تصف مراحل عملية ذات اتجاه واضح للتطور، على سبيل المثال، صور تعرض مراحل حياتيّة منذ الولادة حتى الموت. أشارت النتائج إلى أن اتّجاه الكتابة في مختلف البلدان ينعكس في إدراك الوقت.
لقد وجد على سبيل المثال أن الإنجليز رتبوا دائمًا جدولهم الزمني من اليسار إلى اليمين. بينما عند الصينيّون ناطقي الإنجليزية، يعتمد الترتيب المكاني للوقت على وقت تعلمهم للّغة الإنجليزية. المتحدثون ثنائيو اللغة الذين تعلموا اللغة الإنجليزية في وقت متأخر نسبيًا كانوا أكثر ميلًا للتفكير في الجدول الزمني بشكل رأسي. كما حدد متحدثو الصينية الماندرينيّة بشكل أسرع ترتيب البطاقات المقدمة لهم - على سبيل المثال أسماء أشهر السنة - عندما تم تقديم البطاقات لهم رأسيّا وليس أفقيًا. العكس كان صحيحا بالنسبة لمتحدثي اللغة الإنجليزية.
وجدت دراسات أخرى أنّ الناطقين الشّباب باللّغة الماندرينيّة ، المعتادين على الكتابة الأفقيّة الحديثة، هم أقلّ عرضة من الجيل الذي سبقهم لإدراك تقدّم الوقت رأسيًّا، إذ يُفكّرون به أكثر من اليسار إلى اليمين، مثل المتحدّثين باللّغة الإنجليزيّة. في المقابل، رأى المشاركون من تايوان تنوّعًا أكبر في اتّجاهات القراءة: توزيع متساوٍ تقريبًا بين القراءة الرأسيّة والأفقيّة، وأقلّيّة كبيرة للقراءة من اليمين إلى اليسار.
من الممكن أن تستمرّ عمليّة العولمة، إلى أن تُغلق الدائرة في المستقبل وتتّحد سلالة النصّ البدائيّ الكنعانيّ، الذي انقسم منذ حوالي 2500 عام في اتّجاه كتابة واحدة. في مثل هذا المستقبل، لن يكون من الصّعب دمج الأرقام والحروف في المستندات النّصّيّة العربيّة، وستظهر مقالات من اليمين إلى اليسار لأحفادنا، كما نرى نحن نقوش البوستروبيدون من القرن السّادس قبل الميلاد.