منذ بدايات الطّب النّفسي، ساد توتّر بين نهجين مُتعارضين - النّهج الطبّي الّذي يُركّز على الدماغ كعضو بيولوجيّ، مقابل النهج النّفسي الّذي يُعالج النّفس البشريّة.
في حال ذهابك إلى طبيب الأُسرة لشعورك بانخفاض في "الطّاقة"، تقدير ذاتي مُتدنّ، و صعوبة في التّعامل مع التوتّر في العمل أو في المنزل، فستحصل على الأرجح على وصفة طبيّة لـ "باراسيتامول السّعادة" - بروزاك أو دواء مشابه. لكنّ البحث عن مُّسكّن لضائقة نفسيّة على المستوى الطّبيّ تحديدًا ليس مفهومًا ضمنًا، ولم يكن مقبولًا لسنوات عديدة في الواقع. إنّ دراسة التّغييرات الّتي حدثَت في مناهج علاج الاكتئاب، من شأنها أن تُطلعنا على كيفيّة التعامل مع الأمراض النّفسيّة، وكيف يُحاول الطبّ النفسيّ علاجها.
على الرغم من التّواجد الدّائم للأمراض والضّوائق النّفسيّة، إلّا أنّ الطبّ النفسيّ كمجال لعلاج الضّوائق النفسيّة لم يولد إلّا في القرن الثّامن عشر. خلال هذه الفترة، تمّ إنشاء ملاجئ في جميع أنحاء أوروبا للأشخاص الّذين وُصفوا "خطرين على العامّة"، أو كمصدر إزعاج على الأقلّ. ولكن سرعان ما اتّضح أنّّ هذه الملاجئ لم تعزل "المجانين" عن العالم فحسب، بل جلبت أيضًا الراحة والشّفاء للبعض منهم.
يُذكَر بشكل خاصّ من تلك الفترة الطبيب الفرنسيّ فيليب بينيل (1826-Pinel, 1745) الّذي كان يُدير ملجأيْن كبيريْن ونَسَب أهميّة كبيرة للمُركّب العاطفيّ. بحكم سُلطته، أزال الخيوط والأربطة الّتي كانت تُستخدم لتقييد المرضى النّفسيين، نهى عن ضربهم، وقاد موقفًا أكثر مراعاة وإنسانيّة تجاههم. ساعد هذا النهج الجديد بعض المرضى في التّغلّب على الضّيق الّذي أدّى إلى سجنهم بنجاح، وحتّى إلى السّماح لهم بالعودة إلى منازلهم في بعض الحالات.
"عزا أهميّة قُصوى للمُركّب العاطفيّ"- الطبيب فيليب بينيل يأمر بإزالة السلاسل من فوق المرضى في الملجأ، 1795 | رسمة Tony Robert-Fleury الصورة: ويكيبيديا
علوم الدّماغ مقابل علم النفس
كان نهج بينيل غير معتاد للغاية في عالم الطبّ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث أنّه كان قائمًا على العلاقات الإنسانيّة والاهتمام بالمريض، وليس على أساس معرفة طبيّة أو طريقة مُنتظمة. في نظر الأطبّاء، يُعتبر هذا العلاج خطوة إلى الوراء باتّجاه المُمارسات غير المهنيّة للمعالجين الشعبيين في الماضي. استمرّت معارضة بينيل لسنوات أخرى عديدة: ففي عام 1894، أي بعد 70 عامًا تقريبًا من وفاة بينيل، قال طبيب الأعصاب الأمريكيّ سيلاس وير ميتشيل (Weir Mitchell)، إنّ أطبّاء الملاجئ ليسوا جزءًا من الطبّ العامّ، وما أطلقوا عليه اسم الرعاية الطبيّة لم يكن سوى الدّجل بعيْنه.
في آخر أيّام حياة بينيل، تمّ تشكيل وتأسيس تصوّرات طبيّة ركّزت على تشريح الأمراض النّفسيّة، وربطها بخلل في وظائف دماغيّة. هذا النهج، المُسمَّى "عضويّ" - من كلمة "Organ" في الإنجليزيّة، والّتي تعني العُضو - اعتبَر أنّ الأمراض النفسيّة ناتجة عن عوامل جسديّة، وبالتالي يجب علاجها بالطرق الفسيولوجيّة. بالمقابل، قدّم بينيل وخلفاؤه النهج الوظيفيّ، والّذي اعتبر المرض النفسيّ نتاجًا لظروف الحياة والعوامل النفسيّة. وبناءً على ذلك، فإنّ طريقة الشفاء الّتي قدّموها ترتكز على علاج الضّيق النفسيّ، والمساعدة الّتي قدّموها للمرضى كانت ذات طبيعة نفسيّة.
