على الرّغم من أنّ الكائنات الحيّة الأخرى تستخدم الأدوات، إلّا أنّ القدرة على توسيع قدراتنا وحواسنا بواسطة الذّكاء هي سِمة فريدة للإنسان. لكن التّكنولوجيا ليست من قوى الطّبيعة =- واستخدامها ينطوي على مسؤوليّة جسيمة.
قد يقول المرء: "أجهزة حاسوب"، "وهواتف ذكيّة"، يقول الثّاني. ومن المحتمل أن يضيف الثّالث: "الرّوبوتات كذلك"، وعادة ما يطلق الرّابع تنهيدة عميقة، ويختتم قائلاً: "كابوس".
في كلّ عام، عندما أسأل طلّابي ما هي الكلمة الأولى الّتي تتبادر إلى أذهانهم عندما أقول "تكنولوجيا"، فإنّ الإجابات الأكثر شيوعًا الّتي أحصل عليها هي قائمة بأسماء المنتجات، وعادةً ما تكون من مجال التّكنولوجيا المتقدّمة والأدوات الذّكيّة (Gadgets). الإجابات التّقليديّة الأخرى تتوالى تِباعًا لتوسِّع القائمة حتّى تشمل آلات مختلفة، ومن يميلون إلى عالم الفلسفة فقد يتحدّثون عن "عالم من صنع الإنسان". وعندما أسألهم عمّا إذا كانوا يعتقدون بكون قلم الرّصاص أو الكتاب أو الكرسي هم أيضًا تكنولوجيا، أتلقى أوّلاً نظرات محتارة، ثمّ يجيب معظمهم بالنّفي. فما هي التّكنولوجيا حقًّا؟
الكيان التّكنولوجيّ
وفقًا للمفهوم الأكثر شيوعًا، فإنّ التّكنولوجيا هي إنشاء أدوات معقّدة، أو منتجات معقّدة أخرى. قد يكون التّركيز على العمليّة أو المنتج نفسه، ولكن في كلتا الحالتين، فجوهر الأمر هو أنّ هناك غرض ما نقوم بتصميمه أو تصنيعه، من أجل توسيع قدراتنا البيولوجيّة. وهذا التّوسيع بدوره يغيّر العلاقة المتبادلة بيننا وبين أنفسنا، وبيننا وبين الكائنات الحيّة الأخرى والبيئة.
إنّ النّقطة المرجعيّة لهذا المفهوم هي خارجيّة، وهي ترفع من شأن المنتج التّكنولوجيّ والإمكانيّات الّتي يفسحها أمامنا، وتتعامل معه على أنّه صاحب سيادة مستقلّة، وذو هدف خاصٍّ به. إنّ هذا المفهوم حاضرٌ جدًا في اللّغة اليوميّة: "ما الّذي فعله هذا الحاسوب بي!"، نبدأ بالتّذمّر حين يظهر شيء ما مفاجئ على الشّاشة، كما لو أنّ للحاسوب إرادة مستقلّة بذاته وليس دميةً تفعل بالضّبط ما أمرناها به. في كتاب تعليميّ يتناول تاريخ الملاحة البحريّة وجدت جملة: "ثمّ ظهرت الطوّافات"، وكأنّها ظهرت من العدم، ولم تُخلَق بقوّة تفكير الإنسان وإبداعه.
هناك من يذهب بعيدًا إلى حدّ التّعامل مع تطوّر التّكنولوجيا كظاهرة لها جوهرها وسياستها الخاصّة، مستقلّة عن التطوّر الإنسانيّ العامّ. وقد يدّعي آخرون بأنّ أعظم اختراعاتنا، مثل: الطّباعة أو المفاعلات النّوّويّة أو الإنترنت، لها مزايا وعيوب، وذلك بسبب الإمكانيّات الّتي تفتحها لنا، والفوضى الّتي تصاحبها بذات الوقت.
