يمتلك دماغنا آليّة فعّالة بشكل مذهل للتّعرّف على الوجوه، فيقوم بذلك بشكل سريع وتلقائيّ. وتحديدًا بسبب ذلك من السّهل جدًّا إِرباكه – فقط إذا عرفنا كيفيّة ذلك

لاحظوا الوجهين التّاليين المقلوبَين رأسًا على عقب. هل هما متطابقان أم مختلفان؟


هل استطعتم إيجاد الفروقات؟ وجه مارغريت ثاتشر، رأسًا على عقب | ويكيبيديا، أخذت من صورة لـ Rob BogaertsImage

للوهلة الأولى، معظمنا لن يلاحظ فرقًا واضحًا، ولكن إذا قمنا بمحاذاتهما فكلّ شيء سيتغيّر. سنكتشف حالاً أنّ الصّورة اليسرى طبيعيّة تمامًا، بينما في اليمنى تمّ قلب العينيْن والفمّ بمقدار ١٨٠ درجة، ونتج عن ذلك منظرٌ غريبٌ وغير إنسانيّ.


آآآآآآها! عندما يكون الوجهان متحاذيين، نرى على الفور أنّ أحدهما مشوّه | ويكيبيديا، أخذت من صورة لـ Rob BogaertsImage

هذه الصّور هي جزء من تجربة قام بها عالم النّفس بيتر طومسون (Thompson) من جامعة يورك في إنجلترا في سنوات الثّمانينيّات. سعى طومسون في بحثه إلى فهم ما إذا كانت الصّعوبة الّتي نواجهها في التّعرّف على الوجوه المقلوبة رأسًا على عقب، ترجع إلى حقيقة أنّ تغيير اتّجاه الصّورة يعقّد من تحليل تعابير الوجه، أم أنّ الأمر مرتبط بحقيقة أنَّ معظم المعلومات عن الوجه، موجودة في الأجزاء الّتي تعبّر عن المشاعر، مثل العينيْن والفم.

لفهم ذلك، استخدم طومسون صورة لرئيسة الوزراء البريطانيّة آنذاك مارغريت ثاتشر، والّتي كانت من أشهر الشّخصيّات في المملكة البريطانيّة، وفحص كيف يؤثّر قلب الوجه رأسًا على عقب على إدراكنا. وجد أنّه عندما نرى وجهًا معروضًا بشكل مقلوبٍ من الأسفل إلى الأعلى، يصعب علينا إدراك أنّ أجزاءً بداخله قد قُلِبت. لكن، عندما ننظر إلى الصّورة في حالتها الطّبيعيّة، فإنّ التّغييرات في أعضاء معيّنة فيها ستبرز لنا على الفور.

لحيوانات أخرى مثل السّلاحف أو الأغنام، يمكنها التّعرّف على الوجوه أيضًا. وبشكل مفاجئ، يتّضح أنّ تأثير ثاتشر غير مقتصر على البشر فقط. عندما عُرضت صورٌ لقرود بشكل مقلوب على قرودٍ أُخرى، ظلّت تلك القرود غير مبالية. وأيضًا صورٌ معالجة لقرودٍ مقلوبة رأسًا على عقب، كصورة ثاتشر، لم تجذب انتباههم. لكن عندما قاموا بجعل الصور المعالجة بمحاذاة بعضها البعض، نظرت القرود إليها لفترة طويلة، وأشار سلوكهم حينها إلى أنّهم يشعرون بالحماس أكثر من المعتاد.