أدّى هذا الجدل العميق في أواخر القرن التاسع عشر إلى تقسيم الطب النفسيّ وعلم الأعصاب إلى تخصّصات أكاديميّة مُنفصلة. في كتابهما "فصول في تطوّر الطب النفسيّ"، وصف إليعازر ويتستوم ويعقوب مارغولين هذا الانقسام بأنّه المرحلة الّتي بدأ فيها الصّراع حول السؤال من هو المسؤول عن علاج المرضى النفسيّين.
بدت المناهج مُتناقضة. عرض أطبّاء الأعصاب مجموعة واسعة من طرق العلاج الفسيولوجيّ، بما في ذلك الأدوية، التّسبب بالنوم العميق، الصدمات الكهربائيّة - العلاج الشهير الّذي يعتمد على توفير صدمة كهربائيّة للدماغ، علاج صدمة الإنسولين، وجراحة الدماغ للفصل بين الفصوص الأماميّة (لوبوتوميا) وأكثر. حتّى أنّهم شدّدوا على كون العلاجات الّتي يجرونها بأنّها علاجات علميّة، على عكس نُظرائهم الأطبّاء النفسيين الّذين، حسب رأيهم، تخلّوا عن الطبّ لصالح البحث عن صراعات نفسيّة، على غرار رجال الدين والدجّالين.
كان للأطباء النفسيّن الّذين يتعاملون مع النفس البشريّة، نقدهم الخاصّ لعلم الأعصاب. حيث ادّعوا بأنّ العلاجات الجسديّة الّتي قُدِّمت كانت مبنيّة على افتراضات غير صحيحة. كما أشاروا إلى الضّرر الّذي تُسبّبه مثل هذه العلاجات للمرضى، إلى حدّ تعريض حياتهم للخطر في بعض الأحيان.
تمّ إجراء العديد من جراحات الدماغ (استئصال الفصّ الصدغيّ) في منتصف القرن العشرين في محاولة لعلاج الأمراض النّفسيّة كالفصام| أطبّاء يقومون بفحص الأشعّة السينيّة لمريض قبيل عمليّة دماغيّة، 1941|الصورة: ويكيبيديا
الأدوية مقابل المحادثات
في الخمسينيّات من القرن الماضي، تغلغل الجدل بين المنهجين إلى داخل مجالات الطبّ النفسيّ. استمرّت نسبة كبيرة من الأطبّاء النفسيين في الدفاع عن المنهج النفسيّ-السيكولوجيّ، لكنّ آخرين انتقلوا إلى تفضيل النهج الجسديّ. قاد هذه الثورة الطبيب النفسيّ الأمريكيّ دونالد كلاين (Klein)، الّذي اعتقد أنّ لبعض الاضطرابات النفسيّة على الأقلّ أساسًا بيولوجيًّا يتطلّب علاجًا دوائيًّا.
كانت ردود فعل مجتمع الطبّ النفسيّ مُتشكّكة في البداية تجاه اقتراحات كلاين، المُتخصّص في اضطرابات الهلع، القلق والاكتئاب. على وجه الخصوص، تمّ التّشكيك في إمكانيّة علاج مشكلة معقّدة كالاكتئاب بلا علاج نفسيّ عميق. في الوقت ذاته، بدأت أولى أدوية الطبّ النفسيّ الفعّالة بالظّهور، ابتداءً من الكلوربرومازين (Chlorpromazine)، والّذي نجح بتحسين أداء مرضى الفصام.
يرى الكثيرون أنّ تطوّر الكلوربرومازين في عام 1952 كان نقطة تحوّل، و يمكن اعتباره بداية للطبّ النفسيّ المُعاصر القائم على الأدوية (علم الأدوية النفسيّة). من الممكن تفسير التيّارالمُتزايد من الأطبّاء النفسيّين الّذين فضّلوا النهج الجسديّ منذ ذلك الحين وحتّى اليوم، من خلال تطوّر المعرفة الطبيّة حول هذه الأدوية، والآليّات الدماغيّة المُرتبطة بالأمراض النّفسيّة. هناك تفسير آخر يتعلّق بالتغيير الّذي حدث في المعايير العامّة فيما يتعلّق بالعمليّات العلاجيّة المُطوّلة مثل تلك الّتي اقترحها التحليل النفسيّ العميق (سايكوأناليزا)، والّذي كان آنذاك التيّار المُهيمن في الطبّ النفسيّ المُتَركِّز بالنفس البشريّة.
