يتعذّر على الفيزياء النّظريّة، الّتي تستعيد الماضي حتّى الانفجار العظيم، تفسير الكمّيّة الّتي تمّ قياسها فعليًّا من الفِلزّ الخفيف (اللّيثيوم). قد يقودنا فكُّ كنه هذا الفارق إلى التّعرّف على أمور جديدة عن الكون

من الصّعب تخيّل معيشتنا بدون عنصر اللّيثيوم، مع أنّه أقلّ شهرة من قرنائه من العناصر الخفيفة، مثل: الهيدروجين، الأكسجين، الهيليوم، النّيتروجين والكربون. هذا الفِلزّ موجود في البطّاريّات الكهربائيّة، في الأدوية المضادّة للاكتئاب، في المفرقعات النّاريّة، في أنظمة الدّفع الصّاروخيّ وفي أنظمة تنقية الهواء. كُنّا نتوقّع أن يكون هذا العنصر رائجًا جدًّا: فهو يحتلّ، في نهاية المطاف، المكان الثّالث لا أكثر في الجدول الدّوريّ للعناصر.

إلّا أنّ الصّورة الواقعيّة بعيدة جدًّا عن ذلك: كمّيّة اللّيثيوم في الكرة الأرضيّة منخفضة للغاية، وهي لا تبلغ المستوى المتوقّع وفقًا للنّظريّات العلميّة المتوفّرة. تعرف الطّبيعة كيف تخدعنا، وهي تفعل ذلك مرارًا وتكرارًا. إذن، كيف علقنا بكمّيّة أقّل من اللّيثيوم مقارنةً بما كان  كان مُخطّطًا له؟


كُنّا نتوقّع أن يكون هذا العنصر رائجًا جدًّا: فهو يحتلّ، في نهاية المطاف، المكان الثّالث لا أكثر في الجدول الدّوريّ للعناصر| Shutterstock, concept w 

نتناول ما نطبخ من الحِساء

ابتكر الكيميائيّ دمتري مندليف (Mendleev) سنة 1869 جدولًا نُظِّمت فيه جميع العناصر الطّبيعيّة، الواحد بجانب الآخر. هكذا وُلِد الجدول الدّوريّ الّذي تنتظم فيه العناصر الكيميائيّة حسب أعدادها الذّرّيّة، أي أعداد البروتونات في نُويّات ذرّاتها، وكذلك حسب خواصّها الكيميائيّة. يتكوّن الجدول الدّوريّ من أسطر أفقيّة من العناصر، الّتي تُشير إلى عدد مستويات الطّاقة (مدارات الإلكترونات) في ذرّات العنصر، ومن صفوف عموديّة تحتوي على عناصر ذات خواصّ متقاربة.

ينصاع مبنى الذّرّة للقوّة الكهربائيّة العاملة بين البروتونات والإلكترونات، والقوّة النّواتيّة الشّديدة العاملة داخل نواة الذّرّة، و مبادئ ميكانيكا الكمّ الّتي تفسِّر ترتيب الإلكترونات في مستويات الطّاقة- ووجود هذه المستويات بحدّ ذاته. تنجم الدّوريّة في خواصّ العناصر في الجدول عن تأثير عدد الإلكترونات في مستوى الطّاقة الأعلى (الأقلّ بقيمتها المطلقة)على الخواصّ الكيميائيّة للذّرّة. 

تكوّن حساء الكوارك الغريب وشديد الحرارة، المعروف ببلازما كوارك- غلوون، والّذي تنحسر إمكانيّة  تواجده على ظروف متطرّفة من درجات الحرارة، تصل إلى عشرة تريليونات درجات كيلفن، وذلك حسب نظريّة الانفجار العظيم قبل حوالي 14 مليار سنة، تزامنًا مع نشأة الكون. مكث هذا الحساء فترة زمنيّة وجيزة، ثمّ هبطت درجة الحرارة في الكون إلى ملياري درجة كِلفن. 

نشأت نُويّات الذّرّات الأولى من داخل حساء البلازما الّذي احتوى على الجُسيْمات الّتي نُسمّيها اليوم: كواركات، واحتوت هذه النُّويّات على البروتونات والنّيوترونات- وهي جسيْمات مكوّنة من تركيبات مختلفة من ثلاث كواركات. ظهرت نواة ذرّة الهيدروجين أوّلًا، وهي عبارة عن بروتون وحيد ومنفرد. انصهرت فيما بعد نُويّتان من الهيدروجين واندمجت معها نيوترونات في عمليّة الانصهار فتكوّنت نواة ذرّة عنصر الهيليوم. ثمّ اندمجت ثلاث نُويّات من الهيدروجين فتكوّنت نواة اللّيثيوم، ثمّ انضمّ البيريليوم رابع العناصر- و… هذا هو. 

توقّف تكوّن نويّات جديدة لأنّ الكون بردَ إلى حدّ كبير، الأمر الّذي لم يتح المجال لاندماج نويّات صغيرة إلى أكبر منها. تُسمّى هذه العمليّة: "التّخليق النّوويّ للانفجار العظيم".


