آن الأوان، بعد أن احتلّت الموادّ البلاستيكيّة المكانة الرئيسة في حياتنا، أن نتساءل: ما هي المادّة القادمة الّتي يمكن أن تُغيّر العالم؟ هل هي الفلزّات الإسفنجيّة أم ماكينات النّانو أم خيوط العنكبوت الصناعيّة؟

يتوافق اكتشاف وتطوير الموادّ عبر التّاريخ مع تقدّم البشريّة. تشير أسماء العصور الّتي اكتسبتها المجتمعات الإنسانيّة الّتي مرّت بها خلال تطوّرها، إلى التّأثير الكبير للموادّ الجديدة والتّكنولوجيا الّتي رافقتها في تاريخ البشريّة. تبعَ العصرُ الحديديّ والعصرُ البرونزيّ العصرَ الحجريَّ، وأتاحت الموادّ فيها تطوير واستخدام أدوات جديدة عملت على تصميم صورة المجتمع. من هنا، فإنّ الدّافع نحو إيجاد موادّ تصمّم المستقبل وتنبّؤ صفاتها دافعٌ حثيث.

شكّلت الموادّ البلاستيكيّة والبوليمرات الصناعيّة، وهي رائجة الاستخدام في بيوتنا حتّى اليوم، موادّ المستقبل حتّى منتصف القرن العشرين. يبدو هذا غريبًا، إلّا أنّ الموادّ البلاستيكيّة اكتسحت العالم وتركت بصماتها في الصّناعة والاقتصاد والحياة اليوميّة، وذلك بعد تطوير ألياف النّايلون بوقت قصير. يصعب تخيّل الواقع الذي نعيشه بغياب الأدوات والحاويات والأقمشة والمنتجات الأخرى الّتي تعتمد على البلاستيك. 

يكتنف هذا الواقع، للأسف، وجهٌ مظلم يتمثّل في النّفايات البلاستيكيّة الّتي تعمّ البحار واليابسة. 

ما هي الموادّ الّتي ستصمّم المستقبل إذًا؟ تتعلّق الإجابة بمن يُوجَّه إليه هذا السّؤال. يمكن، مع ذلك، وصف خطوط عريضة لصفات هذه الموادّ. لا بدّ من أن تكون موصلة للتّيّار الكهربائيّ وعازلة للحرارة وذات مقاومة عالية لتقلّبات الطّقس. تثير الخصائص الدّاخليّة الأخرى، مثل القدرة على التّحكّم بالضّوء، الفضولَ وحبّ الاستطلاع، ويمكن أن توفّر الميزات الرّوتينيّة نسبيًّا تطويرًا مبتكرًا للموادّ القديمة لتكون النّتيجة خشبًا شفّافًا وألياف النّسيج الموصلة للتّيّار الكهربائيّ والفلزّات الخفيفة، جنبًا إلى جنب مع موادّ خام حديثة أخرى. 

ويتأثّر تطوير الموادّ الجديدة بالموضات التّكنولوجيّة والدّراسات "السّاخنة" في مجالات أخرى. تُجرى، مثلًا، الكثير من الدّراسات حول الموادّ الّتي تتيح وسطًا بينيًّا مباشرًا بين جسم الإنسان وبين الماكنة، والموادّ الذّكيّة الّتي تتأقلم مع تقلّبات البيئة المحيطة، وحول استراتيجيّات لاكتشاف موادّ جديدة بالاستعانة بالذّكاء الاصطناعيّ. تُملي أزمة المناخ تطوير موادّ ذات توقيع مناخيّ منخفض، وتحافظ على متانتها لفترة طويلة، أو تكون قابلة للتّحلّل الكامل في الطّبيعة، ومصنوعة من موادّ أوّليّة متاحة ومتوفّرة.

يكاد يكون من المستحيل الإجابة إجابة مُرضية عن السّؤال: ما هي موادّ المستقبل؟ يمكن، مع ذلك، الحصول على انطباع عن الإمكانيّات اللّانهائيّة الكامنة في موادّ الغد من خلال استعراض التّطوّرات والتّحديثات الرّائعة في هذا المجال. 

