على الرغم من أنّ نظريّة فرويد حول وجود ذكريات اللّاوعي لم تكن معتمدة على أدلّة علميّة، إلّا أنّ نتائج أبحاث الدماغ تشير إلى ظواهر يمكن تفسيرها بطريقة مماثلة
في نهاية القرن التاسع عشر، طرح أبو التحليل النفسيّ، سيغموند فرويد، فكرة بعيدة المدى، لا تزال مثيرة للجدل حتّى يومنا هذا. قال إنّه بجانب معرفتنا وأنماط تفكيرنا المرئيّة والصريحة، هناك طبقة مخفيّة أُطلق عليها اسم "اللّا-وعي" أو "العقل الباطن"، والّتي تشمل جميع المعلومات؛ الذكريات والخبرات الموجودة داخلنا وتوجّه بعض تصرّفاتنا دون أن ندرك ذلك. في ذلك الوقت لم تكن هناك أدوات بحثيّة يمكنها أن تدحض أو تؤكّد أفكاره علميًّا، وحتّى مع الأدوات الّتي بحوزتنا اليوم من الصعب تأكيد أو نفي وجود اللّا-وعي. لكن مع تطوّر العلم، زادت قدرتنا على الخوض في ادّعاءاته، وفحص ما إذا كان هناك فرق بين الأشياء الّتي نُدركها- أي، الموجودة في الوعي، وبين المعرفة الّتي لدينا ولكنّها غير متاحة لوعينا.
ادّعى فرويد أنّ البشر يحفظون في أذهانهم الأحداث والذكريات الّتي تمّ إنشاؤها في السنوات الأولى من التطوّر، وأنّنا غير قادرين على استرجاعها طوعًا أو تذكّرها. يتمّ تخزينها داخل اللّا-وعي. من وقتٍ لآخر ستظهر هذه المعرفة بشكل غير مباشر: في الأحلام، في ما ينطق الفم، وغيرها من الطرق. طريقة العلاج الّتي طوّرها، والّتي تُسمَّى التحليل النفسيّ، تعتمد إلى حدٍّ كبير على محاولة النظر إلى اللّا-وعي واستكشاف خفاياه. هل المعرفة الّتي نمتلكها اليوم تدعم فكرة اللّا-وعي؟
في فيلم «المسحورة» للمخرج ألفريد هيتشكوك، يصف البطل أحلامه للطبيب النفسيّ الّذي يعالجه، في محاولة لاختراق اللّا-وعي. | Edgardo Ariel Rodriguez, Shutterstock
نُبصر دون أن نُبصر
واحدة من الظواهر الّتي تكشف وجود فجوة بين المعرفة والوعي هي العمى البصريّ (Blindsight). وقد تبيّن أنّ المكفوفين أثبتوا في الدراسات القدرة على التعرّف على الأشياء المرئيّة والتمييز بينها دون أن يتمكّنوا فعليًّا من رؤيتها. على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، قاموا بإجلاس أشخاص مكفوفين أمام شاشة، حيث ظهرت نقطة ضوء في أماكن عشوائيّة لبضع ثوانٍ في كلّ مرّة. في كلّ مرحلة، طُلب من المشاركين تحريك أعينهم نحو المكان الّذي يعتقدون أنّ النقطة ظهرت فيه. كانت المفاجأة أنّ الأشخاص وجّهوا أعينهم نحو المكان الصحيح، رغم أنّهم لم يروا شيئًا وكان الأمر مجرّد تخمين.
كيف يُعقل أن يكون الأشخاص المكفوفون قادرين على متابعة نقطة الضوء؟ الجواب مُرتبط بسبب العمى. يجب استيفاء شرطين حتّى تحدث تجربة بصريّة. أحدهما هو نشاط العين السليم الّذي يسمح باستيعاب المعلومات، والآخر هو معالجة المعلومات البصريّة في القشرة البصريّة للدماغ، والّتي تقع في الجزء الخلفيّ من الدماغ. وبناءً عليه، هناك العمى الّذي ينتج عن تلف العين والعمى الّذي ينتج عن تلف القشرة البصريّة (العمى القشريّ). العمى البصريّ غير موجود لدى المكفوفين من النوع الأوّل، حيث أنّ أعينهم لا تدرك المعلومات البصريّة على الإطلاق. لكن في العمى القشريّ، هناك مدخلات من العين وتصل إلى الدماغ دون أن يشعر بها الشخص. لكي يحدث العمى البصريّ، يجب أن يتمّ استقبال المعلومات البصريّة عن طريق العيون، وإخضاعها لمعالجة معيّنة في الدماغ، لكن بدون العمليّات في القشرة البصريّة الّتي تنقلها إلى الوعي. مثل هذه المعالجة للّاوعي للمعلومات يمكن أن تفيد المراقب الأعمى، حيث يتّضح أنّ الأشخاص المصابين بالعمى القشريّ يمكنهم تجنّب التعثّر عن طريق الحذر من الأشياء الّتي في طريقهم.