التّعرّف على الوجوه في دماغنا هو عمليّة شموليّة. رجل مع خطوط بيضاء تُحدّد وجهه | Shutterstock, Prostock-studio

السّبب في تأثير ثاتشر هو أنّ عمليّة التّعرف على الوجوه في دماغنا هي عمليّة شموليّة، أي أنّ الدّماغ يبحث عن النّمط المألوف للوجه، ولا يعالج كلّ جزء في الوجه لوحده على حدة. هنالك عدّة مناطق في الدّماغ تشترك في التّعرّف على الوجوه: القشرة البصريّة الأوّليّة هي الّتي يتمّ فيها التّعرّف على أطراف الخطوط والأشكال وزواياها. في المرحلة التالية، هناك منطقة في الفص الجانبي، متخصّصة في التّعرف على الوجوه، تقوم بتحديد المميزات التي نبحث عنها في الوجه، مثل العينين والأنف والفم، وتنضمُّ أيضًا مناطق أخرى في الدّماغ وتكمل معالجة المعلومات.

خلال هذه العمليّة، يتمّ الحصول على تمثيل ذهنيّ وشموليّ للوجه بأكمله. لذلك، فالمكياج أو تغيير قصّة الشّعر لا تؤثّر عادةً على قدرتنا على التّعرّف على الشّخص الّذي أمامنا، لأنّنا نكون قد تعرّفنا على إجماليّ مميّزات وجهه. يتيح لنا التّمثيل الشّامل التّعرف على الوجوه، والتّمييز بين الوجوه المألوفة وغير المألوفة بسرعةٍ وبسهولةٍ. في الواقع، البشر ماهرون جدًا في التّعرّف على الوجوه، إلى درجة أنّهم يستمرّون في التّعرف عليها حتّى عندما لا يكون هناك أيّ وجهٍ في الحقيقة أمامهم.


البشر ماهرون جدًّا في التّعرّف على الوجوه، إلى درجة أنّهم يستمرّون في التّعرّف عليها حتّى عندما لا يكون هناك أيّ وجهٍ في الحقيقة أمامهم. أمثلة على الباريدوليا، ظاهرة التّعرّف على الوجوه في الأشياء الجامدة | Shutterstock, Agnieszka Pas, Alex Farias, Hernan E. Schmidt, ויקיפדיה, Alexander Gee

 

التّشوّه غير الموجود حقيقةً

في عام ٢٠١١، اكتشف باحثون من أستراليا عن طريق الصّدفة تأثيرًا آخر فيما يتعلّق بإدراك الوجوه لدى البشر. قبل الحديث عن الوهم البصريّ، يوصى بشدّة أن تجرّبوه بأنفسكم:

 إيضاح لتأثير تشويه الوجه الوامض:

هل شعرتُم بعدم الرّاحة؟ ربما تساءَلتم أيَّ تلاعبٍ أو معالجة بالفوتوشوب أُجريَتعلى الوجوه؟ في الحقيقة، فإنّها غير معالجة على الإطلاق. اكتُشِف أنّ تأثير تشويه الوجه الوامض (flashed face distortion effect) عندما أراد باحثون عرض وجوهٍ على شاشة حاسوب في تجربةِ تعرُّفٍ على الوجوه. لترتيب الصّور بطريقة منظّمة، وضعت عيون كلّ شخصيّة في الصّور على نفس الارتفاع على الشّاشة، وسوى ذلك لم تُعالَج الصّور أو تُغيَّر بأي شكل من الأشكال.

في نفس التّجربة، كان من المفترض أن تظهر كلّ صورة على الشّاشة لبضعة ثوانٍ، ولكن قبل ذلك، عرض الباحثون الصّور المتعاقبة على الشّاشة بوتيرةٍ سريعةٍ، لأجل التّأكّد من أنّ التّجربة تعمل كما يجب فقط. ولدهشتهم، شعروا أنّ الوجوه أصبحت مشوهة، أو أنَّ أجزاءً معيّنة في الوجه بدت كرسم كاريكاتوريّ – أي أنّها مضخّمة وكبيرة بشكل مبالغ به. عندما عادوا ونظروا إلى كلّ صورة على حدة، بدت الوجوه عاديّةً تمامًا.

