يرمز شعر الرأس لدى بني البشر إلى الجمال والحيوية والمكانة الاجتماعية. هل يوجد للشعر دور آخر؟ مثل الحفاظ على حرارة الجسم وأدائه السليم؟
يعتبر الشعر أحد مكوّنات المظهر الخارجي ذات الدلالة الكبيرة لدى الإنسان، ويتخذ الشعر هيئات وألوان متنوعة، فقد يكون أملسًا أو مُجعّدًا أو ملتفًّا أو متموّجًا، فاتح اللون أو غامقًا. هل توجد للشعر وظائف هامة أخرى ليست في مجال اللياقة والجمال والحالة النفسيّة؟ وهل هناك نوع معين مثالي من الشعر يحمي الجسم من الحرارة الزائدة؟
يتميز بنو البشر، من بين الثديّات، بجسم عارٍ نسبيًّا لا يكسوه شعر كثيف. على الرغم من ذلك فإن فروة رأس الإنسان مكسوة بحوالي 80 إلى 120 ألف شعرة، ويزداد طولها حوالي 1.3 سنتيمترًا في الشهر. شعر الرأس هو الأطول في أجسامنا وذلك بفضل فترة نموه الأطول في دورة نمو الشعرة، مقارنة بالشعر في أماكن أخرى في الجسم، مثل الذراع والأرجل. يبحث العِلم منذ سنين عن الوظيفة الفيزيولوجية لِشعر الرأس على أمل العثور على تفسير لِلوفرة الكبيرة من الشعر الذي يتركز في هذه المنطقة بالذات. وفّرت الدراسات التي أجريت في السنوات الأخيرة على وظيفة الشعر إجابات أكثر وضوحًا. تفيد إحدى الفرضيات المقبولة في أيامنا بأنّ شعر الرأس يُشكّل ضابطًا لدرجة الحرارة ويسهم في الحفاظ على حرارة جسم سليمة، ويحمي الجسم وأعضائه من التغيرات في درجة حرارة البيئة المحيطة.
ما هي وظيفة الشعر، عدا عن الزينة والجمال؟ لُبدات شعر بألوان وأنواع عديدة | EJ Nickerson, Shutterstock
أهمية حرارة الجسم السليمة
يحافظ جسم الإنسان المعافى على درجة حرارة 37 درجة مئوية (سيلزيوس) أو أكثر أو أقل من ذلك بحوالي نصف درجة. تُسمى هذه الميزة المثيرة، أن يحافظ الجسم على بيئة داخلية ثابتة ومستقرة وتُوازَن بها التغيرات، بالـ استتباب أو التوازن، هوميوستازيس (Homeostasis) باللاتينية. قد تكون التغيرات داخلية، كَارتفاع أو انخفاض مستوى السكر في الدم، أو خارجية كَموازنة درجة حرارة الجسم في بيئة باردة أو حارّة.
تتراوح درجة الحرارة على سطح الكرة الأرضية في الأماكن المختلفة ما بين 90 درجة تحت الصفر المئوي وبين 70 درجة فوق الصفر. يتعرض الكثير من الناس لدرجات حرارة عالية أو منخفضة جدًّا، مع أنّ غالبية بني البشر لا يعيشون في مثل تلك الظروف المناخية المتطرفة. يستطيع جسم الإنسان عادةً، حتى في الظروف المناخية الصعبة، المحافظة على درجة حرارة داخلية ثابتة. منطقة ما تحت المِهاد (الوطاء)، الهيبوثالاموس (Hypothalamus) باللاتينية، التي في الدّماغ، هي المسئولة عن ضبط درجة حرارة الجسم. يَختبر الوطاء درجة حرارة الجسم ويقارنها بدرجة حرارة الضبط، حوالي 37 درجة مئوية. يشير الوِطاء للجسم بتعظيم العمليات التي تُشعُّ الحرارة في حال كانت البيئة المحيطة الخارجية باردة، وتعظيم العمليات التي تُبدّدُ الحرارة في البيئة الحارة، وذلك بُغية الوصول إلى درجة الحرارة السليمة. يستطيع الجسم هو الآخر خفض أو رفع درجة حرارته بشكل مقصود، مثلًا لِمجابهة الملوثات التي قد تقتحمه.
المحافظة على درجة حرارة ثابتة داخل الجسم ضرورية، وذلك للمحافظة على مجرى سليم للعمليات التي تحدث داخله، مثل نشاط الإنزيمات، والمحافظة على استقرار الخلية وثبات المادة الوراثية، ومكافحة الالتهابات. قد يُعرّضُ الإضرار بهذه العمليات وغيرها نشاط الخلايا السليم للخطر ويُلحِق الضرر بأعضاء الجسم الحيوية مثل الدّماغ وَالقلب واَلكبد والكِلى وقد يؤدي إلى الموت.
يبذل الجسم الطاقة والموارد الكثيرة من أجل المحافظة على درجة حرارة ثابتة. التعرق، الذي يتم فيه إفراز الماء والأملاح من غدد العرق إلى السطح الخارجي للجلد، هو إحدى الطرق لضبط درجة الحرارة العالية. تَخزِن المياه التي تُفرَز الطاقة الحرارية من الجسم فتكون درجة حرارتها أعلى من درجة حرارة الجسم، ثمّ تتبخر. تؤدي عملية التبخر إلى تبريد الجسم، حسب الضرورة، وتعيد درجة حرارته إلى الوضع السليم.