ظهرت نُويّات الذّرّات الأولى من داخل حساء البلازما الّذي احتوى على الجُسيمات المسمّاة بالكواركات. رسم توضيحيّ لِلدّقائق الأولى بعد الانفجار العظيم. تمّت الإشارة إلى الكواركات بالأزرق والأصفر | Mark Garlick / Science Photo Library

تكوّنت النّجوم الأولى على مرّ العصور، وتكوّنت معها عناصر جديدة من خلال العمليّة الّتي تُسمّى التّخليق النّوويّ النّجميّ أو الانصهار النجمي (Stellar nucleosynthesis) لُبوب النّجوم هي بمثابة مفاعلات ضخمة للاندماج النّوويّ: تحدث تصادمات شديدة بين الذّرّات بفعل درجات الحرارة والضّغوط العالية، فتتكوّن نُويّات أثقل فأثقل.  

أتاح فهم الانفجار العظيم، وما أعقبه من عمليّة تكوّن العناصر الخفيفة، للفيزيائيّين استقاء المعلومات عن رواج تلك العناصر في الكون. كان الفيزيائيّان رالف ألفر (Alpher) و جورج جامو (Gamow) أوّل من تركا بصماتهما على هذا الإنجاز، حيث شقَّ المقال الّذي نشره هذان العالمان سنة 1948 حول مصدر العناصر الكيميائيّة  -أضاف الفيزيائيّ هانس بيتا (Bethe) توقيعه عليه على سبيل المتعة فقط- إذ تبدأ أسماء ثلاثتهم بالأحرف اليونانيّة الأولى: ألفا وبيتا وجاما - الطّريق نحو فهم هذه العمليّة الهامّة. 

أمّا اللّيثيوم، فهيهات هيهات! إذ كان من المتوقّع، وفقًا لعمليّة التّخليق النّوويّ للانفجار العظيم، أن تكون كمّيّة اللّيثيوم في بداية نشأة الكون كبيرة للغاية، ثلاثة أضعاف الكمّيّة الّتي تمّت مشاهدتها فعلًا في منظومات النّجوم البعيدة، الّتي تُتيح لنا إلقاء نظرة إلى الماضي بسبب المُدّة الزّمنيّة الطويلة الّتي تستغرقها أشعّة الضّوء الصّادرة منها لِتصل الكرة الأرضيّة. يزيد الارتباك والحيرة عند فحص منظومات نجميّة شابّة، فكمّيّة اللّيثيوم فيها  أقلّ من المتوقّع. خلاصة الحديث هي أنّ إجماليّ كمّيّة اللّيثيوم في الكون برمّته، بما فيه الكرة الأرضيّة، هو أقلّ ممّا ينبغي. كلّ هذه المعطيات صالحة فقط لربع كمّيّة اللّيثيوم الموجود في الكون. يبدو أنّ الكمّيّة المتبقّية من عنصر اللّيثيوم، الموجودة في النّجوم، وفي الكواكب السّيّارة، وفي الوسط بين النّجميّ وفي الأجسام الأخرى، مثل الكواكب القزمة والمُذنّبات، تكوّنت في أحداث كونيّة أخرى، كما سيتّضح لنا لاحقًا. لا يساعدنا ذلك، لمزيد الأسف، على تفسير الكمّيّة الكبيرة من اللّيثيوم في مجموعات النّجوم البعيدة والأكثر قِدمًا: فقد حصلت هذه المنظومات على عنصر اللّيثيوم من الانفجار العظيم لا غير. 


أتاح فهم الانفجار العظيم، وما أعقبه من عمليّة تكوّن العناصر الخفيفة، للفيزيائيّين استقاء المعلومات عن رواج تلك العناصر في الكون. رسم توضيحيّ للانفجار العظيم  | ويكيميديا Woudloper

الضّيف المزدهر

تُسمّى تلك الأحداث الكونيّة بالمُسْتَعِرات (Nova)، أو المستعرات الكلاسيكيّة. تحدث هذه العمليّات عندما يُلاقي قزم أبيض -ما تبقّى من نجمٍ أنهى عمره- قمرًا طبيعيًّا كبيرًا كان قد دار حول النّجم الأصليّ، كما قد يحدث في منظومات النّجوم المزدوجة. يمتصّ حقل جاذبيّة القزم الأبيض غاز الهيدروجين من القمر، ويتكوّن ما يشبه الغلاف الجويّ حول الكوكب القزم. تحدث سلسلة من عمليّات الانصهار النّوويّ عندما تصل كثافة الهيدروجين حدًّا حرجًا، ويتبعها انفجار هائل ضخم. تلك هي عمليّة الاستِعار. 