ولكن، الحقيقة هي أنّنا نحن من نفعل كلّ ذلك. نحن من نقرّر كيف نقود دائمًا، ونقرّر متّى نستخدم الوسائل التّكنولوجية الّتي طوّرناها، ولماذا نفعل ذلك، وأيًّا منها نختار وماذا نفعل بالضّبط بها. نحن أيضًا من نقرّر أيّة أهداف نريد تطويرها بمساعدة هذه الوسائل. قراراتنا هذه مبنيّة على ثقافتنا وقيَمنا ومعتقداتنا وأهدافنا، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. إنّ الاختيارات والمزايا الّتي قد تتمتّع بها مجموعة ما، تؤدّي إلى حدوث الفوضى والدّمار لدى مجموعة أخرى: الجائزة الدّوليّة الأكثر أهمّيّة لدينا، جائزة نوبل، وُلدت ردًّا على هذه الظّاهرة.
وفقًا للمفهوم الأكثر شيوعًا، فإنّ التّكنولوجيا هي إنشاء أدوات معقّدة، أو منتجات معقّدة أخرى. CHRISTIAN LAGEREK / SCIENCE PHOTO LIBRARY
التّكنولوجيا البشريّة
يؤدّي التّصوّر بأنّ التّكنولوجيا لها وجودها الخاصّ إلى ادّعاء شائع آخر- وهو أنّ الكائنات الحيّة الأخرى "تستخدم التّكنولوجيا" أيضًا. يبدو أنّ من يدّعون ذلك ينظرون إلى التّكنولوجيا على أنّها موارد متاحة، وكأنّها أراضٍ أو مياه.
هناك اتّفاق عامّ، مدعّم بالأبحاث، على أنّ هناك كائنات حيّة أخرى، تُظهِر القدرة على استخدام الأغراض لحلّ المشكلات البسيطة ونقل المعلومات وطرق التّصرّف إلى أقرانها، بل وحتّى إلى نسلها. المثال الأكثر شهرة هو الشّمبانزي، الّذي يستخدم الأغصان الصّغيرة والعصي لطرد النّمل الأبيض من تلاله، ولتهديد الأعداء أو حتّى لمجرد حكّ أنفه. هناك أيضًا أنواع من الدّلافين "ترتدي" الإسفنج البحريّ كقفّاز على خطمها، لحمايتها من الخدش عند ملامسة المرجان أو الحجارة أثناء بحثها عن الطّعام في قاع البحر. ويعتَبر القندس في المرتبة الثّانية بعد الإنسان، في قدرته على تغيير بيئته، وذلك من خلال السّدود الّتي يبنيها لتغيير جريان الأنهر. وهناك الكثير غيرهم من المخلوقات الأخرى الّتي تفعل ذلك.
ولكن هل هذه تكنولوجيا بالفعل؟ على الرّغم من أنّ الكائنات الحيّة الأخرى تستخدم الوسائل المتاحة لتلبية احتياجاتها، إلّا أنّها تفتقر إلى ثلاث قدرات مركزيّة، والّتي بدونها لا يمكن اعتبار أفعالها "ذكاءً تكنولوجيًّا": أوّلاً، عدم القدرة على إجراء تغيير معقّد في غرض معيّن، أو إنتاج غرض معقّد جديد من موادّ خام مختلفة تمامًا. ثانياً، الافتقار إلى القدرة على مواصلة تطوير المنتجات الّتي قاموا قبل ذلك بإنتاجها. وأخيرًا، عدم تمرير هذا المجموع المعقّد من جيل إلى جيل.
النّتيجة هي أنّ التّغيّرات السّريعة في البيئة يمكن أن تترك مستخدمي هذه الأغراض في خطر وجوديّ. لذا، وعلى الرّغم من أنّنا لسنا المخلوقات الوحيدة الّتي تستخدم الأدوات، إلّا أنّنا بالتّأكيد اللّاعب الأكثر تقدّمًا وإبداعًا وتطوّرًا في المنطقة.
إنّ أنسنة التّكنولوجيا- أي إضفاء الطّابع الإنسانيّ عليها، قد تدفعنا إلى تمجيد قدراتها دون مبرّر كافٍ لذلك. لقد كنّا شاهدين على هذا المفهوم خلال القرن العشرين، وخاصّة في النّصف الأوّل منه، عندما انتشر الشّعور بأنّ التّكنولوجيا ستصلح جميع العِلل الإنسانيّة. مثلُ هذا النّهج، يؤدّي حتمًا إلى خيبة أمل، والأسوأ من ذلك- إلى شيطنة التّكنولوجيا، لسببٍ بسيط: إذا كانت التّكنولوجيا كيانًا مستقّلا، فإنّه يمكن تحميلها مسؤوليّة الفشل في استخدامها. إنّه خطؤها، وليس خطأنا.