هل يَبرُد الصُّلع بشكل أسرع؟
حاول الباحثون على مر السنين أن يفهموا فيما إذا كان لِشعر الرأس تأثير في المحافظة على درجة حرارة الجسم السليمة. تبين للباحثين، من خلال إحدى الدراسات الأولى، والتي أجريت سنة 1988، أنّ سرعة تبخر العرق لدى الصُّلعان تعادل ضعفين إلى ثلاثة أضعاف سرعتها لدى الأشخاص الذين يتمتعون بشعر وافر. استنتج الباحثون من هذه التجربة أنَّ الصّلعة تتيح تبريد الجسم بشكل سريع وتزيد من نجاعة وصول الجسم إلى درجة حرارة سليمة بعد أن ازدادت حرارته. فسر الباحثون هذا الاستنتاج ببساطة - يقلل الشعر الذي يغطي فروة الرأس من تبخر العرق ويبطئ بذلك عملية تبريد الجسم.
فحصت دراسة أخرى، أجريت بعد بضع سنوات، القدرة على تبريد الجسم لدى فئتين من الرجال، إحداها صُلعان والأخرى ذوي شعر على رؤوسهم، وذلك خلال قيامهم بالنشاط الجسماني تحت أشعة الشمس الحارقة. كانت النتائج في هذه الدراسة مغايرة: كانت درجة التعرق لدى ذوي الشعر أبطأ منها لدى الصلعان طوال فترة النشاط الجسماني، إلا أنه لم تكن هناك فروق أخرى في درجة حرارة الجسم لدى الفئتين من الرجال. عززت هذه النتيجة الافتراض بأنّ شعر الرأس يوفر وقاية معينة من حرارة الشمس. رأى مُؤلفو الدراسة ضرورة القيام بدراسات أخرى تفحص فيما إذا كان استخدام غطاء للرأس يسهم في تقليل التعب وتحسين النشاط الجسماني الذي يجري تحت أشعة الشمس.
فحصت الدراسات الاحترار ودرجة تبخر العرق لدى الأشخاص ذوي شعر على رؤوسهم ومن لا شعر لهم. في الصورة شخص له صلعة والعرق على جبينه وفروة رأسه | Boyloso, Shutterstock
الشعر المُجَعّد هو الفائز
توجد حالات بينية، ولا تقتصر الحياة على الصلعة الكاملة أو الرأس الممتلئ بالشعر. تمت في دراسة أخرى المقارنة بين مجموعتين من الأشخاص - ذوي الشعر القصير وذوي الشعر الطويل، وفُحصت قدراتهم على تبريد أجسامهم. كشف الباحثون أنّ مجموعة الأشخاص ذوي الشعر الذي يبلغ طوله حوالي 5 مليمترات يفقدون الحرارة ويَبْرُدُون بسرعة أكبر من ذوي الشعر الطويل، الذي يتراوح طوله بين 100 و 130 ملمترًا.
ما تبقى فحصه، بعد هذه الاكتشافات، هو مدى تأثير نوع الشعر ومَلمَسه على تبخر العرق وتبريد الجسم. أجرى باحثون دراسة جديدة في هذا الخصوص استخدموا فيها دُمى صلعاء الرأس وضعوا عليها شعرًا مستعارًا (باروكة) من عدة أنواع - شعر أملس وشعر ملتف وشعر مُجعّد (التفاف بكثافة عالية)، ودمية بدون شعر البتة. استخدم الباحثون مصابيح تسخين لدرجات حرارة مختلفة وظروف صناعية من الرطوبة والتهوية وذلك لِمحاكاة الظروف البيئية المتغيرة.
أظهرت نتائج الدراسة أنّ الرأس الفائز، أي الرأس الذي استوعب أقل قدْر من الحرارة هو الرأس ذو الشعر المُجعّد. يليه الشعر الملتف ثم الشعر الأملس. يُشكّل الشعر بحد ذاته طبقة عازلة ويحمي فروة الرأس من الاحترار الزائد، ذلك على الرغم من أنَّ الرأس المغطى بالشعر المجعد يتيح تبخر كمية أقل من العرق. أضف إلى ذلك أنّ نتائج هذه الدراسة تدعم وتعزز الدراسات السابقة وتؤكّد أنّ الرأس الأصلع، على الرغم من أنه يتيح تبخر العرق بنجاعة كبيرة، يستوعب الكثير من الحرارة، الأمر الذي يجعله أقل نجاعة في الحفاظ على درجة حرارة جسم سليمة تحت أشعة الشمس.
من هنا فإن لِشعر الرأس دور حقيقي في تنظيم درجة حرارة الجسم، ولا يقتصر دوره على كونه أحد أسس مظهرنا الخارجي و صورتنا الذاتية. يوفر لنا الشعر حماية من الاحترار الزائد في الشمس ويؤثر على كمية العرق التي تتبخر. إلى ذوي لبدة الشعر الملتف الكثيف - إذا كنتم تحسدون ذوي الشعر الأملس عندما تقفون تحت أشعة الشمس، وتَظنون أنهم يتمتعون بالتهوية والبرودة، فقد تكونوا مخطئين. الشعر المجعد بالذات هو الفائز في مجابهة حرارة الشمس.