ما المشترك بين معادن معيّنة، التيّارات الكهربائيّة والكرة الأرضيّة بأكملها؟ ما هي المغناطيسيّة؟ وكيف يمكن استخدامها؟
نستخدمها في أجهزة الملاحة (GPS)، نلصق بواسطتها الصور والملاحظات على باب الثلّاجة، ونحفظ بواسطتها بياناتنا الرقميّة على الأقراص الصلبة في الكمبيوتر.من الصعب حقًّا أن نتخيّل كيف كان سيبدو عالمنا دون المغانِط- الّتي غالبًا ما نستخدمها دون أن نلاحظ وجودها أصلًا. وهكذا وعلى الرغم من أنّها واحدة من أهمّ الظواهر في الطبيعة، فإنّنا نادرًا ما نقف لنتأمّل ونتساءل ما هي المغناطيسيّة؟ وكيف تعمل؟
تمّ اشتقاق التعبير "مغناطيس"، كما يبدو، من اسم المدينة اليونانيّة القديمة "ماغنيسيا". في هذه المدينة، تمّ العثور في القرن الخامس قبل الميلاد تقريبًا، على خامات غنيّة بمادّة عجيبة السلوك وقد سُمّيت "المغنطيط". ومن المرجّح أنّه خلال عمليّات تعدين المعادن في تلك المنطقة، لاحظ اليونانيّون القدماء ميزة خاصّة للمعاول الّتي كانوا يستخدمونها- فهي كانت تجذب الحديد وغيره من المعادن. كانت تلك هي المغانِط الأولى الّتي تمّ توثيقها.
استمرّ الاهتمام بالمغانِط عبر الحُقبات التاريخيّة، حيث تعلّم البشر تدريجيًّا كيفيّة تسخيرها لتلبية احتياجاتهم. حتّى أنّه بحلول القرن الثاني قبل الميلاد، ظهرت في الصين أدوات تشبه البوصلة في وظيفتها. وفي عام 1600، نشر العالم البريطانيّ ويليام جيلبرت، والّذي يعتبره البعض الأب الروحيّ لعلم الكهرباء، كتابَه "المغناطيس، الأجسام المغناطيسيّة، ومغناطيسيّة الأرض الكبيرة( باللاتينية: دي ماجنت، De Magnete, Magneticisque Corporibus, et de Magno Magnete Tellure)، والّذي استنتج من خلاله أنّ الكرة الأرضيّة بذاتها هي جسم مغناطيسيّ.
ومع ذلك، لم يبدأ العلماء في حلّ لغز المغناطيسيّة وفهم المبادئ الّتي تقف وراء الظواهر المغناطيسيّة إلّا في القرن التاسع عشر. وكان الفضل بذلك للفيزيائيّ والكيميائيّ الدنماركيّ هانس كريستيان أورستد (Ørsted)، والّذي اكتشف أنّ إبرة البوصلة تتحرّك عندما تقترب من تيّار كهربائيّ.
جسم يولّد مجالًا مغناطيسيًّا. مغناطيس ذو قطبيين يجذب إليه مسحوقًا معدنيًّا | Tek Image, Science Photo Library
تجاذب و تنافر
يمكننا، ببساطة، تعريف المغناطيس بأنّه جسم يولّد حقلًا مغناطيسيًّا، يمكن من خلاله أن ينفر أو يجذب أجسامًا أخرى. إذاً، ما هو المغناطيس بالضبط؟ وما هي العلاقة بين المعادن المغناطيسيّة، الكرة الأرضيّة والتيّار الكهربائيّ؟ المغناطيس هو كلّ جسم يولّد حقلًا مغناطيسيًّا أو يتفاعل مع حقل من هذا النوع. تمامًا كما تجذب الأجسام ذات الكتلة بعضها البعض عبر قوّة الجاذبيّة، أو كما تقوم الأجسام ذات الشحنة الكهربائية بجذب أو نفر بعضها البعض بفعل القوّة الكهربائيّة، فإنّ المغانِط تجذب أو تنفر بعضها البعض عبر القوّة المغناطيسيّة.