דוגמה לחוט מוליך חשמל שניתן לתפור לתוך בגדים | Anna-Lena Lundqvist/Chalmers University of Technology
يبقى الطّلب على الموادّ الموصلة للتّيّار الكهربائيّ، مثلًا، عاليًا. مثال على خيط موصل للتّيّار الكهربائيّ يمكن تخييطه في الملابس.| Anna-Lena Lundqvist/Chalmers University of Technology

 

الموادّ المساميّة

إحدى طرق تطوير مادّة متينة وخفيفة ملؤُها بالهواء. هذه هي الفكرة الّتي تقف وراء الموادّ المساميّة (Porosity materials) المبنيّة من شبكة مهوّأة ثلاثيّة الأبعاد متّخذةً هيكلًا شبيهًا بالإسفنج. يكون وزن هذه الموادّ خفيفًا جدًّا لأنّ الهواء يملأ غالبيّة حجمها. تتيح الشّبكة المعقّدة للمادّة، رغم كونها مليئة بالخروق، تحمّل ضغوط عالية جدًّا نسبةً لوزنها.

تتيح المسامات مرور الغازات والسّوائل، وهذه ميزة إضافيّة لهذه الموادّ الّتي تثير اهتمامًا كبيرًا لاستخدامها ركيزة امتزاز أو في تحفيز التّفاعلات الكيميائيّة، لأنّ مساحتها السّطحية كبيرة جدًّا نسبةً لحجمها. تمتاز الموادّ المساميّة، أيضًا، بالعزل الحراريّ الفائق إذ تمنع المسامات الكثيرة المليئة بالهواء انتقال الحرارة.

הדגמה של בידוד החום של אירוג'ל | Peter Menzel, Science Photo Library
تمتاز الموادّ المساميّة، بالإضافة إلى الخصائص الأخرى، بالعزل الحراريّ الممتاز. عرض العزل الحراريّ للأيروجيل. | Peter Menzel, Science Photo Library

الأيروجيل والفلزّات الإسفنجيّة مثالان بارزان لمثل هذه الموادّ. يُنتَج الأيروجيل في عمليّة تجفيف الجيل بأسلوب خاصّ، ويُعتبر المادّة الصّلبة ذات الكثافة الأقلّ من بين سائر الموادّ على الإطلاق، إذ يشكّل الهواء أكثر من 99.9 بالمائة من حجمه. تتمتّع هذه الموادّ بعزل حراريّ ممتاز، وتتحمّل ضغوطًا عالية. طُرحت فكرة إمكانيّة استخدام هذه الموادّ في امتزاز الغبار الفضائيّ، كجزء من الطّبقة الخارجيّة للمركّبات الفضائيّة المأهولة مثلًا، وذلك بفضل ميزاتها المذكورة، وقدرتها على امتزاز كمّيّات كبيرة من المادّة. 

يمكن إنتاج الفلزّات الإسفنجيّة بطرق متعددة، إلّا أنّ المنتج النّهائيّ متشابه فيها جميعًا: مادّة وزنها يعادل ما بين 5 و 25 بالمائة من وزن فلزّ عاديّ له نفس الحجم. تتحمّل الفلزّات المساميّة الضّغوط العالية رغم وزنها المنخفض، بفضل مبناها الشّبيه إلى حدٍّ ما بمبنى العظام في أجسامنا، وتتيحُ المساماتُ المجالَ للهواء والسّوائل للمرور من خلالها. يمكن استخدام هذه الموادّ، من ضمن استخدامات أخرى، عظامًا صناعيّة لزراعتها في جسم الإنسان وممتصّات للصّدمات خفيفة الوزن في صناعة السّيّارات والطّيران، وركيزة تحفيز التّفاعلات الكيميائيّة بفضل مساحتها السّطحيّة الهائلة.

דוגמה של אלומיניום ספוגי | Wikipedia, Stehfun
تتحمّل الفلزّات المساميّة الضّغوط العالية رغم وزنها المنخفض. عيّنة من الألومنيوم الإسفنجيّ. | Wikipedia, Stehfun
 

الموادّ البيولوجيّة

القاسم المشترك بين الموادّ البيولوجيّة الّتي تشمل العديد من العائلات المختلفة هو صلتها بالعالم البيولوجيّ. تشمل هذه المجموعة موادّ طُوِّرت بإيحاء من مادّة بيولوجيّة معيّنة، أو باستخدام موادّ خام من مصدر بيولوجيّ، أو أنَّ لها استخدامات بيولوجيّة. 

