قد تختلف نجاعة اللّقاح من مجموعة إلى أخرى، إذ تضيف الظّروف الموجودة في الواقع تعقيدات إلى تلك الموجودة في التّجربة السّريريّة. بالرّغم من هذا كلّه؛ كيف سيتمّ قياسها؟ بحذر!
عادةَ يُصمّم اللّقاح ليجمع نظام المناعة لدينا مع العامل المُسَبِب للمرض بطريقة خاضعة للرّقابة، كأن يكون ضعيفًا، ميّتًا أو يتمّ إدخال جزء صغير منه في الجسم. هذا اللّقاء يترك في أجسامنا ذاكرة مناعيّة طويلة الأمد. إذا تعرضنا بعد ذلك للعامل المسبّب للمرض الحقيقيّ، فسيكون لدينا بالفعل أجسام مضادّة وخلايا مناعيّة تستطيع اكتشاف الغازيّ والتّخلص منه (إبطال مفعوله) بسرعة قبل أن يسبّب لنا الأذى.
من أجل التّعامل مع وباء الكورونا؛ طُوّرت العديد من اللّقاحات حول العالم. قبل إطلاق لقاح جديد إلى السّوق يجب إجراء تجارب على الحيوانات، حيث يتمّ فحص سلامة وفعاليّة اللّقاح، بالإضافة إلى الآثار الجانبيّة الّتي تسبّبها التّركيزات المختلفة للمادّة. إذا نجح في اجتياز هذه المرحلة بسلام؛ تُستكمل بعدها التّجارب السّريريّة على البشر.
في المرحلة الأولى من التّجارب السّريريّة، يُعطى اللّقاح لمتطوّعين أصحّاء للتّأكّد من أنّ اللّقاح آمن، ولا يسبّب آثارًا جانبيّة خطيرة. في المراحل الأكثر تقدمًا، يتمّ فحص نجاعة اللّقاح ومساهمته في الوقاية من العدوى والقضاء على أعراض المرض. في هذه المراحل تعقد مقارنة بين مجموعتين: مجموعة العلاج الّتي تتلقّى اللّقاح (المُحصّنين)، والمجموعة الضّابطة الّتي تتلقّى لقاحًا وهميًّا (دواء وهميًّا) بدون مادّة فعّالة. يتمّ اختيار الأشخاص في المجموعات بشكل عشوائيّ ولا يعرف أيّ من المشاركين - الأشخاص الّذين تلقّوا اللّقاح والموظّفين الطّبيّين الّذين يقدّمون لهم العلاج ويتابعونهم - إلى أيّ مجموعة ينتمون.
نجاعة اللّقاح
في وقت مبكّر من عام 1915، أدرك عالم الأوبئة الرّائد غرينوود (Greenwood) والإحصائيّ إيدني يول (Yule) أنّه يجب إيجاد طريقة لقياس جودة اللّقاحات، واقترحا لأوّل مرّة طريقة لحساب نجاعة اللّقاحات الّتي طُوّرت ضدّ الكوليرا وحمّى التيفوئيد. تضمّنت طريقتهم استخدام اختبار إحصائيّ ومعادلات معقّدة تُشكّل أساس الاختبارات شائعة الاستخدام اليوم.
في بداية الدّراسة السّريريّة ، يتمّ تحديد العوامل الّتي ستسخدم لرصد حالة الأفراد ولتحديد نجاعة اللّقاح. من بين الأمور، من الممكن فحص معدّل الإصابة بين السّكان، عدد من تظهر عليهم أعراض المرض، عدد المصابين بالعدوى ولكن لم يمرضوا (بدون أعراض)، نسبة المرضى في وحدات العناية المركّزة بالمشفى، مدى الحاجة إلى الدّعم التّنفسيّ، نسبة الأعراض الشّديدة، تكلفة العلاج ونسبة الوفاة. اللّقاح الذي يُحَسِن هذه العوامل يُساعد في القضاء على الوباء.
