افتراضًا بأنّ الكون مكتظٌّ بالنجوم، ولا حدود له، كنّا نتوقّع أن تكون السماء دائمًا مضاءة. لماذا إذًا هي مظلمةٌ في الليل؟

ترى في السماء، عندما تنظر إليها ليلًا ومن مكان بعيد خالٍ من التلوّث الضوئيّ، عددًا كبيرًا جدًّا من النجوم لا يمكنك عدُّها. لكنّ السماء مظلمةٌ بمعظمها، بالرغم من العدد الهائل من النجوم الموجود فيها، وتشهد الصور التي التُقِطَت في الفضاء إلى أنّ معظمه مظلم. لماذا لا تُضاء السماء بالليل بضوء مليارات النجوم المنتشرة فيه؟ لقد شغل هذا السؤال الباحثين منذ القرن السادس عشر، وهو يُدعى مفارقة (التناقض الظاهريّ) السماء المظلمة أو "مفارقة أولبرز"، على إسم هنريش ڤيلهلم أولبرز (Olbers)، الفلكيّ الألمانيّ الذي ذكرها في كتاباته في بداية القرن التاسع عشر. يبدو هذا السؤال، طويل الأمد، بسيطًا، إلّا إنّ الإجابة عليه تتعلّق بالمفاهيم التي ظهرت في القرن الأخير بخصوص بُنية الكون. 


لا تضيء تريليونات النجوم المنتشرة في أنحاء الكون سماء الليل المظلمة. أعشاب تحت سماء النجوم | المصدر: NASA

كيف يمكن فهم مفارقة السماء المظلمة؟

وصف فلكيّو بداية القرن الثامن عشر الميلاديّ الكونَ بأنّه لا نهائيّ وساكنٌ ومتجانِس. والمقصود بِالكون اللانهائيّ هو أن لا أطراف له، وهو يمتدّ إلى المالانهاية دائمًا وأبدًا. أمّا المقصود بسكون الكون فهو أنّه، أي الكون، لا يتغيّر بمرور الزمن: لا يختلف عدد النجوم وتوزّعها في الكون اليوم عمّا كان في ما سبق من الزمان، ولن تتغيّر فيما سيأتي من الزمان. وأخيرًا، فإنّ المقصود بالكون المتجانس هو أنّه يبدو لنا بالمظهر ذاته تقريبًا من أيّ مكان كان: توجد المكوّنات الأساسيّة ذاتها في كلّ منطقة من الكون، مثل النجوم التي تتكوّن منها المجرات ومجموعات المجرّات. وتتكوّن نجوم الكون من موادّ متشابهة. يمكننا تمثيل ذلك بصحن فيه سلطة من الخضراوات، فأيّما ملعقة نغتَرفها من الصحن ستحتوي، بالمعدّل، على نفس الخضار المقطّعة وبأحجام متساوية، مع اختلاف بسيط ليس إلّا.

دعونا نفترض أنّنا نظرنا إلى السماء، وجمعنا كلّ كمّيّة الضوء التي تصلنا من النجوم الواقعة ضمن مجال رؤيتنا. حقل رؤيتنا هو مخروطيّ الشكل، يشبه بسكوتة البوظة، ونحن نقف في طرفه المُدبّب. يتّسع حقل الرؤية المخروطيّ شيئًا فشيئًا، فتتّسع المساحة التي يغطّيها هذا الحقل كلّما أبعدنا النظر، ويزيد عدد النجوم التي نراها من خلاله. تُضيء النجوم، من جانب آخر، في جميع الاتّجاهات ويتبعثر ضوؤها وتقلّ شدّتُه. تتضاءل كمّيّة الضوء التي تصلنا ولا "تَتعدّانا" من النجوم البعيدة. يتّضح لنا، فيما إذا أجرينا العمليّة الحسابيّة المناسبة، أنّ هذين العاملين (ازدياد عدد النجوم التي تدخل مجال الرؤية كلّما نظرنا نحو مسافة أبعد، وانخفاض شدّة الضوء التي تصلنا ولا تَتعدانا من النجوم الأكثر بُعدًا) يُبطلان أحدهما الآخر، بحيث تُساهم جميع "طبقات" حقل رؤيتنا بنفس الكمّيّة من الضوء. إذا جمعنا كمّيّة الضوء التي تصل إلينا من أيّ بعدٍ كبير نريده، يتّضح أنّه من المفروض أن تكون هذه كمّيّة لا نهائيّة من الضوء، وكنّا نتوقّع إذًا أن تكون السماء شديدة الإضاءة. لكن، لماذا ليس هذا هو الحال؟ 


