يمكن للهلوسات أن تكون مقنعة بشكل لا يقلّ عن الواقع "الموضوعيّ". ما الّذي يحدث في الدماغ أثناء الهلوسة؟

يبدو لنا أحيانًا أنّ الواقع متزعزع- عندما نسمع، على سبيل المثال، صوتًا هامسًا لم يسمعه أحد غيرنا، أو نرى شخصًا مارًّا على طرف مجال رؤيتنا وهو في الحقيقة غير موجود. تُسمّى هذه الظواهر هلوسات، وهي أمرٌ يتحدّى تصوّرنا عن الواقع. على الرغم من أنّنا معتادون على اعتبار الواقع شيئًا مطلقًا وموضوعيًّا، إلّا أنّه وإلى حدّ ما فإنّنا لا نملك إمكانيّة الوصول المباشر إليه: فالواقع الّذي ندركه هو نسخة العالم الّتي يشكّلها دماغنا، من أجزاءٍ لا حصر لها من المعلومات الحسيّة، والّتي يقارنها مع التوقّعات السابقة وتجاربنا الماضية. اللقاء مع العالم الخارجيّ يتمّ من خلال النشاط المستمرّ لعقلنا، والّذي يجمع بين التجارب الحسيّة والمشاعر والذكريات. توضّح الهلوسات مدى هشاشة هذه العمليّة، وما هو النشاط المعقّد المطلوب من الدماغ، ليس فقط لمعالجة جميع المعلومات، ولكن أيضًا لإعطائها معنىً "منطقيًّا" بالنسبة لنا. ما الّذي يحدث عندما يفشل هذا النظام، ولماذا حينها بالضبط تتولّد أصوات ومشاعر وصور غير موجودة في الحقيقة؟

الهلوسات هي تجارب إدراكيّة حسيّة ليس لها نظير في الواقع. على عكس الخيال، أحيانًا يتمّ اختبار الهلوسة بشدّة إلى درجة يصعب تمييزها عن الواقع. من المعتاد اكتشاف الهلوسة مع الأمراض النفسيّة أو الحالات الذهانيّة أو مع تعاطي أنواع معيّنة من المخدّرات، ولكنّها يمكن أن تحدث في العديد من الحالات الأخرى، مثل الحُمّى الشديدة والجفاف أو حتّى النقص المطوّل للمحفّزات الحسيّة. القاسم المشترك بين كلّ هذه الأمور هو تأثيرها في الجهاز العصبيّ المركزيّ؛ وعلى ضوء ذلك، أُجريت العديد من الدراسات الّتي بحثت العلاقة بين بنية الدماغ والهلوسات، ودرست بنية الدماغ لدى الأشخاص الّذين تعرّضوا للهلوسة- أبعاد الدماغ ومدى سلامة أجزائه المختلفة.


 الهلوسات هي تجارب إدراكيّة حسيّة تفتقر إلى نظير لها في الواقع. الفنّان الألمانيّ أوجست ناترير (Natterer)، الّذي كان يعاني من مرض انفصام الشخصيّة، رسم عينيه كما تظهران عندما يُصاب بالهلوسة | ويكيميديا

حين يكون العقل نشطًا جدًّا

في مقال استعرض بشكل موسّع العديد من الدراسات حول تلف الدماغ والهلوسات، تمّ وصف علاقة بين نوع التحفيز الحسيّ الّذي خلق الهلوسة- تحفيز سمعيّ أو حسيّ أو بصريّ أو مرتبط بالرائحة- وبين الضرر الّذي حدث في منطقة في الدماغ مسؤولة عن معالجة المعلومات الحسيّة من نفس النوع. الهلوسة البصريّة (المتعلّقة بالنظر) على سبيل المثال، ترتبط بتلف في القشرة البصريّة في الدماغ، حيث تتمّ معالجة المعلومات البصريّة القادمة من العينين. ومن ناحية أخرى، فإنّ الفرضيّة السائدة هي أنّ تجربة الهلوسة ناتجة في الواقع عن نشاط زائد في الجهاز العصبيّ، وهو ما يطرح سؤالًا تاليًا: كيف يمكن لإصابة في الدماغ أن تسبّب نشاطًا زائدًا فيه؟