ربّما يرتبط استيعاب اللّاوعي هذا بحقيقة أنّ المعلومات المرئيّة تتمّ معالجتها بمناطق أخرى غير القشرة البصريّة نفسها. يتمّ نقل جزء منها في آنٍ واحد إلى منطقة في الدماغ تُسمَّى اللوزة الدماغيّة Amygdala، والّتي ترتبط بالمعالجة العاطفيّة. في الواقع، حدّدت الدراسات التصويريّة لأنظمة الألياف في الدماغ (الّتي تمّ إجراؤها باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسيّ MRI من النوع DTI) مسارًا سريعًا للرؤية، حيث تنتقل المعلومات البصريّة الّتي قد تشير إلى الخطر- على سبيل المثال حقيقة وجود حيوان مفترس بالقرب من المكان- مباشرة إلى اللوزة الدماغيّة، دون الخضوع أوّلًا للمعالجة البصريّة الكاملة في القشرة الدماغيّة.
من المرجّح أنّ الحديث يدور حول نظام غريزيّ في دماغنا يهدف إلى تحسين سرعة ردّ الفعل في المواقف الخطرة وإثارة ردّ فعل فوريّ للخوف الّذي من شأنه أن يحفّز الشخص على اتّخاذ إجراءات قد تساهم في بقائه على قيد الحياة. من الممكن أن يسمح هذا المسار، بالإضافة إلى البقاء على قيد الحياة، للّوزة الدماغيّة بمعالجة المعلومات البصريّة الإضافيّة ذات الأهميّة العاطفيّة، مثل تعبيرات الوجه، وتحفيز الاستجابة السلوكيّة دون اتّخاذ قرار واعي.
هناك اختلافات ملحوظة في طبيعة رؤية اللّاوعي لدى مختلف المكفوفين، بحيث يتمكّن البعض من التعرّف على خصائص معيّنة للأشياء، مثل الوجوه والحركات، والبعض الآخر سوف يلاحظ خصائص أخرى، مثل الألوان والأشكال. مع ذلك فإنّ الرؤية العاطفيّة عبر مسار اللّوزة الدماغيّة لا تكمل الصورة بأكملها. القاسم المشترك بين المكفوفين جميعًا هو أنّهم لا يملكون تجربة سابقة في الرؤية، وهم على يقين من أنّ ما لديهم مجرّد تخمينات. أي أنّ لديهم معرفة معيّنةً بالأشياء، الوجوه أو الأجسام الموجودة تحت تصرّفهم، بحيث يتصرفون وفق هذه المعرفة دون وعيٍّ بذلك أو إدراك. لذلك فإنّ هذه الظاهرة تعبّر حقًّا عن فجوة كبيرة بين ما يعرفه الناس وما يدركونه.
في حالة العمى البصريّ، تنتقل المعلومات مباشرةً إلى اللّوزة الدماغيّة دون المرور أوّلًا بالمعالجة البصريّة الكاملة في القشرة الدماغيّة. مسار المعلومات من العين إلى القشرة البصريّة في الدماغ | مصدر: Jacopin / Bsip / Science Photo Library
المعرفة، الإدراك والوعي
على الرغم من أنّ العمى البصريّ يعرض بالفعل الفجوة بين المعرفة والوعي، فإنّهُ من المحتمل أنّ هذا ليس ما قصده فرويد عندما تحدّث عن اللّا-وعي. كان الشيء الأساسيّ في اللّاوعي الّذي تحدّث عنه هو الذكريات القديمة والمشحونة الّتي لا نستطيع استرجاعها بشكلٍ مباشر، لكنّها تؤثّر على مشاعرنا وسلوكنا. حيث يدور الحديث حول العمليّات الخفيّة الّتي تحفّزنا على التصرّف والّتي لا يمكننا الإشارة إليها فعليًا.