دواء مُضاد للذهان يُستخدَم بشكل أساسيّ في حالات الفصام والاضطراب ثنائيّ القطب، طُوِّر في عام 1952 وحدّد بداية الطب النفسيّ المعاصر. جزيء الكلوربرومازين | الصورة: Bacsica، Shatterstock
الطبّ النفسيّ القائم على الأدلّة
تدريجيًّا، وتحديدًا منذ التسعينيّات فصاعدًا، تمّ تأسيس نهج الطب القائم على الأدلّة في مجالات الطب النفسيّ وفي عالم الطب بأكمله. نصّ هذا النّهج على ضرورة إسناد القرارات العلاجيّة للمريض على أحدث الأدلّة البحثيّة.
تمّ التعبير عن هذا النهج أوّلًا وقبل كل شيء في مجالات الطبّ النفسيّ، عن طريق تقليل الفُروقات الّتي كانت سائدة حتّى ذلك الحين في الممارسة الطبيّة للأطبّاء النفسيّين المُختلفين وفي إنشاء قواعد علاجيّة موحّدة. وهكذا، تقلّص المجال إلى طريقة العلاج الدّوائيّ، حيث أكدّت المزيد والمزيد من الدراسات أنّ هذا النمط من العلاج يعود بالفائدة على المرضى. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ العلاج الدوائيّ يُعتبَر مناسبًا جدًّا للاختبار باستخدام الأدوات العلميّة الكميّة، حيث يمكن مقارنة تأثير أدوية مختلفة على المرضى بسهولة نسبيًّا، ممّا يُسهّل استخلاص النتائج و يُؤدّي إلى الاستمرار في تحسين تركيبة الأدوية.
أثر آخر لدمج النهج القائم على الأدلّة في الطبّ النفسيّ ينعكس في تقليل اعتماد الأطبّاء على الخبرة السريريّة الشّخصيّة والحدس الطبّيّ. في ضوء ذلك، نأى العديد من الأطبّاء النفسيّين بأنفسهم عن العلاج النفسيّ مدّعين أنّه لا يعتمد على أدلّة موثوقة.
فضّل أطبّاء الأعصاب طرق العلاج الفسيولوجيّ، بينما ادّعى نُظراؤهم بأنّ من شأن هذه العلاجات التسبّب بضرر، في ظلّ غياب أبحاث أخرى. آلة العلاج بالصدمات الكهربائيّة ECT| الصورة: ويكيبيديا
العلاج النفسيّ المُركَّز
تمّ تدريب الطبيب النفسيّ آرون بيك (Beck) في البداية على العلاج التحليليّ النفسيّ - وهو نهج نفسيّ تمّ تطويره في أواخر القرن التاسع عشر على يد الطبيب النفسيّ سيغموند فرويد، واستند إلى الافتراض بأنّ الاضطرابات النفسيّة هي نتاج صراعات داخليّة يتطلب حلّها تحقيقًا عميقًا وطويلًا في نفسيّة المريض. في أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي، اقترح بيك نهجًا علاجيًّا مختلفًا يركّز على فحص أنماط التفكير السلبيّة الّتي تُميّز المرضى النّفسيين. لم يتخلّ بيك عن تركيزه على العالم الداخليّ الّذي يعُزّزه النهج التحليليّ النفسيّ، ولكنّه حوّل التركيز من البحث الفرويديانيّ عن صراعات الطفولة، إلى تغيير أنماط التفكير الحاليّة. دمج بيك هذا مع الممارسات العلاجيّة الّتي رسمها من مجال علم النفس السلوكيّ (Behaviorism)، والّتي ركّزت على تعزيز السلوكيّات الإيجابيّة وإضعاف أنماط السلوك السّلبيّة.
فقد عزا بيك الاكتئاب إلى الأفكار السلبيّة الّتي تُسيطر على العالم الداخليّ للشخص وتُؤثّر على تفكيره وسلوكه، وركّز العلاج على تغيير هذه الأنماط في اتجاهات تسمح للمريض بممارسة حياته بشكل سليم. ومن هنا نشأ العلاج المعرفيّ السلوكيّ (CBT).