يتّسع مجال رؤيتنا كلما ازداد بُعد الجسم الذي ننظر إليه عن أعيننا. حدود مجال رؤية الإنسان | المصدر Codexserafinius, Shutterstock

مُفارقة من الافتراضات الخاطئة

يَكمن حلّ مسألة مفارقة أولبرز في الفرضيّات المعتمَدة بشأن بنية الكون: أنّه لا نهائيّ، ساكن ومتجانس. من الممكن أن نجد حلًّا لهذه المفارقة إذا تبيّن أنّ هذه افتراضات خاطئة، وعلينا دحض ما ينجم عنها من استنتاجات. لقد اتّضح للفيزيائيّين الفلكيّين، خلال القرن الأخير من الزمان، أنّ أخطاءً تكتنف كلّ واحدة من تلك الافتراضات. 

الافتراض الأوّل هو الذي يُعتبر الكون بحسبه ساكنًا. اكتشف ادوين هابل (Hubble) سنة 1929 أنّ الكون آخذ بالاتّساع والتمدّد، وتزداد سرعة ابتعاد المجرة كلّما زاد بعدها عنا، أي تتحرّك المجرّات الأبعد بشكل أسرع. يبلغ عمر الكون، بالاعتماد على ما اكتشفه هابل، حوالي 13 مليار سنة. لقد تبيّن بمرور الزمن، أنّ وتيرة تمدُّد الكون قابلة للتغيّر، إذ حاز سول بيرلموتر وبريان شميت وآدم ريس على جائزة نوبل في الفيزياء للعام 2011 تقديرًا لهم على ما اكتشفوه من تعاظم وتيرة تمدُّد الكون في زماننا هذا: فقد "وُلدَ" الكون قبل 13 مليار سنة وما زال يتمدّد ويتّسع في جميع الاتّجاهات.  

أمّا الافتراض الثاني فهو الذي يُعتبر الكون بحسبه لا نهائيًّا. لم يتمكّن العلماء، بالقياس والمشاهدات، من إيجاد أيّ دليل على وجود حدًّ أو طرفٍ للكون. يمكن الاستنتاج من هذه الحقيقة أنّ الكون إمّا أن يكون مسطّحًا ولا نهاية له، وإمّا أن يكون منحنيًا ومغلقًا مثل قشرة الكرة: فإذا سِرنا باتّجاه معيّن ثابت في الفضاء وابتعدنا كثيرًا، فسوف نعود أخيرًا إلى نفس المكان الذي انطلقنا منه. كشفت قياسات متقدّمة، استُخدم في بعض منها مقراب (تلسكوب) الفضاء هابل، إلى أنّ نسبة انحناء الكون صغيرة جدًّا، الأمر الذي يقود إلى التقدير بأنّ الكون مسطّح ولا نهائيّ. ما الذي جعلنا ندّعي إذًا أنّ الافتراض بأنّ الكون لا نهاية له خاطئ؟ 