يختلف تأثير فيروس كورونا على المصابين بشكل كبير من شخص لآخر؛ إذ يعتمد على العديد من العوامل، بما في ذلك العمر، الجنس، العرق والأمراض المُسبقة. بالتّالي، بسبب العبء الّذي يفرضه المرض على البنية التّحتيّة المحدودة للنّظام الصّحّيّ، فإنّ أهمّ عامل قد فُحصَ هو الأعراض الشّديدة. مع ذلك، حتّى اللّقاحات الّتي لا تؤثّر على تطوّر المرض تقلّل من معدل الإصابة ويمكن أن تكون مفيدة للغاية.
تجربة خاضعة للرّقابة
في الطّريقة التّجريبيّة الأكثر نجاعة يُعطى الأشخاص في التّجارب السّريريّة جرعات اللّقاح أو دواء وهميّ، من ثمّ يقومون بإصابة كلّ الاشخاص بنفس الكمّيّة من البكتيريا أو الفيروسات لمعرفة من منهم سيمرض، ما هي مدّة استمرار المرض ومدى شدّته. وهذا هو نوع التّجربة الّتي أُجريت على لقاحات التيفوس والملاريا، حيث وافق متطوّعون أصحّاء على التّعرض للمرض بطريقة خاضعة للرّقابة. مثل هذه التّجربة تجعل من الممكن اختبار نجاعة اللّقاح بسرعة واستبعاد اللّقاحات غير الملائمة المحتملة منذ البداية.
من النّاحية العمليّة، عادة ما تتجنّب التّجارب الّتي تُجرى اليوم، لأسباب أخلاقيّة، إصابة الأفراد بشكل استباقيّ. بدلًا من ذلك، ينتظرون بصبر ويتّبعون كلا المجموعتين لفترة زمنيّة طويلة. خلال هذا الوقت، يُفحص أيّ من المشاركين أصيب بشكل طبيعيّ بالعامل المسبّب للمرض، ويراقب تطوّر المرض عندهم وتحليل البيانات. عند فحص النّجاعة على أساس العدوى الطّبيعية من المهمّ بالطّبع أن نتذكّر أوّلًاا أنّ كلّ مريض ربّما يكون قد تعرّض لكمّيّة مختلفة من الفيروسات، وهذا أيضًا قد يؤثّر على مسار المرض وشدّته.
عندما يتعلّق الأمر بأمراض ليست شائعة جدًّا وليست شديدة العدوى، فقد تستغرق هذه المرحلة سنوات. وكلّما كان المرض أكثر ندرة احتاج الأمر للمزيد من المشاركين في التّجربة، وإلّا فلن يكون هناك ما يكفي من الأشخاص المصابين لإنشاء المعلومات الإحصائيّة. هذا بالطّبع ليس هو الحال في وباء كورونا الحاليّ الّذي أودى بحياة أكثر من مليون شخص في ستّة أشهر وأصاب عشرات الملايين. في هذه الحالة، فإنّ الانتشار السّريع للفيروس هو الّذي يساعد بشكل كبير في تطوير اللّقاحات، حيث أنّ هذا يكفي في غضون بضعة أشهر لتراكم العديد من الإصابات بين المشاركين في التّجربة، ممّا سيوفّر أساسًا متينًا للإحصاءات وتحليل فعاليّة اللّقاح.
في مثل هذه الدّراسة الطّبيعيّة ، يُقاس مستوى نجاعة اللّقاح في ظلّ ظروف خاضعة للرّقابة (Efficacy) بمعدّل الانخفاض في انتشار المرض في المجموعة المُحصّنة مقارنة بالمجموعة الضّابطة. إذ كلّما كانت المجموعة المُحصّنة أقلّ عدوى مقارنةً بالمجموعة الضّابطة زادت فعاليّة اللّقاح. يمكن حساب النّجاعة مقابل مجموعة متنوّعة من المقاييس، مثل معدّل الإصابة ومعدّل الأعراض الشّديدة وما شابه ذلك. على سبيل المثال، من أجل حساب نجاعة اللّقاح في الوقاية من العدوى، يُطرَح معدّل الإصابة في المجموعة الضّابطة من معدّل الإصابة بين المُحصّنين، وتقاس النّتيجة على معدّل الإصابة في المجموعة الضّابطة فقط. من أجل تقدير المعدّل الحقيقيّ للعدوى في كلّ مجموعة بشكل صحيح، من المهمّ بالطّبع تحديد عدد المصابين بالعدوى بدون أعراض.