من هنا تولد ادّعاءات مثل: "الفيسبوك يتسبّب في زيادة معدّلات الطّلاق"، أو "حبوب منع الحمل تؤدّي إلى سلوك جنسيّ مستهتر"، أو "الأسلحة تؤدّي إلى العنف". بينما أنّ هذه النّتائج لا تأتي من التّكنولوجيا نفسها، بل من قيمنا وأعرافنا ورغباتنا، الّتي تشكّل المنظورالّذي نقرّر من خلاله كيف سنتصرّف وكيف سنستخدم الوسائل التّكنولوجيّة الّتي طوّرناها بأنفسنا. ولذلك، فإنّ هذه الادّعاءات هي بمثابة إلقاء اللّوم على الرّسول بدلاً من الرّسالة. وبكلمات بسيطة، البيئة غير ملوّثة بسبب البلاستيك. إنّها ملوّثة بسببنا.
التّكنولوجيا والعلوم
تعريف شائعٌ آخر هو أنّ التّكنولوجيا هي "العلم التّطبيقيّ". وتعرِّف الموسوعة البريطانيّة أو الـ«بريتانيكا»، والّتي تُعتبَر مصدرًا موثوقًا وقيّمًا للمعلومات، التّكنولوجيا بأنّها "تطبيق معرفةٍ علميّة لغرض تحقيق أهداف عمليّة في حياة الإنسان، أو أحيانًا لغرض تغيير البيئة البشريّة".
نفهم من هذا التّعريف أنّ العلم هو القُوّة الدّافعة وراء تطوير الآلات والمعدّات والأدوات بجميع أنواعها- وهو أمر بعيد عن الواقع. لقد كانت التّكنولوجيا جزءًا أساسيًّا لا ينفصل عن تطوّر البشريّة قبل وقت طويل من بدء ممارسة العلوم، أو حتّى التّفكير فيها. وهذا صحيح أضعافًا مضاعفة إذا أشرنا إلى العلم الحديث- وهو مجال المنطق والبحث الّذي بدأ يتطوّر بشكلِ ملحوظ فقط في القرن السّادس عشر أو نحو ذلك. ويكفي فحص سريع لإظهار أنّ الإنسان قد طبّق بنجاح كبير تقنيّات متنوّعة قبل وقت طويل من معرفته كيفيّة تفسير العلم الّذي يقف وراءها.
خذوا على سبيل المثال توسعة القدرة البيولوجيّة لحاسّة البصر البشريّة. في القرن الأوّل الميلاديّ، ذكر الفيلسوف الرّومانيّ سينيكا (Seneca) أنّ "الحروف، مهما كانت صغيرة وغير واضحة، يمكن رؤيتها بحجم ووضوح كبيرين عند النّظر إليها من خلال كرة أو كأسٍ مصنوع من الزّجاج ومملوء بالماء". لقد كان هذا الفَهم أوّل دليل على استخدام أدوات للرّؤية- ولا علاقة له بالعلم إطلاقًا. لم يكن يعلم سينيكا كيف تعمل العين، وما هي العمليّات الّتي تحدث في الدّماغ عندما نقوم بمعالجة المعلومات البصريّة، أو حتّى ما هي خصائص الضّوء والزّجاج والماء والعلاقات المتبادلة بينها. لقد كانت لديه مراقبة بسيطة يوميّة وذات فائدة بشكل مذهل.