يتكوّن الدماغ من عدّة أنواع من الخلايا العصبيّة، والّتي تؤثّر في عمله بطرق مختلفة. النوعان الأكثر شيوعًا من الخلايا هما: الخلايا المفعِّلة/المنشّطة (الغلوتاماتيّة)، والّتي تفرز جزيئًا من النواقل العصبيّة يُسمّى الغلوتامات (Glutamate)، والّذي يحفّز الخلايا العصبيّة ويشجّعها على الاستمرار في تفعيل/ تنشيط المزيد من الخلايا؛ والنوع الثاني: الخلايا المثبّطة، والّتي تفرز جزيئًا من النواقل العصبيّة يُسمّى باختصار GABA، وهو يقلّل من فرصة تفعيل/ تنشيط الخلايا المجاورة. يفترض الباحثون أنه في المنطقة المتضرّرة، الّتي تسبّب الهلوسة، توجد نسبة كبيرة بشكل خاصّ من الخلايا المثبّطة؛ وهكذا فإنّ تنظيم نشاط الدماغ يتعطّل، والنشاط الكهربائيّ فيه يزداد.


كيف يمكن أن يؤدّي تلف الدماغ إلى زيادة النشاط فيه؟ دماغ مريض الفصام، يوضّح المناطق الّتي يقلّ فيها عدد الخلايا (باللون الأحمر) | ويكيميديا، National Institute of Mental Health

لفهم كيف يبدو نشاط الدماغ أثناء اختبار الهلوسات، يستخدم الباحثون أساليب تعتمد على وتيرة التمثيل الغذائيّ للدماغ كمقياس لنشاطه، مثل تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI). دراسة أُولى متعمّقة تقيس نشاط الدماغ أثناء الهلوسات البصريّة ركّزت على المشاركين المصابين بمتلازمة تشارلز بونيه (Charles Bonnet Syndrome). تتسبّب هذه المتلازمة في إصابة الأشخاص السليمين نفسيًّا والّذين أُصيبوا بالعمى أو أصبحوا ضعاف البصر خلال حياتهم بهلوسة بصريّة معقّدة، تشمل الملمس والوجوه والألوان والأشياء. لاحظ الباحثون زيادة في النشاط في القشرة البصريّة. تتكوّن هذه المنطقة من مناطق فرعيّة ذات تخصّص محدّد، تكون مسؤولة عن فكّ شيفرة المعلومات البصريّة المعقّدة، مثل الألوان والأشكال والوجوه والتعبيرات والأشياء وغيرها. وُجد أنّ المنطقة الفرعيّة المحدّدة الّتي عملت بشكل مفرط، تطابقت مع محتوى هلوسات المشاركين. على سبيل المثال، لدى المرضى الّذين تضمّنت هلوساتهم بقعًا من الألوان، وُجِد نشاط زائد في منطقة القشرة البصريّة الّتي تعالج المعلومات حول الألوان، والّتي تُسمّى V4. بينما لدى مريض كانت هلوسته باللون الأسود والأبيض، لم يُلاحظ أيّ نشاط زائد في هذه المنطقة.

رجل مصاب بمتلازمة تشارلز بونيه يتحدّث عن تجاربه:

 

الهلوسة والفصام 

معظم الدراسات حول الهلوسة تدرس الأشخاص الّذين يعانون من مرض انفصام الشخصيّة- وهو اضطراب عقليّ مستمرّ يؤثّر في التفكير والإدراك والعواطف والسلوك. يعاني مرضى الفصام أحيانًا من حالات الذهان، والّتي تضعف من إدراك الواقع وتسبّب، ضمن أمور أخرى، الهلوسات والأفكار غير الصحيحة (الأوهام). تعتبر الهلوسات السمعيّة أكثر شيوعًا من الهلوسات البصريّة لدى مرضى الفصام؛ وبناءً على ذلك، لوحظ في كثير من الحالات انخفاض في عدد الخلايا في منطقة الفصّ الصدغيّ، حيث توجد القشرة السمعيّة. في دراسة قارنت مناطق مختلفة من الدماغ لدى الأشخاص السليمين مع نفس المناطق لدى مرضى الفصام، تمّ تحديد عدّة مناطق من الفصّ الصدغيّ حيث كان متوسّط ​​حجم الدماغ لدى المرضى أصغر. إضافة إلى ذلك، عندما قاموا بفحص الاختلافات في الحجم بين المرضى المختلفين وفقًا لمستوى الهلوسات لديهم، وُجد أنّ أحجام هذه المناطق كانت أصغر كلّما كان تعرُّض الأشخاص للهلوسة السمعيّة أكبر. كما تمّ الحصول على نتائج مماثلة في دراسات أحدث، فيها عدد مرضى الفصام الّذين تمّ اختبارهم كان مضاعفًا. إحدى الفرضيّات هي أنّ انخفاض حجم الفصّ الصّدغيّ يسبّب فشلًا في تنظيم نشاط الخلايا العصبيّة، في المنطقة المسؤولة عن معالجة المعلومات السمعيّة، وهكذا يصعُب التمييز بين الأفكار و"الصوت الداخليّ" وبين الأصوات الخارجيّة. 