يتمّ تجميع المعرفة بواسطة تخزين الذاكرة، والّتي تنقسم إلى نوعين. أحدهما الذاكرة الصريحة، وتعني كلّ ما يمكن التعبير عنه بالكلمات؛ والأخرى هي الذاكرة الضمنيّة، والّتي تجسّد المهارات الّتي اكتسبناها- على سبيل المثال، معرفة القراءة والكتابة أو القدرة على القيادة.
يتمّ تخزين المعلومات الصريحة في الدماغ بواسطة روابط جديدة تتشكّل بين الخلايا العصبيّة في منطقة قرن آمون Hippocampus، وهي منطقة في الدماغ مسؤولة عن معالجة الذكريات الجديدة وتخزينها. بالمقابل، تعتمد الذاكرة الضمنيّة على مناطق الدماغ المرتبطة بالمهارة المحدّدة الّتي تمّ تعلّمها. على سبيل المثال، سينعكس التحسّن في مهارة السمع الموسيقيّة على تقوية الروابط بين الخلايا الموجودة في القشرة السمعيّة، المسؤولة عن المعالجة السمعيّة.
يعمل النوعان من الذاكرة جنبًا إلى جنب. على سبيل المثال، بعد درس البيانو سنتذكّر أنّنا كنّا في الدرس وتعلّمنا العزف، وسنعرف ما شعرنا به وماذا قال المعلّم، هذه هي الذاكرة الصريحة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ أصابعنا تنمّي المهارة دون أن نعرف كيف نفسّرها، هذه هي الذاكرة الضمنيّة.
بعد درس البيانو سنتذكّر أنّنا تعلّمنا العزف، وسنعرف ما شعرنا به وما قالته المعلّمة، هذه هي الذاكرة الصريحة. تنمّي الأصابع المهارة دون أن نتمكّن من تفسيرها، هذه هي الذاكرة الضمنيّة. أيادٍ تعزف على البيانو | Diego Cervo, Shutterstock
عازف بيانو دون علمه
يتمّ تخزين الذكريات في دماغنا على شكل أنظمة اتّصالات (مشابك أو روابط) بين الخلايا العصبيّة، وهي متاحة لنا لاسترجاعها عند الحاجة. لكنّ الروابط بين الخلايا العصبيّة قد تضعف أحيانًا وتؤدّي إلى النسيان.
كشفت بعض حالات فقدان الذاكرة، عن ظواهر توضّح الفجوات بين الوعي والمعرفة. النوعان الأكثر شيوعًا لفقدان الذاكرة هما عدم القدرة على تكوين ذكريات جديدة (فقدان الذاكرة التقدّميّ)، أو نسيان الأحداث الماضية (فقدان الذاكرة الرجعيّ). ويعتمد مدى وطبيعة النسيان، ضمن أمور أخرى، على مدى الضرر الّذي يلحق بقرن آمون Hippocampus.
كان الموسيقار البريطانيّ كلايف ويرينج (Wearing) سيّئ الحظّ، وكان يعاني من هذين النوعين لفقدان الذاكرة في نفس الوقت. لا يتذكّر أيّ شيء ممّا كان عليه قبل الإصابة، كما أنّه غير قادر على خلق ذكريات جديدة. أي إنّه لا يتذكّر أيّ شيء.
حدثت هذه الإصابة الخطيرة بعد تعرّض ويرينج لنوع نادر من فيروس الهربس الّذي سبّب له التهابًا دماغيًّا شديدًا أدّى إلى أضرار جسيمة في قرن آمون لديه. وعلى الرغم من محو ذاكرته بالكامل، إلّا أنّه استمرّ في العزف على البيانو بمهارة كبيرة، دون أن يعلم أنّه تعلّم العزف عليه أو مارسه بشكل احترافيّ. وهذه القدرة كما ذكرنا تعتمد على ذاكرة ضمنيّة ليست ضمن إطار عمل قرن آمون Hippocampus. أدّى الضرر الّذي لحق بقرن آمون إلى محو ذاكرته الصريحة، بما في ذلك إدراكه أنّه اكتسب مهارة العزف على آلة موسيقيّة.