تجري محاولة دمج صفات خاصّة ملفتة للانتباه من عالم الأحياء أو النّبات، مثل مقاومة البكتيريا أو القدرة على الالتئام، في موادّ اصطناعيّة. يمكن، على سبيل المثال، دمج كريات صغيرة تحوي موادّ رابطة في عمليّات إنتاج الباطون والأسفلت وحاويات الوقود من أجل تمكين التئام الشّقوق والتّصدّعات الّتي قد تتكوّن فيها، تمامًا كما يحصل في المنظومات البيولوجيّة. تُطلق هذه الكريات موادّ الالتئام من داخلها حال حدوث التّلف لتبدأ عمليّة إصلاحه. 

تُستغلّ الخصائص الكامنة في مادّة بيولوجيّة ما، أحيانًا، في إنتاج موادّ صناعيّة متنوّعة ذات صفات مميّزة. يجري الحديث في بعض الحالات عن تطوير عمليّة صناعيّة لإنتاج مادّة من مصدر بيولوجيّ لها صفات مرغوبة، مثل محاكاة متانة ومرونة خيوط الحرير ونسيج العنكبوت. ويتمّ في حالات أخرى إخضاع مادّة بيولوجيّة رائجة الاستخدام لعمليّة كيميائيّة تُكسبها خصائص تتيح استخدامها في قنوات جديدة. يمكن بهذه الطّريقة، مثلًا، إزالة اللجنين -المادّة البوليمريّة الموجودة في خلايا خشب الشّجر الّتي تحجب جزءًا كبيرًا من الضّوء- من الأنسجة الخشبيّة وإضافة مادّة عضويّة بديلة. تتيح هذه العمليّة إنتاج خشب شفّاف وصنع شبابيك خشبيّة بدلًا من الزّجاج. 

هناك دافع كبير لاستبدال الموادّ البلاستيكيّة بموادّ خضراء قابلة للتّفتّت والنّفاد. تُبذل جهود جبّارة في سبيل إنتاج موادّ بلاستيكيّة ذات طابع بيولوجيّ حقيقيّ (بيو - بلاستيك) تتحلّل بشكل كامل خلال فترة قصيرة، وتُنتَج في عمليّة ذات بصمة بيئيّة منخفضة. ويُلاحظ في الآونة الأخيرة دخول المزيد من موادّ التّغليف وبدائل البلاستيك الّتي تستحضر من بقايا الخشب والطّحالب حتّى من بقايا الطّعام إلى السّوق. 

סיב משי שיוצר בשיטה ביו-סינתטית | Christopher Bowen
تمكّن علماء الأبحاث من محاكاة متانة ومرونة خيوط الحرير ونسيج العنكبوت. ليف من الحرير تمّ إنتاجه بطريقة صناعيّة بيولوجيّة. | Christopher Bowen

 

الموادّ النّانويّة

يتعامل عالم الموادّ النّانويّة مع موادّ صغيرة جدًّا لا تزيد مقاساتها عن بضع أجزاء من المليار من المتر. يُرجى أن يكون لهذه الموادّ، رغم صغر مقاساتها، أو بالأحرى بفضله، تأثيرٌ هائل في المستقبل القريب. يقتضي السّباق نحو الحواسيب القويّة والكاميرات الغنيّة بالميجا بيكسيلات والشّاشات ذات الدّقّة ودرجة الوضوح العالية، المزيدَ من التّصغير في التّجهيزات التّكنولوجيّة، إذ يستدعي تصنيع التّجهيزات المصغّرة استخدام موادّ متناهية الصّغر. 

في المستقبل، ستُدمجُ الأجهزة المصغّرة في الجسم والملابس وفي أشياء أخرى بسهولة، لكي تُستخدم في متابعة الحالة الصّحّيّة أو في التّأقلم للتّغيّرات في البيئة المحيطة. سيكون بإمكان القميص الّذي ترتديه التّأقلم مع حالة الطّقس بحيث يعمل على تدفئة الجسم في الطّقس البارد، والتهوية عند ارتفاع درجات الحرارة، وتستطيع الأجهزة المغروسة داخل الجلد الإبلاغ عن حالة صحّيّة طارئة حال وقوعها.