دراسة أخرى تدعم الفرضية القائلة إنّ الهلوسات السمعيّة الّتي يعاني منها مرضى الفصام، تنشأ من أصوات عقليّة داخليّة. في هذه الدراسة، تمّ اختيار الأشخاص الّذين تتكرّر هلوساتهم  السمعيّة بوتيرة كبيرة؛ أثناء وجودهم في جهاز fMRI (التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ)، طُلب منهم الضغط على زرّ في كلّ مرّة يسمعون فيها هذه الهلوسات. في بعض الحالات، تمّ تشغيل أصوات خارجيّة وتسميعها لهؤلاء الأشخاص، وهكذا تمكّن الباحثون من مقارنة نشاط الدماغ أثناء الهلوسة ونشاط الدماغ في غيابه. أثناء الهلوسة، تمّ العثور على الكثير من النشاط في ثلاث مناطق في الدماغ: القشرة السمعيّة الأوليّة، والفصّ الصدغيّ الأوسط، ومنطقة بروكا. وبشكل مثير للدهشة، فإنّ النشاط في القشرة السمعيّة الأوليّة أثناء الهلوسة كان نفس النشاط أثناء التعرّض للأصوات الخارجيّة.

ليس من المستغرب أنّ الفصّ الصّدغيّ نشط بشكل قويّ أثناء الهلوسة، لأنّه تتواجد هناك عدّة مناطق متعلّقة باللغة وفك شيفرة المعلومات الصوتيّة. من ناحية أخرى، منطقة بروكا هي منطقة في الفصّ الأماميّ، لها دور مركزيّ على وجه التحديد في إنتاج اللغة (إنتاجها فقط وليس فهمها)؛ وعلى ضوء ذلك، فإنّ نشاطها أثناء الهلوسة السمعيّة، قد يدلّ على إنتاج حديث داخليّ. ولذلك، من الممكن أنّ النشاط الزائد في القشرة السمعيّة أثناء الكلام الداخليّ يشير للمرضى بأنّ "الأصوات في الرأس" قويّة مثل الأصوات الخارجيّة.

جهاز يتيح تجربة الهلوسة البصريّة والسمعيّة كما في حالات الذهان:

 

الصوت في الرأس؟

وفي دراسة أخرى، طُلب من 24 مشاركًا مصابًا بالفصام أن يشيروا إلى تعرّضهم للهلوسة الصوتيّة، بينما يتمّ فحص أدمغتهم بجهاز التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ fMRI. ولمحاكاة "الصوت الداخليّ" في ظلّ ظروف المختبر، شاهد المشاركون سلسلة من الحروف وطُلب منهم "أن يقولوا لأنفسهم" في رؤوسهم كلمات تبدأ بالحرف نفسه. وفي هذه الدراسة، وُجدت اختلافات بين نشاط الدماغ أثناء إنتاج "الأصوات" الداخليّة وبين الأصوات الناشئة عن الهلوسات، ومن وجهة نظر المشاركين فإنّه تمّ تجربتها على أنّها أصوات خارجيّة. كانت منطقة بروكا نشطة أثناء إنتاج الأصوات الداخليّة، بينما أثناء الهلوسة نشطت بالتحديد المنطقة المقابلة لمنطقة بروكا في النصف الأيمن من الدماغ (نصف الدماغ). بما أنّ الأمر كذلك، فلا يوجد إجماع بما يخصّ ارتباط منطقة بروكا في الهلوسة السمعيّة. 