لقد استغرق الأمر ألف سنة أخرى قبل أن يقترح الفلكيّ العربيّ ابن الهيثم، والّذي يعتبره كثيرون رائد العلم الحديث، استخدام الزّجاج الأملس لمساعدة ضعاف البصر، ومائتي سنة أخرى قبل أن يطبّق رهبان إيطاليّون هذا الاقتراح ويطوّرون جهازًا أسموه "حجر القراءة". كان هذا الجهاز عبارة عن عدسة مقعّرة، مصنوعة من كتلة من الكوارتز الشّفّاف (معدن زجاجيّ متبلِّر) أو من معدن البريل. عندما وضعوا العدسة فوق نصٍّ مكتوب، بدت الحروف أكبر حجمًا. تحسّنت مقدرة الرّهبان على القراءة بشكل مذهل، ومعها تحسّنت جودة حياتهم. لقد كانت أحجار القراءة بمثابة الخطوة الأولى إلى طريق تطوير النّظارات في القرن الثّالث عشر. اعتُبرت النّظارات وسيلة "لتحسين الرّؤية بواسطة الفنّ التّقنيّ"، وهو المصطلح المقبول آنذاك لوصف التّكنولوجيا، وليس "تطبيق معرفة علميّة".
.
طوّر الرّهبان الإيطاليّون جهازًا، أطلقوا عليه اسم "حجر القراءة". تصوير: Ziko van Dijk
العلاقة تشتدّ ارتباطًا
العلاقة بين التّكنولوجيا والظّواهر الطّبيعيّة والأساليب العلميّة والرّياضيّة ليست بجديدة. هناك أدلّة على استخدام مثل هذه الأساليب حتّى في العصور القديمة، وخاصّة في بلاد الرافديْن في الشّرق الأوسط وحضارة المايا في وسط أمريكا. في مركز هذه الأدلّة نجد استخدام علم الفلك والجيولوجيا والرّياضيّات بمستوى دقّة مثير للإعجاب، لتخطيط التّقاويم وتطوير وسائل قياس الوقت وأنظمة الرّيِّ.
إلى اليوم، لا تزال بقايا معابد المايا في تيكال في غواتيمالا مثيرة للإعجاب من حيث قوّتها، وهي شهادة واضحة كيف أنّ معتقداتنا وثقافاتنا تملي كيفيّة تطوير الوسائل التّكنولوجيّة واستخدامها. هذا المكان يجيز اسمه، الاسم الّذي يعني "مكان الأصوات". عند الاقتراب من قمّة أحد المعابد، الّتي تطلّ من فوق قمم الأشجار، ينكشف مشهدٌ خلّاب لغابة خضراء، تتخلّلها قمم معابد أخرى ترتفع منها، وتدوي أصوات القردة وهي تصيح. صياحها هو صدى الصّوت الضائع للفتيات والفتيان الكثر، الّذين تمّت التّضحية بهم هناك من أجل الآلهة.
معابد تيكال: الاحتياجات الإنسانيّة أملت استخدام المعرفة. تصوير: د. ليات بن دافيد
تمّ بناء سبعة معابد في السّاحة المركزيّة، تشكّل معًا أداةً فلكيّة لقياس الأيّام والأشهر والسّنوات وحسابها. كان العدّ ضروريًّا من أجل وضع برنامج للسّنة الزّراعيّة، والّذي يشمل كذلك عطلات شكر للآلهة على موسم الحصاد. مرّة كلّ عشرين عامًا تقام احتفالات بمناسبة خلق العالم وفقًا لتقاليد المايا. الأعمال الفنّيّة والمجوهرات والنّصوص المكتوبة وغيرها من الاكتشافات من أيّام حضارة المايا -بما في ذلك بقايا الجثث الآدميّة- تشير إلى أنّ الاحتفالات كانت تتضمّن ألعاب كرة، ومن خسروا فيها تمّت التّضحية بهم للآلهة.
آمن شعب المايا أيضًا أنّ أبواب السّماء تُفتح مرّة كلّ 52 عامًا- وهو سبب وجيه للاحتفالات، يتمّ فيها التّضحية بالفائزين في مباريات الكرة للآلهة، لإيمانهم أنّ فوزهم سيكسبهم الدّخول إلى الجنّة، بنسخة حضارة المايا.