אילוסטרציה לשימוש עתידי לננו-חומרים: שילוב בעצם שנפגעה כדי לעזור בשיקומה | Alfred Pasieka, Science Photo Library
سيصبح من السّهل دمج الأجهزة المصغّرة في أجسامنا. رسم توضيحيّ يصف استخدام الموادّ النّانويّة في المستقبل: دمج الموادّ في العظام المصابة من أجل الإسهام في استعادة سلامتها. | Alfred Pasieka, Science Photo Library
 

يتجلّى الطّابع الغريب لفيزياء الكمّ في خواصّ قسمٍ من الموادّ متناهية الصّغر، تلك المسمّاة بالموادّ الكوانتيّة (نسبةً إلى الكموميّة أو الكوانتم) وهذا شيء مذهلٌ بحدّ ذاته. مَثَلُ ذلك أن تُحدِّد مقاييسُ الجسيم ماذا سيكون لونه، وأن يُتاح التّوصيل الكهربائيّ عديم المقاومة (توصيل فائق)، كما وتنصبّ الآمال نحو تطوير موادّ يمكنها نقل المعلومات والحوسبة الكوانتيّة. 

يمكن أن تستخدم الموادّ الّتي مقاييسها أصغر من طول موجة الضّوء المرئيّ - من 400 حتّى 800 نانومتر - في التّحكّم بالضّوء ذاته. يمكن تنظيم هياكل نانومتريّة في قوالب دوريّة لبناء موادّ بصريّة فوقيّة ذات مقاييس صغيرة تحلّ محلّ العدسات البصريّة الكبيرة الخرقاء المعروفة لنا من البصريّات المسطّحة. يتمّ هندسة هذه الموادّ الفوقيّة، أي الموادّ غير الموجودة طبيعيًّا بهذا التّرتيب الخاصّ، من اللبنات الأساس، لغاية خاصّة. تفتح هذه الموادّ إمكانيّاتٍ خياليّة قد تصل إلى استحضار موادّ قادرة على القيام بالحسابات الرّياضيّة أو الاختفاء وإخفاء الأشياء، تمامًا كعباءة هاري بوتر. 

נקודות קוואנטום (quantum, dots) של גרפן, מחזירות אור בצבעים שונים | National Energy Technology Laboratory, US Department of Energy, Science Photo Library
يمكن أن تُحدّد مقاسات المادّة لونها أحيانًا. تعكس نقاط كوانتم (quantum, dots) الجرافين ضوءًا بألوان مختلفة | National Energy Technology Laboratory, US Department of Energy,Science Photo Library 
 

البيروفسكايت

أخيرًا، لا يمكننا الحديث عن موادّ المستقبل دون التّطرّق إلى عائلة الموادّ الّتي تُحْدِث مؤخّرًا انقلابًا حقيقيًّا في عالم الطّاقة الشّمسيّة، ومن المتوقّع أن نشعر بأثرها في المستقبل القريب في أجهزة الإضاءة الحديثة والكاشفات والشّاشات المتطوّرة. تُسمّى هذه الموادّ البيروفسكايت وهي موادّ رخيصة سهلة الاستحضار إلى حدّ كبير، لها خاصّيّة مذهلة في تحويل الضّوء إلى كهرباء. يؤدّي ترتيب الذّرّات الخاصّ والمميّز لهذه الموادّ إلى سلوكٍ مغاير لسلوك الموادّ التّقليديّة العاديّة. يمكن لهذه الموادّ، بالإضافة لخواصّها الكهروضوئيّة غير العاديّة، أن تلتحم مع بعضها، وهي موادّ ما بين اللّيّنة والقاسية. 

מדען מחזיק פאנל סולרי עשוי מפרובסקיט | Dennis Schroeder, NREL, US Department of Energy, Science Photo Library
أحدث البيروفسكايت انقلابًا حقيقيًّا في عالم الطّاقة الشّمسيّة في السّنوات الأخيرة. يمسك هذا العالِم لوحةً شمسيّةً مصنوعة من البيروفسكايت | Dennis Schroeder, NREL, US Department of Energy, Science Photo Library
 

الموادّ الّتي ورد ذكرها آنفًا هي غيض من فيض. وسوف تنضمّ موادّ كثيرة أخرى وتدخل حياتنا في المستقبل، منها ما لم يتمّ تطويره أو اكتشافه بعد، ومنها ما هو قائم وفي انتظار الاستخدام المناسب. يتحتّم علينا ألّا ننسى الموادّ القديمة الجيّدة مثل السّيليكون الّتي يستمرّ تأثيرها في حياتنا لفترة طويلة. تثير الموادّ الجديدة الخيال وترسم نظرة إلى المستقبل تتخلّلها مجالات لا نهائيّة من الاستخدامات لا يقيّدها غير مدى الإبداع والإتقان والجرأة الّتي نتحلّى بها. 

0 تعليقات