ومع ذلك، هناك فرق أساسيّ- بخلاف الجاذبيّة والكهرباء، حيث تعتمدان على الكتلة والشحنة بالترتيب، ليس هنالك ما يُسمَّى "شحنة مغناطيسيّة". تظهر قوانين الفيزياء أنّ آليّة عمل القوّة المغناطيسيّة أكثر تعقيدًا. فالمغناطيس له جانبان يُسمّيان القطب الشماليّ والقطب الجنوبيّ، وهما يعملان بحيث يجذب القطبان المعاكسان بعضهما البعض بينما ينفر القطبان المتطابقان بعضهما البعض. هذه الظاهرة تذكّرنا بالجذب بين الشحنة الكهربائيّة الموجبة ةالسالبة، والتنافر بين الشحنات الكهربائيّة من نفس النوع، لكن على النقيض منها، من المستحيل أن يكون المغناطيس ذا قطب واحد فقط.
تُسمَّى الخاصّيّة المغناطيسيّة الموازية للشحنة العزم المغناطيسيّ. يمكن اعتباره شبه مغناطيس صغير بقطبين يتّجه باتّجاه معيّن. وبالرغم من كون القوّة المغناطيسيّة مرتبطة بشكل وثيق بالقوّة الكهربائيّة، إلّا أنّها مستقلّة عنها وخصائصها مختلفة. وكان تفسيرالعلاقة بين هذه القوى والاختلافات بينها قد اتّخذ حيّزًا مهمًّا في أبحاث ألبرت أينشتاين في نظريّة النسبيّة الخاصّة.
يمكننا صناعة المغناطيس بغاية السهولة بواسطة دائرة كهربائيّة. ألكترومغناطيس داخل ميكروويف | Sheila Terry, Science Photo Library
المادّة مقابل التيّار
بشكل عامّ يمكننا تقسيم المغانِط إلى نوعين أساسيّين. الأوّل هو النوع الّذي تعرفه البشريّة منذ آلاف السنين، وهو عبارة عن المغانِط الطبيعيّة المكوّنة من موادّ مغناطيسيّة كالحديد. أمّا النوع الثاني فهو الكهرومغانِط، وهي مغانِط تنتج بفعل التيّارات الكهربائيّة، كما بيّنها العالم أورستد لأوّل مرّة.
على الرغم من قِدم المغانِط الطبيعيّة، فلم يتمّ فهم كيفيّة عملها حقًّا إلّا في القرن العشرين، بفضل الاكتشافات الخارقة في ميكانيكا الكمّ. كما نعرف، تتكوّن كلّ مادّة من ذرّات، مركّبة من نوى البروتونات والنيوترونات تدور حولها الإلكترونات. يحمل كل إلكترون عزمًا مغناطيسيًّا صغيرًا نسمّيه "اللّف المغزليّ"، وهو يتّجه باتّجاه محدّد في الفضاء. يتّجه اللّف المغزليّ في معظم الموادّ لجميع الاتّجاهات بشكل عشوائيّ وغير منظّم، ما يعني أنّه في المُجمل لا يوجد اتّجاه مُفضَّل فتلغي الشحنات المغناطيسيّة بعضها البعض. ولكن هناك موادّ، مثل الحديد، حيث تفضّل الإلكترونات فيها الانتظام في نفس الاتّجاه جاعلة المادّة تتصرّف كالمغناطيس. سبب تصرّف الحديد كمادّة مغناطيسيّة مقارنة بالموادّ الأخرى يعود إلى الطريقة الّتي تنتظم فيها الذرّات في المادّة. ولن نُسهب في ذلك في هذا المقال.
