المهندس المعماريّ الّذي استخلص المغازي الخاطئة من النمل الأبيض (Termite)، الطحالب الّتي تنقّي الهواء، والخرسانة البيولوجيّة (Bioconcrete) النقيّة. المحاكاة الحيويّة في خدمة البشريّة
تهدف المحاكاة الحيويّة، وهي فرع من فروع العلوم، إلى دراسة الأنظمة والكائنات الحيّة في الطبيعة بهدف الاستلهام منها وتقليدها لصالح الإنسان. الفكرة بسيطة- عملت نظريّة التطوّر لمليارات السنين على تكييف الحيوانات والنباتات مع المحيط. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نستفيد منها لتطوير التكنولوجيا لخدمة الإنسان؟
كان ليوناردو دافنشي من أوائل من استوحوا اختراعاتهم من الطبيعة، حيث راقب الطيور بهدف تقليدها وبناء آلة طيران للبشر. لتحقيق هذه الغاية، درس تشريح الطيور وكيفيّة طيرانها، وأنشأ مخطّطات لآلات طيران. على الرغم من أنّ أفكاره لم تنجح في عصره، إلا أنّ أساس نهجه كان صحيحًا، كما أثبت الأخوان رايت (Wright brothers) في عام 1903 عندما صمّما وحلّقا بأوّل طائرة مستوحاة من الطيور. منذ ذلك الحين، استلهمت العديد من الصناعات، مثل الطبّ، وسائل النقل، وصناعة الملابس، من الطبيعة لتطوير أجهزة فعّالة، موادّ جديدة وغيرها- ولم يتمّ تجاهل الهندسة المعماريّة والبناء أيضًا.
تطوّر المنازل
إنّ النظر إلى المباني في الطبيعة أمر مثير للاهتمام بشكل خاصّ. لقد تشكّلت الأعشاش، الأوكار، والموائل الطبيعيّة الأخرى للكائنات الحيّة الموجودة في العالم من خلال التطوّر، واتّخذت شكلها الحاليّ على مدى ملايين السنين، لتتناسب مع الظروف الجغرافيّة واحتياجات كلّ كائن. في الواقع، ظهرت العديد من النماذج البنائيّة والبيئيّة خلال عمليّة التطوّر، لكن فقط أنجحها نجا واستمرّ. لذلك، نرى اليوم المزيد من الأمثلة في عالم الهندسة المعماريّة، التصميم، البناء للمباني والأنماط الّتي تعتمد نماذج من الطبيعة. يدمج المهندسون أحيانًا موادّ حيّة، مثل الطحالب والبكتيريا، في بيئات العمل والمعيشة.
أحد الأمثلة على المباني المستوحاة من الطبيعة كان قد عرضَه المهندس المعماريّ ميك بيرس (Mick Pearce) في زيمبابوي، حيث صمّم مركز التسوّق "إيستجيت" ؛(Eastgate) في العاصمة هراري. كان على بيرس أن يجد طريقة لتبريد المبنى في دولة زيمبابوي الاستوائيّة الحارّة، ولهذا استوحى الإلهام من النمل الأبيض المحليّ، الّذي يبني لنفسه أثلامًا ضخمة ومبرّدة جيّدًا.
في مستعمراته المتشابكة، يقوم النمل الأبيض في تنمية فطر يتغذّى منه، والّذي يتطلّب نموّه الحفاظ على درجة حرارة ثابتة إلى حدّ ما. مع ذلك، يتميّز مناخ المنطقة بتقلّبات حادّة في درجات الحرارة بين النهار والليل، ما دفع الباحثين إلى افتراض أنّ النمل الأبيض قد طوّر طريقة فريدة لتبريد وتهوية المستعمرة.
عند النظر إلى مستعمرة النمل الأبيض النموذجيّة، نلاحظ وجود العديد من فتحات التهوية المنتشرة على طولها، والّتي تسمح للهواء بالدخول عبر قاعها والصعود بشكل منظّم عبر جدرانها. يعمل الهواء المتدفّق على تسخين أو تبريد المستعمرة حسب الحاجة.