سوف نوضح ذلك وفقًا لبيانات اللّقاح الخاصّة بشركة Moderna والّتي تمّت الموافقة عليها مؤخّرًا للاستخدام. في المرحلة الثّالثة من التّجارب السّريريّة ، شارك ما يقارب من 30400 شخصًا، حيث تمّ تقسيمهم إلى مجموعتين متساويتين في عدد المحصّنين والمجموعة الضّابطة. ضمّت المجموعة المُحصّنة 11 مريضًا مقارنة بـ 185 في المجموعة الضّابطة. الفرق بين الإصابة بالمرض في المجموعتين هو 174، بالتّالي فإنّ فعاليّة اللّقاح في الوقاية من المرض هي 174/185، أي حوالي 94 بالمائة، كما ورد بالفعل. أي أنّه كان هناك انخفاض بنسبة 94 في المائة في انتشار المرض في المُحصّنين مقارنة مع غير المُحصّنين. إذا كان عدد المجموعات مختلفًا؛ فيتعيّن علينا أخذه في الاعتبار في حساباتنا.
يمكن أيضًا بشكل شبيه قياس نجاعة اللّقاح في ظلّ ظروف خاضعة للرّقابة على أساس الخصائص الإضافيّة للمشاركين. عند فحص نجاعة اللّقاح لشركة Moderna بحسب العمر وُجد أنّه وصل حتى 95.6 بالمائة في الفئة العمريّة 65-18 وانخفض إلى 86.4 بالمائة في الأشخاص الّذين تتراوح أعمارهم بين 65 وما فوق.
يمكن أيضًا ربط نجاعة اللّقاح بخطورة أعراض المرضى ، حيث إنّ اللّقاح أحيانًا لا يمنع المرض، بل يسمح للجسم بالتّعامل معه بشكل أفضل والوقاية من التّدهور الخطير. في الواقع، في تجربة شركة Moderna، عانى 30 من المرضى في المجموعة الضّابطة من أعراض شديدة للمرض، مقارنة مع صفر من متلقّي اللّقاح الحقيقي. ومع ذلك، في التّجارب الخاضعة للرّقابة من الصّعب تقدير درجة الحماية الّتي يوفرها اللّقاح ضدّ الأعراض الشّديدة والوفاة، لأنّ هذا يتطلّب المزيد من الأشخاص. بالتّالي يُفحص بشكل موثوق فقط بعد توزيع اللّقاح على عامّة السّان، في المرحلة الرّابعة من التّجارب السّريريّة أو في الدّراسات الوبائيّة.
ثمن الخضوع للرّقابة!
فحص نجاعة اللّقاح تحت ظروف خاضعة للرّقابة (المضبوطة) يقدّم تقديرًا لأفضل سيناريو فيما يتعلّق بالحماية الّتي يوفّرها اللّقاح. هذا البحث يسمح لنا بالتّحكّم في ظروف التّجربة، والتّأكّد من أنّ مركّبات المجموعتين متشابهتين ومراقبة الحالة الطّبّيّة للمرضى طوال الوقت. يُعدّ اختيار المشاركين في التّجربة وتقسيمهم إلى مجموعات أمرًا بالغ الأهميّة، بسبب الاختلافات في عوامل الخطر وسلوك المجموعات السّكانية المختلفة. على سبيل المثال، يشترك الشّباب في التّجمّعات الاجتماعيّة بشكل أكبر ممّن تزيد أعمارهم عن 40 عامًا، بالتّالي قد يكونون أكثر تعرّضًا للفيروس. لذا فإنّ التّطابق بين مجموعة اللّقاح والمجموعة الضّابطة ضروريّ لموثوقيّة الدّراسة.
