لماذا يتم ربط القلب غالبًا بالمشاعر، وخاصّةً بالحبّ، إذا ما كانت المشاعر تنبع في الأصل من الدّماغ؟ ومتى بدأ هذا الربطُ تاريخيًّا؟
الشّعور هو جزء أساسيّ وهامّ من كياننا البشريّ، وهو ذو أهمية تطوّرية كبيرة. فالشّعور بالخوف والحالة الفسيولوجيّة التي ترافقه يتيحان لنا الاستعداد بشكل أفضل لظروف تتطلّب مواجهة صعبة. فبفضل هذا الشعور، يرتفع ضغط الدّم، عدد نبضات القلب، والتّركيز قبل امتحان هامّ، أو عندما يتوجّب علينا الهروب من الخطر.
مشاعر الحبّ والفرح هي أيضًا ذات قيمة كبيرة، لأنّها تدفعنا إلى ممارسة سلوكيّات تُفيدنا اجتماعيًّا وتزيد فرص بقائنا، مثل التّواصل اللطيف مع الأشخاص، العلاقات العائليّة الوطيدة، والعلاقات الرومانسيّة.
روميو وجولييت | رسم: فرانك ديكسي؛ من ويكيبيديا
الدّماغ
من المعروف أن مشاعرنا تستند إلى أسس كيميائيّة وعصبيّة في الدّماغ. يمكن أن تلحق الإصابات الدّماغيّة الضّرر بأداء الوظائف الإدراكيّة والعاطفيّة لدى الإنسان، كما يمكن تمييز أنماط سلوكية شاذة في أدمغة الذين تدل تصرفاتهم على خلل عاطفي.
عندما نعالج في الدماغ معلومات وصلتنا من البيئة، تُعاش تجربة عاطفيّة معيّنة متعلّقة بهذه المعلومات، وينقل الدّماغ رسائل إلى أجهزة الجسم المختلفة: جهاز القلب والأوعية الدّمويّة - The Cardiovascular System، الجهاز العضليّ الهيكليّ - The Musculoskeletal System، الغدد الصّمّاء (المنتجة للهرمونات)، والجهاز العصبيّ المستقلّ - Autonomic Nervous System. هناك علاقة وثيقة بين المشاعر وبين الأحاسيس الجسديّة الّتي تثيرها المشاعر فينا، وينعكس هذا أيضًا في اللّغة واختيار الكلمات عندما نصف ما نشعر به.
اللّغة
كثيرًا ما تُستخدم في اللغة البشرية استعارات توظّف أعضاء الجسم لوصف حالات عاطفيّة. يبرز القلب بشكل خاصّ كمحور لوصف المشاعر. صحيح أنّ التعبيرَين "انكسار القلب" و"وجع القلب" يصفان الجوانب الصّعبة للعلاقات الإنسانيّة، لكن هناك أيضًا تعابير مثل "طيّب القلب"، "قاسي القلب"، "من كل القلب"، "يخفق القلب"، وغيرها تصف جوانب أخرى من العلاقات. فعندما يتحدّث شخص بصراحة مع غيره يقال إنّ كلماته "تخرج من القلب وتدخل إلى القلب"، وعندما يكون متردّدًا، يُقال إنّ "قلبه منقسم". وفي اللّغة العبريّة، تلعب أعضاء أخرى أيضًا أدوارًا مهمّة في الجوانب العاطفيّة والنّفسيّة، إذ ترتبط الكليتان بتأنيب الضّمير في اليهوديّة، كما جاء في المزامير: "تقومّني كُليتاي".
المشاعر هي مسألة شخصيّة يختبرها كلّ شخص بشكل مختلف في مختلف الأعمار والمواقف. مع ذلك، هناك شيء عالميّ عابر للأجناس، الأعراق، والثقافات، يجعلنا جميعًا نستخدم أجسادنا بطريقة متشابهة لوصف ما يسكن قلوبنا.
تخيّلوا أنّنا صادفنا شخصًا أجنبيّا، لا يتكلّم لغتنا ولا نعرف لغته. على الرّغم من ذلك، نسعى إلى أن نشرح له كيف نشعر. فماذا نفعل؟ يُرجَّح أن نضع أيدينا على قلبنا أو بطننا ونحاول التّعبير عن شعورنا من خلال الإيماءات وتعابير الوجه.
الموناليزا. كيف تشعر المرأة المرسومة في اللّوحة؟ | ليوناردو دا فينشي
القلب
وُصف القلب عبر التّاريخ كمركز إقامة المشاعر، النّفس، والرّوح، وهذه الظاهرة مشتركة في ثقافات كثيرة.، ففي الصينيّة والسنسكريتيّة، على سبيل المثال، تُستخدم كلمة "قلب" أيضًا ضمن عبارات مختلفة لوصف النّفس والوعي. ووفقًا للطّبّ الصّينيّ، القلب هو مركز الوعي، النّفس، والرّوح، ويكاد الدّماغ لا يُذكَر في هذا السّياق.