يعمل نظام التبريد في بناية "إيستجيت" بطريقة مشابهة. في الصباح، يبقى المبنى الخرسانيّ باردًا بتأثير برودة الليل، بينما مع مرور الوقت، يصبح دافئًا بتأثير الشمس، الناس، السيّارات وغيرها. خلال ساعات البرد، يتدفّق الهواء البارد من الخارج إلى أسفل المبنى من خلال الشقوق الموجودة في الألواح الأرضيّة، وينتقل إلى الأعلى من خلال نظام مدخنة متطوّر يمتدّ إلى جميع أنحاء المبنى. يتيح دوران الهواء تبريد المبنى من خلال الساعات الحارّة.
في هذه الأثناء تشرق الشمس، ويسخن الهواء خارج المبنى، وتقوم مراوح كبيرة بتخزينه في أسفل المبنى لاستخدامه في المساء عندما يكون الجوّ باردًا في الخارج. يُنقل الهواء الدافئ من أسفل المبنى إلى جميع أنحائه عبر نظام المداخن نفسه. بهذه الطريقة، يتمّ توفير 90 في المائة من الطاقة الّتي كان سوف يحتاجها المبنى للتبريد بالوسائل التقليديّة.
الأمر المفاجئ أنّه بعد مرور نحو عقد من الزمن على افتتاح المركز، اكتشف الباحثون أنّ النموذج الّذي استند عليه بيرس لا يتوافق مع حقيقة مستعمرات النمل الأبيض في الطبيعة. اتّضح أنّه على الرغم من أنّ درجة الحرارة في المستعمرة تظلّ ثابتة طوال اليوم، إلا أنّها تتغيّر على مدار العام. مع ذلك، تظلّ درجة الحرارة داخل المستعمرة مشابهة جدًّا لدرجة حرارة عمق التربة المحيطة بها.
بالإضافة إلى ذلك، اكتشفوا أنّه عندما أغلق الباحثون فتحات التهوية في المستعمرة، لم تتأثّر درجة الحرارة بشكل كبير. أي إنّ درجة الحرارة تتأثّر بالتربة المحيطة بها، وإنّها لا تحتوي على نظام تهوية مخصّص لتنظيمها. على الرغم من الخطأ في فهم مستعمرة النمل الأبيض، فإنّ المبنى الّذي أنشأه بيرس يستخدم الطاقة بشكل جيّد ويُعرف بالتأكيد بأنّه نجاح هندسيّ.
المبنى مستوحى من النمل الأبيض، لكنّهم في الواقع يستخدمونه بطريقة مختلفة. تلّة من النمل الأبيض في أستراليا | Shutterstock
طحالب للتنفّس
في الآونة الأخيرة، نلاحظ أنّ الوعي بأهميّة البناء المستدام، والمعروف أيضًا بالبناء الأخضر، آخذ بالازدياد. يهدف هذا النوع من البناء إلى تقليل استهلاك الطاقة والتلوّث الناجم عن المباني الّتي من صنع الإنسان. يدور الحديث عن أكثر بكثير من مجرّد دمج النباتات للمنظر الطبيعيّ، وغالبًا ما يشمل هندسة معماريّة متقدّمة تقنيًّا في كثير من الأحيان.
من الأمثلة المثيرة للاهتمام، هو نظام التمثيل الضوئيّ الّذي طوّرته شركة EcoLogicStudio. يعتمد هذا النظام على تغطية المبنى بالطحالب، الّتي تقلّل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في بيئة المبنى. تندمج الطحالب في ستائر شفّافة وتقوم بعمليّة التمثيل الضوئيّ فيها، أي إنتاج السكّر وإطلاق الأوكسجين من ثاني أوكسيد الكربون والماء من خلال الاستفادة من الطاقة الشمسيّة. بحسب الشركة، فإنّ 16 وحدة بمساحة 14 مترًا مربّعًا من هذا الستار البيولوجيّ تعادل زراعة عشرين شجرة، من حيث القدرة على امتصاص ثاني أوكسيد الكربون.