من المتعارف عليه التمييز بين عدّة أنواع من الموادّ المغناطيسيّة وفقًا لخصائص الموادّ الّتي تتركّب منها على المستوى الذرّيّ. فهنالك الموادّ الفيرومغناطيسيّة (Ferromagnets)، مثل الحديد، وهي تلك الّتي تستطيع الحفاظ على خواصّها المغناطيسيّة طوال الوقت. هذه هي الموادّ التي تُصنَع منها المغانِط الّتي نستخدمها في حياتنا اليوميّة، كتلك الّتي نلصقها على باب الثلّاجة. في المقابل، هنالك الموادّ البارامغناطيسيّة (Paramagnets)، مثل باب الثلّاجة، أي إنّها موادّ غير مغناطيسيّة بحدّ ذاتها، ولكنّها تصبح كذلك بوجود مغناطيس آخربالقرب منها.
النوع الثالث هو الموادّ الديامغناطيسيّة (Diamagnets)، وهي غير مغناطيسيّة بحدّ ذاتها، ولكنّها تنفر الحقول والتأثيرات المغناطيسيّة المحيطة بها. فضلًا عن ذلك، بتنا نعرف اليوم وجود موادّ مغناطيسيّة أخرى تتميّز بخصائص غريبة وفريدة، والّتي تثيراهتمام الباحثين من ناحية علميّة وأملًا في إيجاد استخدامات تكنولوجيّة محتملة لها.
أمّا بالنسبة للكهرومغناطيسيّة، فهي قضيّة أخرى. حيث اكتشف الفيزيائيّون في القرن التاسع عشر أنّ التيّار الكهربائيّ يمكنه توليد حقل مغناطيسيّ، والعكس صحيح. تُسمَّى هذه الظواهر قانون أمبير وقانون فاراداي، باسم الفيزيائيَّين أندريه- ماري أمبير ومايكل فاراداي، اللّذَين اكتشفا وبحثا في هذه الظواهر. وفقًا لهذه القوانين، عندما يتغيّر الحقل المغناطيسيّ مع الزمن، يتمّ إنشاء حقل كهربائيّ، والعكس صحيح. ووفقًا للمصطلحات الّتي أوردناها مُسبقًا، يمكننا القول بأنّ للدائرة الكهربائيّة عزمًا مغناطيسيًّا، يعتمد حجمه على قوّة التيّار في الدائرة، ويعتمد اتّجاهه على شكل الدائرة واتّجاه التيّار.
يمكننا إنتاج المغناطيس بسهولة من كلّ تيّار كهربائيّ استنادًا إلى هذه الظواهر. هذه المبادئ تقف وراء الكثير من التكنولوجيّات الحيويّة كالمحوّلات والمولّدات الكهربائية.
والمدهش أكثر، أنّ كوكب الأرض بحدّ ذاته يعمل ككهرومغناطيس، يتولّد مجاله المغناطيسيّ من تيّارات المعادن السائلة المشحونة في نواته. الكهرومغانِط هي أدوات شائعة جدًّا وكثيرة الاستخدام، فمن الطرق الشائعة اليوم لمغنطة قطعة من الحديد هي استخدام كهرومغناطيس قويّ للغاية. انتبِهوا إلى أنّه باستثناء الطريقة الّتي تُنتَج بها المغانِط، لا يوجد فرق بين المغانِط المصنوعة من موادّ مغناطيسيّة وبين الكهرومغانِط.
ومع ذلك، توجد لهذه الاختلافات أهميّة كبيرة في الحياة العمليّة. فبالرغم من سهولة صناعة الكهرومغناطيس، إلا أنّه سيظلّ مغناطيسًا فقط طالما يتدفّق فيه التيّار الكهربائيّ. لذلك، عندما نريد مغناطيسًا يثبت في مكانه في جميع الحالات، نستخدم فيه الموادّ المغناطيسيّة- هذا هو السبب الّذي يجعل المغانِط المعلّقة على باب الثلاجة ثابتة في مكانها لسنوات طويلة. لنفس السبب، تُصنع أغلب وحدات التخزين في الحواسيب من الموادّ المغناطيسيّة؛ بغية عدم فقدان المعلومات في كلّ مرّة نوقف تشغيل الحاسوب. في المقابل، نستخدم الكهرومغناطيس في الرافعة المغناطيسيّة، وإلّا فإنّ الحمولة الّتي يتمّ رفعها لن تنفصل عنها أبدًا.