كلمة "الحبّ" بالكتابة الصّينيّة. تحوي إشارة تشبه القلب | الصّورة من ويكيبيديا
في مصر القديمة أيضا اعتُبر القلب جزءًا مهمًّا من الرّوح، وساد الاعتقاد أنّه محور الرّغبات، الميول ("ميول القلب")، والفكر، وأنّه مركز الجسد بشكل عامّ. العلاقة بين القلب والرّوح قويّة لدرجة أنّه وفقًا للتّقاليد المصريّة، يتكوّن القلب الميتافيزيقي، أي الرّوح، لدى الجنين من قطرة دم مصدرها الأم.
يُعتبر القلب مركز النّفس في الثّقافة الغربيّة أيضًا. فقد ميّز الفيلسوف اليونانيّ أرسطو بين الرّوح العقلانيّة وبين الأحاسيس الّتي تُختَبر من خلال الحواسّ، وآمن أنّ مركز الرّوح هو القلب وليس العقل. كانت هذه المعتقدات ملائمة للنظرة المصريّة القديمة، لكنّها ناقضت مفهوم العديد من الفلاسفة اليونانيّين الّذين سبقوا أرسطو، والذين زعموا أنّ الرّوح تقيم في العقل.
أثارت مسألة دور العواطف والرّوح العديد من النّقاشات عبر التّاريخ. وهي تدعى أيضًا "مسألة العقل - الجسد" (psychophysical problem).
الدّلائل العلميّة لتكوّن الاستعارات اللّغويّة في وصف الشعور
فحصت إحدى الدّراسات الّتي نُشرت في مجلّة PNAS كيف يختبر الإنسان المشاعر المختلفة من ناحية جسديّة . وعلى وجه التّحديد، درس الباحثون عمليّة الإبلاغ عمّا يشعر به المفحوص في أعضاء مختلفة في جسمه، وفقًا للمشاعر الّتي يختبرها.
شارك في التّجربة حوالي 700 شخص من ثقافات مختلفة: السّويد، فنلندا، وتايوان. عرض الباحثون للمشاركين أحاسيس على شكل كلمات، قصص، أفلام، أو تعابير وجه، كما عرضوا لهم صورتين ظليلتين للجسم، وطلبوا منهم تلوين مناطق الجسم الّتي شعروا بأن النّشاط يرتفع أو ينخفض فيها عندما اختبروا الإحساس. بهذه الطّريقة، كوّن الباحثون "خريطة طوبوغرافيّة" للنّشاط الّذي يستحضره كلّ إحساس وميّزوا أنماط نشاط منفصلة في مختلف أعضاء الجسم حسب المشاعر. وقد أكّد التحليل الإحصائي أنّه من الممكن التّمييز بشكل واضح بين الخرائط التي رُسمت لكلّ من الأحاسيس.
خُطّطت هذه التّجربة بهدف التّغلب على الاستعارات الموجودة في لغة معيّنة (مثل "انكسار القلب") ولكنها غير موجودة في لغة أخرى. كان هدف الباحثين إيجاد أحاسيس جسديّة عالميّة تُثار من خلال المشاعر المختلفة - دون علاقة بالحضارة، الجنس، العرق، والسنّ.
كانت النتائج مثيرة للاهتمام وتصويرية. ففي الخرائط النّهائيّة الّتي عرضها الباحثون، يمكن تمييز أنماط مختلفة. الاكتئاب، على سبيل المثال، يتميّز بانخفاض فعاليّة الأطراف. أما الكبرياء فتتصف بنشاط مفرط في الصّدر والرّأس، فيما تتميز السّعادة بنشاط في الجسم كلّه، وخاصّة في الصّدر، الرّأس، الذّراعين، واليدين. يصاحب الغضبَ ارتفاعٌ في نشاط الجزء الأعلى من الجسم وارتفاع طفيف في نشاط القدمين. فيما يترافق الشّعورُ بالخجل مع انخفاض في نشاط القدمين والذّراعين، ولكن ارتفاع طفيف في نشاط الصّدر وارتفاع كبير في نشاط الوجه وخاصّة في منطقة الخدَّين. ويُعبَّر عن الحبّ بارتفاع ملحوظ في نشاط الوجه، الرّقبة، الصّدر، البطن، ومنطقة الحوض.
خرائط الأحاسيس الجسديّة حسب المشاعر المختلفة. تشير الألوان الدافئة إلى ارتفاع في النّشاط بينما تشير الألوان الباردة إلى انخفاض | من مقال Nummenmaa L et al. في PNAS، العدد 111، الصفحات 646 - 651، 2014.
بما أنّه لم يتمّ تحليل الآليّات الّتي يستند إليها الشّعور بالعواطف المختلفة بشكل كافٍ حتّى الآن، يُحتمَل أن تكون دراسة العواطف والأحاسيس الجسديّة التي تثيرها مفيدة في تشخيص الاضطرابات العاطفيّة.
تفسّر نتائج الدّراسة لماذا يرتبط القلب إلى هذا الحدّ بالعواطف. فأحاسيسنا الجسديّة تصوغ تجربتنا، وتؤثر بالتالي في التّعابير اللغويّة الّتي نستخدمها.
كيف يعمل القلب؟ شاهدوا ذلك فيديو TEDed التّالي:
الترجمة للعربيّة:د. ريتّا جبران
التدقيق اللغوي: أ. موسى جبران
الإشراف والتدقيق العلمي: رقيّة صبّاح أبو دعابس