إنّ هذه المواعيد كلّها تطلّبت رؤىً فلكيّة معمّقة، ومعرفة واسعة بالرّياضيّات وفهمًا للعديد من الظّواهر الطّبيعيّة. ولكن، وعلى الرّغم من التّقدّم التّكنولوجيّ المثير للإعجاب، والقدرة المذهلة على التّخطيط المنطقيّ الّتي أظهروها، إلّا أنّ شعب المايا اعتقدوا أنّه يتعيّن عليهم تقديم تضحيات بشريّة للآلهة، إذ بدونها ستتوقّف الشّمس عن الشّروق.
تعمّقت العلاقة بين التّكنولوجيا والعلوم في القرن السّادس عشر. وقد جذب الارتباط بين الابتكار التّكنولوجيّ والرّؤى العلميّة انتباه الفلاسفة والفنّانين والعلماء، الّذين بدأوا في مناقشة مقدرة الإنسان على التّحكّم في الطّبيعة من خلال تعزيز الدّمج بين التّكنولوجيا والعلم. تسارعت هذه العمليّة في القرن التّاسع عشر، إلى درجة أنّه يكاد من المستحيل اليوم فصل التّكنولوجيا عن العلم: من أجل التّحقيق في ظواهر علميّة بعمق، هناك حاجة إلى وجود أنظمة تكنولوجيّة معقّدة- والّتي يتطلّب تطويرها قدرًا كبيرًا من المعرفة العلميّة.
التّكنولوجيا كعملٍ إنسانيّ
بالنّظر إلى المكانة المركزيّة الّتي تحتلّها قدرتنا التّكنولوجيّة في حياتنا وفي تاريخنا، فإنّ الطّريقة الّتي ندركها بها تبدو مثيرة للدّهشة تمامًا. تخيّلوا لو أنّنا قد غيّرنا موقفنا تجاه أحد أعضائنا المركزيّة، مثل: القلب أو الدّماغ، وتعاملنا معه وكأنّه ليس جزءًا منّا. التّكنولوجيا ليست جهازًا ملموسًا، ولكنّها أيضًا ليست مكوّنًا خارجيًّا، أو منتجًا جانبيًّا للنّشاط البشريّ. إنّها نظام داخليّ معقّد من الذّكاء الّذي نتفرّد به نحن البشر- نظام يشمل عمليّات تفكير وتنفيذ، من خلالها نزيد من قدراتنا البيولوجيّة المحدودة ونوسّعها، ومن دونه تظلّ هذه القدرات محدودة، بل ومتوسّطة إلى حدٍّ ما.
نحن نتحدّث إذن عن سِمة داخليّة وفريدة وفطريّة للإنسان، عن إحدى المكوّنات المهمّة للهويّة الإنسانيّة نفسها. البشر هم الكائنات الحيّة الوحيدة القادرة على التّصرّف بشكلٍ واعٍ ومنطقيّ، في مشهدٍ أو مشكال (kaleidoscope- كليدوسكوب) غنيّ من الخيال والإبداع والتّطوير المستمرّ، من أجل توسيع قدراتهم الجسديّة والعاطفيّة والسّلوكيّة. وإن لم يكن ذلك كافيًا، فإنّ الكائن البشريّ يرفق أفعاله برمزيّات مجرّدة، تتيح له نقل إنجازاته إلى زملائه في الحاضر وللأجيال القادمة، متجاوزًا بها حدود المكان والزّمان.
إنّ التّغذية الرّاجعة المستمرّة هذه هي ما سمحت للمقدرة على استخدام الأشياء- والّتي توجد أيضًا لدى كائنات حيّة أخرى- بالتّطوّر لدى الإنسان إلى ذكاءٍ تكنولوجيّ: المحرّك الّذي نستخدمه من أجل تشكيل الواقع وتغييره.
التّكنولوجيا كعمليّة تراكميّة
من الصّعب أن نعرف متى بدأ الذّكاء التّكنولوجيّ بالضّبط في التّطوّر، لكن الأدلّة على وجوده بدأت في الظّهور في فترةٍقريبة من الوقت الّذي ولدت فيه مقدرتنا على التّحكّم في الظّواهر الطّبيعيّة، مثل النّار. إنّ الأبحاث الأحفوريّة والدّراسات الجينيّة والاكتشافات الأثريّة دفعت العلماء والأنْثرُبولوجيّين إلى افتراض أنّ الأنواع البشريّة المبكّرة بدأت في استخدام النّار منذ حوالي 1.8 مليون سنة. أدّى هذا التّطوّر إلى تغيير في قائمة طعام الإنسان بفضل الطّبخ، وكذلك وفي الوقت نفسه، بفضل تغيّرات في حجم الدّماغ وفي عمل الجهاز الهضميّ والفكّ والأسنان.