ومع ذلك، فإنّ إيجابيّات الدّراسات الخاضعة للرّقابة هذه هي أيضًا سلبيّة. معظم الأشخاص الّذين تمّ اختيارهم للمشاركة في التّجارب السّريريّة هم أشخاص أصحّاء جسديًّا ، لذا فإنّ تقدير النجاعة الّذي تمّ الحصول عليه من الدّراسة هو تقدير مبالغ فيه لا يأخُذ في الاعتبار الفئات السّانيّة الأكثر ضعفًا. في حال تمّ اختبار اللّقاح نفسه على كبار السن أو المرضى المصابين بأمراض مزمنة فقط، فمن المحتمل أنّ العديد منهم سيعانون من أعراض حادّة. في مثل هذه الحالة، فإنّ مقياس النّجاعة الّذي يعتمد فقط عليهم سيكون منحازًا إلى أسفل.
ظروف الواقع
بعد طرح اللّقاح في الأسواق تفحص فعاليّته في ظروف الواقع (الفاعلية-Effectiveness)، أي قدرة اللّقاح على منع النّتائج الفعليّة للمرض في الواقع المعقّد. يُشير هذا النّوع من النّجاعة إلى مجمل ايجابيّات وسلبيّات برنامج التّطعيم الكامل، وليس فقط اللّقاح نفسه، كما يُعبّر عنه في الميدان وليس في ظلّ ظروف المختبر الخاضعة للرّقابة.
تتأثّر نجاعة اللّقاح في ظلّ ظروف الواقع بطبيعة الحال بفعاليّته في ظلّ الظّروف الخاضعة للرّقابة، لكن أيضًا بمعدل المُحصّنين الفعليّين، صعوبات توزيعه وإمكانيّة وصول الجمهور إلى اللّقاح، الجغرافيا، التّركيبة السّكانية وغير ذلك. على سبيل المثال، كلّما زاد عدد الأشخاص الّذين تلقّوا التّطيعم، زاد استفادة السّكان من تأثير المناعة الجماعيّة - أي الحالة الّتي يفشل فيها العامل المسبّب للمرض في الانتشار؛ لأنّ المرضى يواجهون أشخاصًا مُحصّنين فقط. هذه الحالة لا تُقاس في ظلّ ظروف المختبر.
هناك عدد غير قليل من العوامل الّتي تؤثّر على فحص نجاعة اللّقاح في ظروف الواقع. بالتّالي ، يصعب أحيانًا فصل نجاعة اللّقاح عن المتغيّرات الأخرى الموجودة في الميدان، والّتي تؤثّر أيضًا على الإصابة المرضيّة المشتركة مثل العمر والأمراض المسبقة.
بالتّالي، فإنّ حساب نجاعة اللّقاح في ظلّ ظروف الواقع يتمّ عادةً في وقت لاحق، وذلك بالنّظر إلى عدد كبير جدًا من السّكان. نظرًا لعدد السّكان المُحصّنين، من الممكن أيضًا تحديد الآثار الجانبيّة النّادرة جدًّا للّقاح ، والّتي لن تكتشف في التّجارب السّريريّة محدودة النّطاق. سيكشف فحص النّجاعة في ظروف العالم الحقيقيّ كيف تؤثّر عوامل مثل أمراض مسبقة، الجنس، العمر والحمل على فعاليّة اللّقاح، وحتّى فحص ما يحدث في حالة العدوى المتكرّرة.
تحسين النّجاعة
لتبسيط هذه المراحل السّريريّة المتقدّمة وتقليلها، اقترحت منظّمة الصّحّة العالميّة إنشاء مجموعة ضابطة واحدة للّقاح الوهميّ الّتي توفّر البيانات للمقارنة مع المجموعات التّجريبيّة للعديد من الشّركات المختلفة الّتي تطوّر لقاحات جديدة. بنفس الطريقة، يمكننا مقارنة نجاعة وسلامة اللّقاحات المختلفة. على الرّغم من الموافقة بالفعل على لقاحات Pfizer و Moderna، إلّا أنّ العديد من الشّركات ما زالت في طور التّطوير، ويمكنهم الاستفادة من المجموعة الضّابطة المشتركة على الرّغم من أنّ هذا الحلّ لا يخلو من مشاكله. أخيرًا، فإنّ فحص نجاعة كلّ لقاح في ظلّ ظروف خاضعة للرّقابة وظروف واقعيّة سيسهّل علينا تحديد اللّقاح الّذي يجب إعطاؤه لكلّ قسم من السّكان.