ما يقف في أساس هذه الظّاهرة هو التّرميز النّسبيّ. لأنّه تمّ محاذاة جميع الوجوه في قاعدة البيانات بحسب خطّ العينيْن، تم دفع أذهان المشاهدين بشكل تلقائيّ وغير إراديّ إلى مقارنة حجم أجزاء الوجه في الصّور المتعاقبة وموقعها. لذلك، عندما تتغيّر الوجوه بسرعة، وتكون هناك اختلافات في بنية الأجزاء بداخلها أو حجمها - العين أو الجبهة على سبيل المثال، سيظهر نفس العضو في الصّورة التّالية مشوّهًا، أي كبيرٌ جدًا أو صغيرٌ جدًا. إذا قمنا بتغيير السّرعة الّتي تتغيّر بها الوجوه، أو تغيير مكانها بحيث لا تظهر على ذات النقطة تمامًا، فالتّأثير ينتهي.

وهم الوجه السّمين

في دراسة أخرى، قدّم بيتر طومسون - المعروف لنا من تأثير ثاتشر - للممتَحنين صورتين لنفس الوجه، واحدة مستقيمة والأخرى مقلوبة بمقدار ١٨٠ درجة. هذه المرّة لم يُجرى أيّ تغيير على الصّور نفسها. اكتشف أنّ الشّخصيّة الموجودة في الصّورة المقلوبة تبدو للنّاس أنحف، أو ذات وجهٍ أضيق، مقارنةً بنفس الشّخصيّة في الصّورة المستقيمة.


أيّ وجه يبدو أنحف؟ صور لنفس الإنسان، واحدة مستقيمة والأخرى مقلوبة | Shutterstock, Ranta Images

لاحقًا، اكتشف باحثون من كندا والصّين وفرنسا أنّه عندما تُعرض صورتان لنفس الوجه بالضّبط وفي نفس التّوقيت، واحدة فوق الأخرى، يميل المشاهدون إلى الاعتقاد بأنّ الوجه السفليّ سمين أكثر من العلويّ. عندما أداروا إحدى الصّورتين بمقدار ١٨٠ درجة، اختفى الوهم. لفحص ما إذا كان ذلك ينطبق على كلّ جسم، وما إذا كان سيبدو الجسم السّفليّ دائمًا أوسع من العلويّ، أعادوا التّجربة، هذه المرّة مع ساعات يد. ولكنّ المشاركين صنّفوا الوجوه فقط على أنّها "أسمن" أو "أنحف"، ولم يجدوا أيّ فرق بين السّاعات. لذلك يبدو أنّ هذا مَيلٌ متعلّقٌ بآليّة التّعرّف على الوجوه لدينا.

لماذا؟ في الحالة العاديّة نحن نرى كلّ وجهٍ على حدة، لكن عندما يُعرض وجهان أمامنا في نفس التّوقيت، فإنّ آليّة العرض النّسبيّ والمقارنة بين أجزاء الوجه تخلق هذا المَيل. عندما تكون العينان والأنف والفم مقلوبين، فإنّنا نعالج العلاقة بينهم بشكل مختلف قليلًا، وعندها يخلق وهم بأنّ الوجه أضيق أكثر.

خلاصة الأمر، فإنّ البشر يتحلّون بالقدرة على التّعرّف على الوجوه بسرعة ودقّة مدهشتيْن. تتطوّر هذه القدرة في السّنوات الأولى من حياتنا، وعادةً ما تخدمنا بشكل جيّد. تستند الأوهام البصريّة الّتي استعرضناها هنا إلى مواقف غير موجودة في الواقع اليوميّ، الّذي تطوّرت فيه هذه القدرة لدينا أثناء عمليّة التطوّر، مثل قلب الأعضاء أو عرض الصّور على شاشة، ولذلك فقد نجحت في جعل الأمور تختلط علينا. يعمل في الحياة الحقيقيّة هذا الأمر بشكل مختلف، وهذا لصالحنا، لأنّه لولا موهبتنا المتأصّلة بالتّعرّف على الوجوه، لن نكون قادرين على التّواصل مع الآخرين، والعيش في مجتمع بنفس هذه السهولة.

 

0 تعليقات