إنّ المقدرة على الطّهي كانت تتطلَّب تطوير أدوات ووسائل لتخزين الطّعام وحفظه، بالإضافة إلى تطوير علاقات اجتماعيّة مهمّة، مثل: التّواصل والتّعلّم والتّجارة. عمليّة تراكميّة من التّجريب والخطأ أدّت إلى أن ننتقل في غضون بضع مئات الآلاف من السّنين من شوي اللّحوم على النّار في السّافانا الأفريقيّة إلى إرسال صناديق من الطّعام الجاهز إلى روّاد الفضاء في محطّة الفضاء الدّوليّة.
يتوقّع العلماء والأنثرُبولوجيّين أنّ الأنواع البشريّة المبكّرة بدأت في استخدام النّار منذ حوالي 1.8 مليون سنة CHRISTIAN JEGOU PUBLIPHOTO DIFFUSION / SCIENCE PHOTO LIBRARY
لكي نقوم بتطوير الوسائل التّكنولوجيّة، فإنّنا نستخدم الموادّ والظّواهر والقوانين الطّبيعيّة وندمجها مع الإبداع المبتكر ومهارات التّفكير المعقّدة والتّصميم والتّصنيع. فكّروا مرّة أخرى في النّظارات- لقد مرّ وقتٌ طويل منذ أن استخدمنا "أحجار الرّؤية". الفهم المتعمّق الّذي اكتسبناه على مرّ السّنين فيما يتعلّق بخصائص الضّوء والمادّة، إلى جانب المعرفة حول بنية العين والدّماغ ووظيفتهما، جنبًا إلى جنب مع المقدرة المتزايدة على صنع العدسات والبلاستيك والسّبائك المعدنيّة، وأيضًا المقدرة على الاستجابة لاحتياجات الرّاحة والجماليّات- كلّ هذا سمح لنا بتطوير المزيد والمزيد من وسائل المساعدة البصريّة.
لو وسّعتم هذه القدرات الفكريّة خطوةً أخرى وأضفتم إليها المزيد من الابتكار الإبداعيّ، فستجدون أجهزة إضافيّة تزيد من قدرتنا على الرّؤية، مثل: التّلسكوبات والميكروسكوبات. في البداية، تم توجيه التّلسكوبات نحو الأفق، حتّى قرّر جاليليو جاليلي توجيه تلسكوبه نحو السّماء، فاكتشف كونًا بعيدًا وجديدًا وعظيمًا. وبالمثل، وجّه أنتوني فان ليفينهوك مجهره نحو قطرة ماء- فانكشف أمام عينيه عالم منمنمٌ ومثير، لم تسبق رؤيته من قبل.
هذان المعياران الجديدان -البعيد جدًّا والصّغير جدًّا إلى درجة مدهشة- أصبحا مصدرًا لمزيد من الابتكار والإبداع، من خلال التّطوّرات التّكنولوجيّة -كالأقمار الصّناعيّة والمكّوكات الفضائيّة والمضادّات الحيويّة واللقاحات وغيرها- مجموعة من الوسائل التّكنولوجيّة الّتي صمّمناها، ونواصل تصميمها من أجل الارتقاء بقدرتنا على توفير الحاجات والأهواء والرّغبات، ومن أجل النّهوض بالإنسان في كلّ وقت وفي كلّ مكان وبلا توقّف.
لنطوّر دون أن نرهن المستقبل
لقد وضع القرن الحاليّ إحدى النّقاط المركزيّة والمؤلمة للذّكاء التّكنولوجيّ على مقدّمة المسرح: التّطوير المستدام. علينا أن نجد سبلاً لتلبية احتياجاتنا في الحاضر، دون الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على التّعامل مع الاحتياجات الّتي سوف تواجهها في المستقبل.