يتكوّن عنصر اللّيثيوم خلال التّفاعل المتسلسل المذكور، كما كان قد تكوّن في بداية نشأة الكون. إلّا أنّ عنصر اللّيثيوم ليس مستقرًّا بطبيعته- فالقوّة الّتي تعمل على تكتّل البروتونات والنّيوترونات في نواته ضعيفة للغاية. لذلك، تتفكّك نواة اللّيثيوم  بسهولة إلى أجزاء، حتّى بمجرد ملامستها الأشعّة الكونيّة- وهي عبارة عن تدفّق جسيمات سريعة تتحرّك في الفضاء. وبذلك، يعود اللّيثيوم الّذي كان قد تكوّن في عمليّات الاستِعار، ليتحلّل من جديد إلى نُويّات أخفّ منه، من الهيدروجين والهيليوم. يمكن في الوقت ذاته أن تُكوِّن الأشعة الكونيّة نُويّات ليثيوم جديدة من خلال تحلّل العناصر الثّقيلة.  

تركت هذه العمليّات غير المتعاقبة في تاريخ عنصر اللّيثيوم الفيزيائيّين في حالة من الحيرة والارتباك. تحيط الضّبابيّة القدرة على تنبّؤ نسبة انتشار العنصر بالاعتماد على الانفجار العظيم، إذ هناك فارق ملحوظ بين ما يتمّ التّوصّل إليه من التّنبّؤات وبين ما تشير إليه النّتائج المشاهدَة بالفعل، ونفتقر إلى تفسير مُرضٍ لهذا الفرق. يواصل فلزّ اللّيثيوم الخفيف خداعَنا وتضليلَنا حتّى بعد مرور أكثر من مائتي عام من عزْل ياكوف يوهان برزيليوس (Berzelius) العنصر لأوّل مرّة. 


يتكوّن اللّيثيوم أيضًا خلال الاستِعار، بطريقةٍ مشابهة لعمليّة تكوّنه عند نشأة الكون. صورة سماء اللّيل وفيها مستعر سنتوري، 2013. النّجم الأكثر سطوعًا، الظّاهر في مركز الصّورة  | ويكيميديا، ESO

اللّيثيوم ما بين الفجوات

ظهرت تفسيرات أخرى سعت لسدّ الفجوة. قد تكون، مثلًا، تفاعلات نوويّة نادرة نسبيًّا تحدث في ظروف خاصّة جدًّا من الضّغط ودرجة الحرارة هي الّتي أدّت إلى التّراكيز غير المتوقّعة من اللّيثيوم في فجر التّاريخ. لم يتعمّق نموذج الانفجار العظيم في وزن تلك العمليّات، لمجرد أنّها غير معقولة، خاصّةً في الظّروف السّائدة على الكرة الأرضيّة. من الصّعب دعم هذه الإمكانيّة على الرّغم من احتمال وجودها. 

كما أنّ هناك احتمال وجود خللٍ ما في القياسات. تعتمد أساليب المشاهدة المستخدمة في فحص كمّيّة اللّيثيوم في النّجوم البعيدة على الكَيل الّذي تُفترض فيه نسبة انتشار العناصر الأخرى سلفًا. تتجلّى المشكلة في حال كانت هذه الافتراضات خاطئةً. أضف إلى ذلك، أنّنا لم نسأل بعد أين نبحث عن اللّيثيوم: يبدو لأوّل وهلة أنّه من المنطق البحث عنه على السّطح الخارجيّ للنّجم، إذ أنّنا نستخرجه من قشرة الكرة الأرضيّة. إلّا أنّ بُنية النّجوم تختلف عن بُنية الكواكب السّيّارة: يتكوّن لُبّ النّجم أساسًا من الهيدروجين والهيليوم، وعند اندماجهما يتكوّن الليثيوم، وهو الأثقل، قد يترسّب في لُبّ النّجم بسبب ثُقله النّسبيّ. أثناء ترسّبه، ينصهر اللّيثيوم مجدّدًا في درجات الحرارة العالية جدًّا السّائدة في اللُّبّ، مكوِّنًا الهيدروجين والهيليوم ثانيةً. هكذا يختفي كما كان قد ظهر. 

هناك المزيد من المقترحات، الّتي تمتدّ لتصل المادّة المظلمة الّتي يفترض أنّها تملأ الكون ولمّا نفْقَه كُنهها بعد، أو النّظريّات الّتي تتحدّث عن عمليّات انهيار اللّيثيوم في الغلافات الجوّيّة للنّجوم. من الصّعب، في هذه المرحلة، نقض هذه النّظريّات الهامّة، جميعها جميلة ومثيرة، إلّا أنّها ليست كافية. 

ما زالت الأسئلة، في الوقت الحاليّ، أكثر من الأجوبة. لكن، هذه هي سبيل العلوم الّتي تتقدّم من خلال الفرضيّات والتّفنيد. تكمن حسنة الأسئلة الصّعبة الّتي لا تتوفّر الإجابة عنها بسهولة، أنّه خلال البحث عن الإجابة، فيما إذا كانت موجودة فعلًا، تنكشف أمور كثيرة جدًّا لم تدُر في خلدنا قطّ، كما أنّنا نتعلّم درسًا في التّواضع.

0 تعليقات