قد لا تكون للكون نهاية حقًّا، إلّا أنّ الكون الذي نراه، أي الكون الذي قد تصلنا منه إشارات طبيعيّة فيزيائيّة، هو كون محدودٌ وله نهاية. إنّنا لا نستطيع رؤية النجوم البعيدة جدًّا عنّا، لأنّ سرعة الضوء هي سرعة محدودة، وعمر الكون محدود هو أيضًا. قد يظنّ البعض أنّ نصف قطر الكون الذي نراه يبلغ 13 مليار سنةً ضوئيّةً - عمر الكون مضروب بسرعة الضوء -، إلّا أنّ نصف القطر الفعليّ للكون المرئيّ يساوي حوالي 46.5 مليارسنة ضوئيّة، ذلك لأنّ الكون في حالة توسّع مستمرّة. يمكننا أن نرى الآن الضوء الصادر من النجوم البعيدة عنّا، إلّا أنّ هذا الضوء انبعث منها وهي ما زالت قريبة. يزيد نصف قطر الكون المرئيّ مع مرور الزمن، ووصول الضوء إلينا من النجوم البعيدة. 


تبدو السماء للناظر إليها من خلال مقراب (تلسكوب) حساسٍ لِأمواج الراديو بألوانٍ زاهية. محاكاة لأشعة الخلفية الكونية | المصدر: Declman Hillman, Shutterstock 

دعونا نتطرّق أخيرًا إلى الافتراض بأنّ الكون متجانس البُنية. يدّعي الباحثون الذين أجروا دراسات حديثة في مجال الفيزياء الفلكية، بأنّ افتقار الكون للتجانس في بنيته، في بداية نشأته، هو الذي هيّأ الفرصة لِتكوّن النجوم والمجرات ومجموعات المجرّات فيه. مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء للعام 2006 للفيزيائيّين جون ماثر (Mather) وَجورج سموت (Smoot)، مقابل اكتشافاتهم التي تدعم هذا الادّعاء. تختلف كمّيّة الضوء التي تصلنا من النجوم البعيدة، عن تلك التي تصلنا من النجوم القريبة، ذلك على الرغم من أنّ معدّل عدد النجوم الموجودة في كلّ وحدة حجم من الكون هو ذاته، تقريبًا، ولذلك عدة أسباب: السبب الأول هو، كما ذكرنا آنفًا، أنّ المجرات الأبعد تبتعد عنا بوتيرة أعلى. يؤدّي ابتعادها المتسارع إلى تغيير طول الموجة المنبعثة من النجم الذي ننظر إليه، والآخذ في الابتعاد إلى أن تصل إلينا - تسمّى هذه الظاهرة تأثير دوبلر. يصل  إلينا الضوء المرئيّ المنبعث من النجم البعيد، نتيجة لهذه الظاهرة، بأطوال أمواج تناسب مجال الأشعة تحت الحمراء أو أمواج الميكرو غير المرئيّة، والتي هي أطول من أمواج الضوء المرئيّ. 

أما السبب الثاني فهو أنّ سرعة الضوء محدودة، ويعني ذلك أنّ الضوء الذي يصلنا من نجوم بعيدة كان قد انبعث منها منذ زمن بعيد. عندما ننظر إلى نجم يبعد عنّا سنة ضوئية واحدة، فإنّنا نراه بهيئته التي كان عليها قبل سنة، لأنّ الضوء الذي وصل إلينا من هذا النجم ورأيناه بواسطته، كان قد انبعث منه قبل سنة. وإذا نظرنا إلى النجوم البعيدة جدًّا عنّا - التي تبعد عنا مليارات السنين الضوئيّة - فإنّنا نراها بالهيئة التي كانت عليها وهي ما زالت في مقتبل نشأتها، إذ انبعثت منها كمّيّات قليلة نسبيًّا من الضوء. 

ها هو الحلّ لِمفارقة أولبرز: ليس الكون لا نهائيًّا، ولا ساكنًا، ولا متجانسًا تمامًا. تؤدّي هذه الحقائق مجتمعةً إلى أنّ كمّيّة الضوء التي تصل إلينا من النجوم البعيدة عنّا، أقل وأضعف ممّا يصلنا من النجوم القريبة. ينجم عن ذلك أنْ تكون سماء الليل معتمة، لأنّ كمّيّة الضوء التي تصل إلينا محدودة وليست كمّيّة لا نهائيّة.  

0 تعليقات