إنّ هذه الصّرخة من هذا الجانب ليست بجديدة. حين تبحرون إلى خليج الملك إدوارد في جزر جورجيا الجنوبيّة عند المصبّ الجنوبيّ للمحيط الأطلسيّ، فإنّكم ستجدون أنفسكم أمام مشهد يحبس الأنفاس. يقع هذا الخليج المذهل عند سفح سلسلة جبال ثلجيّة، تتخلّلها ألوان زاهية من النّباتات الخضراء وصخور البازلت السّوداء. عند مصبّ الخليج، توجد بقايا مدينة صغيرة تدعى غريتفيكن (Grytviken)، والّتي أُسّست في بداية القرن العشرين وتبدو منازلها الخشبيّة وكأنّها تنتظر زيارتنا. بين المنازل، تنتصب كنيسة بيضاء اللّون، متواضعة وفخورة.
غريتفيكن. رعب وراء مشهد ريفيّ. تصوير: د. ليات بن دافيد
إنّ هذا المكان مأهول فقط في فصل الصّيف، تسكنه مجموعةٌ صغيرة من النّاس الّذين يحافظون على المكان ويصونونه لأغراض السّياحة والبحث، وآلاف من طيور البطريق الملكيّة والفقمات وفيَلة البحر، المرحّبين بالزوّار. يتناقض هذا الجمال المذهل بشكلٍ حادٍّ مع القسوة الجامحة الّتي سادت هنا حتّى سنوات قليلة مضت. آثار هذه القسوة تصدأ على الشّاطئ، شاهدة صامتة ومكشوفة للجميع. من بين هذه الآثار، سفينةٌ كبيرة تدعى "بترل"، ملقاة بجانبها أكوامٌ من السّلاسل الحديديّة الطّويلة والسّميكة، وبالقرب منها مباني المصانع المحلّيّة. هنا حدثت مذبحة.
تأسّست غريتفيكن في عام 1904 كمحطّة لصيد الحيتان. استُخدِمت هذه الثّدييّات الضّخمة والجميلة لأغراض كثيرة ومتنوّعة، لدرجة أنّ صياديها كانوا يتفاخرون بأنّه "لا يتمّ رمي أيّ جزء من الحوت". تمّ استخدام الدّهن واللّحوم والعظام في الإضاءة والبناء والمعدّات والطّعام، وكانت كلّ سفينة صيد، مثل سفينة البترل، تطمح إلى جلب أكبر عدد ممكن من الحيتان إلى الشّاطئ.
كان يتمّ ربط كلّ حوت يتمّ اصطياده بسلاسل حديديّة إلى حلقة مستديرة على جانب السّفينة. أثناء زيارتي هناك، مشيت على جوانب السّفينة وعددتُ الحلقات: سبع على الجانب الأيمن، وسبع على الجانب الأيسر- 14 حلقة. في كلّ مرّة كانت هذه السّفينة الضخمة -ومن المفارقات أنّ اسمها على اسم طير بحريّ يرمز إلى الحرّيّة- تبحر إلى المحيط، كانت تعود إلى المحطّة محمّلة بـ 14 حوتًا ميتًا.
هيكل لسفينة صيد الحيتان "بترل" | تصوير: د. ليات بن دافيد
في بداية القرن العشرين، أفاد البحّارة أنّ الخليج بأكمله كان مليئًا بالحيتان، حتّى أنّه كان بالإمكان سماع صوت أنفاسها ونداءاتها. لم تكن هناك حاجة للخروج إلى المحيط الواسع لاصطيادها- لقد سبحت هذه الحيتان ببراءة في مياه الخليج دون أدنى فكرة عن الكارثة الّتي كانت بانتظارها. انطلاقًا من تفكير الصّيّادين الضّيّق والفظّ بالأرباح الفوريّة، قاموا بارتكاب مجزرة دون ضبط النّفس ودون شفقة أو مسؤوليّة. لم يتوقفوا ليفكّروا في العواقب البيئيّة والأخلاقيّة أو حتّى الاقتصاديّة طويلة المدى لأفعالهم.