يمكن لهذه الستائر أن تساعد في تقليل انبعاثات غازات الدفيئة في المدن الملوّثة بشكل خاصّ. يكمن جمال الفكرة في أنّه لا داعي لتخصيص مساحة مخصّصة لها مثل زراعة الأشجار، بحيث يمكن دمجها بشكل جيّد في بيئة مدنيّة كثيفة.
الخرسانة (الباطون) الحيويّة
مثال آخر مثير للاهتمام لاستخدام الكائنات الحيّة في البناء يتعلّق أيضًا بمشكلة انبعاثات غازات الدفيئة. يصدر اليوم عن صناعة الخرسانة ما لا يقلّ عن ثمانية في المائة من إجمالي غازات الدفيئة المنبعثة في العالم. تعتبر الخرسانة أكثر مادّة بناء شائعة في العالم، ويبلغ إنتاجها حوالي أربعة مليارات طنّ سنويًّاـ ولكن أثناء عمليّات إنتاجها، يتمّ إطلاق الكثير من ثاني أوكسيد الكربون إلى الغلاف الجويّ. لذلك، تنصّ اتفاقيّة باريس لسنة 2016 على خفض انبعاثات الغاز الناتجة عن صناعة الخرسانة بنسبة 16 في المائة تقريبًا بحلول سنة 2023.
كيف سيتمّ التوفيق بين هذا التخفيض والحاجة المتزايدة لاستخدام الخرسانة في البناء؟ من المتوقّع أن يزداد الطلب في هذه الفترة بأكثر من 25 في المائة، وذلك بسبب التوسّع الحضريّ الواسع النطاق في جنوب شرق آسيا وأفريقيا. دفع ذلك شركة BioMason للبحث عن حلّ لإنتاج لبِنة بناء صديقة للبيئة. لقد استوحوا إلهامهم من عمليّة صنع الأصداف المصنوعة من كربونات الكالسيوم (CaCO3).
تنتج الشركة "خرسانة بيولوجيّة" (Biocement)- وهي لبِنة بناء تتكوّن من الرمال بواسطة بكتيريا تنتج كربونات الكالسيوم. تتراكم كربونات الكالسيوم في الرمال، ما يؤدّي إلى تصلّب المادّة المحيطة بها دون انبعاث أيّ غازات دفيئة، وبالتالي تتشكّل لبِنة البناء بشكل تدريجيّ لتكون مناسبةً للبناء. في الواقع، عمليّة صنع لبِنة البناء تشبه عمليّة النموّ، حيث يمكن اعتبارها أشبه بعظام حيّة، تحتاج إلى الماء والغذاء لتنمو بنجاح.
عندما تصل لبِنة البناء إلى الحجم المطلوب، فإنّها تخضع لعمليّة تجفيف، وبعد ذلك تصبح جاهزةً للاستعمال في المبنى. تتمتّع لبِنة البناء بقوّة مشابهة لتلك الّتي لدى لبِنات البناء الكلاسيكيّة. أمّا البكتيريا، فتموت بمجرّد توقّف تزويدها بالماء والغذاء.
لبِنات البناء الناتجة عن عمليّات "النموّ"، دون غازات الدفيئة. خرسانة وتصوير بالمجهر الإلكترونيّ الماسح لكربونات الكالسيوم | SPL
تزوّدنا الطبيعة بإلهام لا نهاية له من الأفكار والحلول الّتي يمكن دمجها في بيئتنا المعيشيّة. إنّ الوعي المتزايد بتأثير الإنسان على مناخ الأرض، والحاجة المتزايدة باستمرار للبحث عن حلول بيئيّة، يسرّع البحث عن حلول أثبتت نفسها عبر التطوّر كأنظمة فعّالة في الهندسة المعماريّة والبناء. مع تحسّن التكنولوجيا وعلوم الموادّ، ومع تكثيف التعاون بين علم الأحياء ومجالات البناء والهندسة المعماريّة، يظهر المزيد والمزيد من التشابه والتكامل بين الطبيعة وأعمال الإنسان.