أُجريت العديد من الدراسات في العقود الأخيرة، والّتي رجّحت أنّ العلاج المعرفيّ السلوكيّ هو الوسيلة الأكثر فاعليّة لعلاج اضطرابات نفسيّة كالاكتئاب، القلق، اضطرابات الأكل، وغيرها. ينبع جزء من فعاليّة العلاج من صياغة بروتوكولات علاجيّة مُوحَّدة للاستعمال بين المُعالجين المختلفين، ومن حقيقة أنّ هذه العلاجات قصيرة المُدّة في العادة، ولا ينبغي أن تستمرّ لأكثر من ثلاثة أشهر. إنّ القدرة على تحديد المُدّة الزّمنيّة المُناسبة للعلاج النفسيّ، التركيز على أهدافه الواضحة، وتبسيط عمليّة الشّفاء وإتاحتها وفقًا لبروتوكولات مُحدّدة جيّدًا، أتاحت فُرصة للمرضى بالتّغلّب على صعوبة تكريس أنفسهم لعمليّات نفسيّة طويلة دون تاريخ نهائيّ محدّد.
كانت الطريقة السلوكيّة المعرفيّة مناسبة تمامًا لروح الفترة الّتي تسعى جاهدة لتحقيق نتائج سريعة، وسرعان ما اكتسبت قبضة قويّة بين علماء النفس والمرضى على حد سواء. ساهمت حقيقة سهولة البحث في الطريقة باستخدام الأدوات العلميّة في ذلك أيضًا. لسنوات عديدة، لم يتمّ إجراء أيّة دراسات تقريبًا لفحص فعاليّة العلاج التحليليّ النفسيّ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنّ أدوات البحث لم تكن قادرة على معالجة البعد الشّخصيّ المُهمّ للنهج المتعلّق بشخصيّة المُعالِج والمريض. نتيجة لذلك؛ قدّمت مُعظم المنشورات المُتخصّصة في مجال التحليل النفسيّ أوصاف حالات من العلاجات الفرديّة، حيث يَصعُب استخلاص استنتاجات عامّة منها.
العلاج المعرفيّ السلوكيّ فعّال في علاج الاكتئاب، القلق، واضطرابات أخرى، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنّه قصير الأمد ومركّز. العلاج النفسيّ وجهًا لوجه| الصورة: shurkin_son، Shatterstock
ما الأكثر فائدة؟
جعلت القدرة على التقييم العلميّ لنتائج العلاج النفسيّ من الممكن لأوّل مرّة مقارنتها بالعلاجات الدوائيّة. فعلى سبيل المثال، نشرت المجلّة الأمريكيّة للطب النفسيّ (American Journal of Psychiatry) في مايو 2007 مثل هذه المقارنة، و الّتي تمحورت حول مُتابعة العلاج لمرضى الاكتئاب الّذين فشل علاجهم الدوائيّ الأوّل. أشارت النتائج إلى أنّه في هذه الحالة، كان العلاج المعرفيّ السلوكيّ والعلاج الدوائيّ فعّاليْن بالقدر ذاته في الحدّ من أعراض الاكتئاب.
أشارت دراسات التوأم الّتي فحصت إمكانيّة الإصابة بالفصام عند أزواج من الأشقّاء التوأم إلى أنّ احتماليّة الإصابة تتعلّق بمجموعة من العوامل البيولوجيّة، الجينيّة والبيئيّة. ففي حالة إصابة أحد أفراد الزوج بالفِصام، فإنّ احتماليّة إصابة شقيقه التوأم أيضًا بالفصام تساوي حوالي 50 بالمائة. ويترتّب على ذلك أنّ ما لا يقل عن 50 في المائة من تفسير تطوّر المرض النفسيّ ليس بيولوجيًّا.
بالنظر إلى الضّيق والمعاناة المرتبطيْن بالمرض النفسيّ، فلا شكّ في أنّ الجهود المُستَثمرَة في العلاجات ستستمرّ في المستقبل أيضًا. من المُحتمل أن تتكرّر الأسئلة حول العوامل المرضيّة الّتي يتوجّب التركيز عليها، وعلى أدوات العلاج الأكثر أهميّة لاستثمار الموارد فيها. كما في الماضي، ستتأثّر الإجابات الّتي سيأتي بها المستقبل بالتكنولوجيا، روح العصر والتصوّرات المهنيّة لأولئك المُشاركين في هذا المجال. وليس أقلّ من ذلك، سيتمّ إملاؤها من قبل الأشخاص الّذين يستهلكون العلاج، والّذين قد يعترضون عليها في بعض الأحيان، تمامًا كما حصل مع البروزاك.