وفي غضون ستّين عامًا، كانت أعداد الحيتان في الخليج والمحيط من حوله قد انقرضت تقريبًا، صمتَ الخليج وفقد الصّيّادون مصدر رزقهم. في عام 1966، تمّ إغلاق محطة غريتفيكن. وفي النّصف الثّاني من القرن العشرين، وصلت معظم أنواع الحيتان في العالم إلى خطر الانقراض بسبب الصّيد الجائر، وتمّ سنُّ قوانين تحظر صيدها بشكلٍ شبه كامل. لكن بالنّسبة لخليج غريتفيكن، فقد كان الأوان قد فات،فهو خالٍ من الحيتان حتّى الآن، والضّرر لا يمكن إصلاحه تقريبًا.
أثناء زيارتي هناك، أصغيتُ إلى الصّمت الّذي يعمّ الخليج، نتيجة الحرب الّتي دارت هنا بين الإنسان والحيوان. الحيتان ثدييّات ذكيّة، تتمتّع بحياة اجتماعيّة متطوّرة، ولغة، بل وحتّى غناء. فلا عجب أنّهم لا يثقون بنا ويستمّرون في إبقاء مسافة بينهم وبين الخليج، والابتعاد عن أيّ اتّصال مع البشر. إنّهم يتذكّرون.
المسؤوليّة في الرّفاهية
كلّما فهمنا العلاقة بين الوسائل التّكنولوجيّة الّتي نقوم بتطويرها والتّطوّر الإنسانيّ، كلّما أصبح واضحًا أنّ لاستخدامها وجوهٌ عديدة بعدد المجتمعات البشريّة. لقد قمنا بتطوير وسائل لمساعدتنا على الاستفادة من معرفتنا ورؤانا المتنامية. لقد طوّرنا وسائل تقوم بدلاً عنّا بالمهام، كالطّبخ والتّنظيف والتّدفئة والتّنقّل والحراسة، والّتي من خلالها نجعل حياتنا أسهل ونعطي لأنفسنا الوقت لممارسة أشياء أخرى نحبّها. نحن أكثر قدرةً على الحركة والتّواصل، وقادرون على الاستجابة على للأحداث في جميع أنحاء العالم في وقت حدوثها، قادرون على مساعدة المناطق المنكوبة بسرعة، أو إعلاء عريضة وفرض عقوبات على مرتكبي الأعمال الظّالمة.
نحن قادرون، أكثر من أيّ وقت مضى في التّاريخ، على تعزيز صحّتنا بسرعة وكفاءة، كما أثبت التّعاون العالميّ الّذي أدّى إلى تطوير لقاح ضدّ وباء كورونا خلال أقلّ من عام بعد تفشّيه. لقد أصبحنا أكثر وعيًا بالاحتياجات الشّخصيّة والاجتماعيّة والبيئيّة، ومقدرتنا على التّعامل معها آخذة في الازدياد- ومعها كذلك المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا للقيام بذلك بطريقة محسوبة ومستدامة.
الاستخدام المستدام لذكائنا التّكنولوجيّ يعتمد علينا فقط. وأهمّيّته واضحة للجميع، كما أنّ الحاجة إلى مراقبته والسّيطرة عليه واضحة كذلك. مشكلتنا هي في التّطبيق. مثل الأطفال، نحن ننظر إلى نتائج سلوكنا الجامح ونلقي باللّوم على "التّكنولوجيا"، بدلاً من الاعتراف بأنّ القيمة الأهمّ الّتي يتطلّبها ذكاؤنا التّكنولوجيّ الّذي نتفرّد به، هي المسؤوليّة: نفس الفهم بأنّ اتّخاذ قرار بتطوير قدرات جديدة واستخدامها، يتطلّب منّا الاهتمام بعواقبها.
في الخلاصة، يجب علينا قبل اتّخاذ أيّ قرار أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت حقيقة قدرتنا على القيام بشيءٍ ما، تعني بالضّرورة أنّنا بحاجة إلى القيام به. الجواب على ذلك ليس تكنولوجيًّا، وإنّما يكمن في قيَمنا الاجتماعيّة والثّقافيّة كجنس بشريّ.