لم تبقَ ذاكرة ويرينج الضمنيّة سليمة فحسب، على الرغم من أنّه لم يكن يعرف حتّى أسماء أبنائه. في كلّ مرّة دخلت زوجته ديبرا الغرفة كانت ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة دون أن يعرف السبب. ظلّت هي الشخص الوحيد الّذي تعرّف عليه بوضوح. لم يتذكّر من هي، أو أنّه تزوّجها، ولكنّ شيئًا ما في ذهنه يتذكّر العاطفة الّتي أثارتها فيه واستجاب لها.
من الممكن موازنة فرحة ويرينج عند رؤية زوجته بسلوك ناشئ عن ذكريات اللّاوعي، كما ادّعى فرويد. على الرغم من الاختلاف في نوع المعلومات وطريقة معالجتها في ظاهرة العمى البصريّ مقابل فقدان الذاكرة، فإنّ فرحة ويرينج قد تنبع أيضًا من نشاط اللّوزة الدماغيّة، الّتي تحفظ المعلومات والذكريات العاطفيّة. ومع ذلك، لم يتمّ اختبار هذه الفرضيّة باستخدام فحوصات الدماغ ولم يتمّ اختبارها علميًّا.
الشيء الواضح هو أنّ معالجة العاطفة في اللّوزة الدماغيّة تؤثر في الطريقة الّتي يتمّ بها تشفير الذكريات في قرن آمون وتضيف طبقة عاطفيّة لبعض ذكرياتنا. مع ذلك، فإنّ هذَين نظامان مختلفان للذاكرة، لذلك حتّى بعد حدوث ضرر شديد في قرن آمون، قد يتمّ الحفاظ على الذاكرة العاطفيّة. ربّما تكون قد مررت بتجربة كهذه بنفسك- هل حدث أن التقيت بشخصٍ ما بالصدفة ولم تتذكّر اسمه أو هويّته أو الظروف الّتي التقيتما بها، ومع ذلك شعرت بالتأكيد أنّكما تعرفان بعضكما البعض؟
عازف البيانو الموهوب الّذي لم يعرف أنّه كذلك– فيديو (باللغة الانجليزية):
معرفة لا واعية؟
هل تؤكّد هذه الظواهر فعلًا أنّ هناك فرقًا بين المعرفة والوعي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هناك آليّة خاصّة للحفاظ على المعرفة الّتي "اللّاواعية"؟ هذا يعتمد بالفعل إلى حدٍّ كبير على وجهة النظر، لأنّه ليس من السهل فحص الأفكار المجرّدة، مثل اللّاوعي الفرويديّ، باستخدام الأدوات الفسيولوجيّة لعلم الأعصاب. كانت استبصارات فرويد بعيدة المدى فلسفيّة وشعريّة في جوهرها، ولم تعتمد على الأدوات العلميّة والنتائج التجريبيّة. لكنّ أفكاره أثّرت بشكلٍ كبير في فهمنا للنفس البشريّة وسلوكنا.
إنّ مجال البحث الّذي يعمل على إخضاع نظريّات فرويد وخلفائه للفحص العلميّ يُسمَّى التحليل النفسيّ العصبيneuropsychoanalysis ّ. يستخدم الباحثون في هذا المجال أدوات بحث متنوّعة، مثل أجهزة تصوير الدماغ، لتكييف نظريّات التحليل النفسيّ للعقل مع المعرفة العلميّة الموجودة. بدأ فرويد نفسه حياته المهنيّة كعالم أعصاب، لكنّه تحوّل إلى الطبّ النفسيّ لأنّه شعر، حسب قوله، أنّ المعرفة المحدودة للغاية الّتي كانت لدى الأطبّاء في ذلك الوقت لم تسمح بفكّ رموز العمليّات العقليّة المعقّدة. لكن اليوم نضج المجال وتطوّر، وأصبحت أفكار فرويد قيد الاختبار- لأنّه من المستحيل فصل علم النفس عن الدماغ- البنية التحتيّة البيولوجيّة للروح.