أيضًا، فقد كشفت الدراسات الّتي فحصت درجة الاتّصال بين المناطق المختلفة في أدمغة الأشخاص المصابين بالفصام عن نتائج تتعلّق بارتباط منطقة بروكا ونظيرتها اليمنى في الهلوسة السمعيّة. في إحدى هذه الدراسات، على سبيل المثال، وجد أنّه في أدمغة المشاركين- وهم الأشخاص المصابون بالفصام والّذين يعانون من الهلوسات السمعيّة- تمرّ معلومات بشكل أقلّ بين منطقة بروكا ومناطق اللغة الأخرى، مقارنةً بمرضى الفصام الّذين لا يعانون من هلوسات سمعيّة والأشخاص السليمين. وفي دراسة أخرى أجريت على مجموعة مماثلة، لوحظ اتّصال منخفض بين مناطق الوظائف التنفيذيّة والمنطقة المقابلة لمنطقة بروكا في الفصّ الأيمن. مناطق الوظائف التنفيذيّة مسؤولة عن سلسلة من القدرات المعرفيّة، من بينها السيطرة على النفس والتنظيم العاطفيّ واتّخاذ القرار.


باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ fMRI، يستطيع الباحثون تتبّع الاختلافات في نشاط الدماغ بين الأشخاص السليمين والأشخاص المصابين بالفصام. باحث ينظر إلى نتائج اختبار الرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ | ويكيميديا National Institute of Mental Health

التفاف في الحبكة 

إحدى هذه المناطق في الدماغ تُسمَّى تلفيف القشرة الحزاميّة الأماميّة (Anterior Cingulate Cortex)، وهي منطقة تشارك في تنظيم الانتباه والعواطف، وتحديد المعلومات الّتي تأتي من داخلنا، مثل الأفكار، والتمييز بينها وبين المعلومات من مصدر خارجيّ، مثل أغنية في الراديو أو محاضرة مثلًا. في دراسات مختلفة وجد نشاط غير طبيعيّ في هذه المنطقة أثناء الهلوسة، والّذي من شأنه أن يشير إلى خطأ في التعرّف على مصدر التحفيز على أنّه خارجيٌّ وليس داخليًّا. 

لم يتمّ العثور على نشاط غير عادي في تلفيف القشرة الحزاميّة الأماميّة أثناء الهلوسة لدى الأشخاص المصابين بالفصام فحسب، بل أيضًا لدى الأشخاص السليمين الّذين اختبروا الهلوسات. دراسة نادرة استخدمت فحص PET (اختصار لـ "التصوير المقطعيّ بالإصدار البوزيترونيّ") لفحص نشاط الدماغ في حالات التنويم المغناطيسيّ المختلفة. في هذا الاختبار، من الممكن معرفة وتسجيل مقدار الطاقة الّتي تستهلكها مناطق مختلفة من الدماغ في الوقت الفعليّ. وذلك باستخدام نسخة من سكّر الجلوكوز الّذي ينبعث منه إشعاعات مشعّة. عانى بعض المشاركين في الدراسة من الهلوسات أثناء التنويم المغناطيسيّ. لوحظ لديهم نشاط كبير في القشرة الحزاميّة الأماميّة أثناء الهلوسة، ولم يلاحظ نشاط مماثل بين المشاركين في المجموعة الضابطة، والّذين لا يستطيعون الهلوسة أثناء التنويم المغناطيسيّ. وخلص الباحثون إلى أنّ القشرة الحزاميّة الأماميّة هي المسؤولة عن تصنيف المعلومات على أنّها آتية من الخارج، لكنّ هذا الاستنتاج يتناقض مع غياب النشاط في القشرة الحزاميّة الأماميّة أثناء الاستماع إلى الأصوات الخارجيّة الحقيقيّة. 

بالإضافة إلى الهلوسات، فإنّ القشرة الحزاميّة الأماميّة مرتبطة في بعض الأحيان بمتلازمة الألم المزمن- وهو الألم الّذي يستمرّ حتّى بعد الشفاء. من الممكن أن ترتبط هذه المنطقة باكتشاف الأخطاء بمختلف أنواعها، فيؤدّي الخلل فيها إلى إحساس مضلّل، سواءً كان متعلقًا بالسمع أو تحديدًا بالإحساس. 

إن كان الامر كذلك، فهل الهلوسات ناتجة إذًا عن فرط نشاط مناطق الدماغ الّتي تعالِج المعلومات الحسيّة؟ أو تحديدًا من الخلط بين المعلومات الخارجيّة والعمليّات الداخلية، مثل الأفكار أو التخيّلات؟ يبدو أنّ الإجابة تعتمد على نوع الهلوسة ومسبّباتها، وهي في كلّ الأحوال مرتبطة بخلل أحد الأجهزة التنظيميّة. بطريقة أو بأخرى، الهلوسات ليست شيئًا غريبًا جدًّا: ففي نهاية المطاف، نحن نخوض تجربة إدراكيّة مقنعة بنفس القدر في كلّ ليلة: في الأحلام.

0 تعليقات