قد أدّى اكتشاف الكواكب في مجرّات بعيدة إلى إعادة صياغة طريقة فهمنا لتطوّر نظامنا الشمسيّ

لقد شغلت مسألة كيفيّة نَشأة الكون الجنس البشريّ منذ فجر التاريخ، وعلى مرّ الأجيال فهمنا أنّ الأرض ليست سوى كون واحد من بين العديد من الأكوان، ومع ذلك، فحتّى قبل ثلاثة عقود فقط، كانت الكواكب الوحيدة الّتي عرفناها هي تلك الموجودة هنا في الجوار- أي في نظامنا الشمسيّ. لا عجب إذن بأنّ النّظريّات الّتي حاولت تفسير كيف نشأت الكواكب، قد تركّزت على الكواكب المعروفة فقط.

تمّ اكتشاف الكواكب الأولى خارج نظامنا الشمسيّ في نهاية القرن العشرين، ومنذ لحظة اكتشافها زعزعَت كلّ ما كنّا نعتقد أنّنا نعرفه عن تشكّل وتطوّر أنظمة الكواكب. كلّما تراكمت هذه الاكتشافات، تعمّق فهمنا أكثر للطرق الّتي يمكن أن تتشكّل بها الكواكب.

الحاضنات النجميّة

النظريّة الرئيسة اليوم لتشكُّل الأنظمة الشّمسيّة هي الفرضيّة السّديميّة. تمّ استخدام هذه الفرضيّة لأوّل مرّة في القرن الثامن عشر، عندما اقترحها الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط وعالم الفلك والرياضيّات الفرنسيّ بيير-سيمون لابلاس (Laplace)، كلٌّ منهما على حدة. ومع مرور السنين، تمّ إهمالها وكادت أن تُنسى، إلى أن عادت إلى الظهور مجدّدًا بصيغة مُحتلنة في نهاية الستينيّات من القرن العشرين.

بحسب هذه الفرضيّة، توجد في الوسط البين-نجميّ سحبٌ غازيّةٌ ضخمة، تتكوّن بالأساس من الهيدروجين وتُسمَّى "السحب الجزيئيّة". تكون هذه السحب بمثابة نوع من "الحاضنات النجميّة"، تتشكّل من المادّة الموجودة في السحابة، والّتي تشمل الغبار أيضًا. تقول فرضيّة السديم أنّه عندما يتشكّل نجمٌ جديد- أي شمسٌ جديدة- لا يبتلع النّجم كلّ الموادّ الموجودة في السحابة. الغاز والغبار القليل الّذي لم تمتصّه هذه الشمس، يتراكم حولها على شكل قرص مسطّح، وهو ما يُسمَّى "القرص الكوكبيّ الأوّليّ" أو "القرص الكوكبيّ الدوّار"، ومنه ستتشكّل الكواكب فيما بعد.

התמונה צולמה באור תת-אדום בעזרת הטלסקופ VISTA | צילום: ESO/VISION survey
سحابة الجبار الجزيئيّة، تعمل كحاضنة نجميّة للنجوم. تمّ التقاط الصورة بالأشعّة تحت الحمراء باستخدام تليسكوب VISTA| تصوير: ESO/VISION survey

تتشكّل النجوم في عمليّة انهيار إلى الداخل نتيجة تفكّك السّحابة. عندما تكون كتلة السّحابة الجزيئيّة كبيرة بدرجة كافية، أو بعد تأثير خارجيّ مثل الاصطدام بسحابة أخرى، فإنّها تفقد ثباتها، وبالتالي تنقسم إلى العديد من الأجزاء الأكثر صغرًا. ثمّ حين ينهار كلّ جزء من السحابة على نفسه تحت تأثير جاذبيّته الذاتيّة، ينقسم هو الآخر إلى أجزاء أصغر، حيث تستمرّ هذه الأجزاء في الانهيار التّجاذبيّ حتّى يتكوّن نجم من كلٍّ منها. تشكّل بقايا السحابة الّتي لم يتمّ ضمّها قرصًا حول كلّ نجم، وهكذا فإنّ القرص الكوكبيّ الأوّليّ هو نتيجة ثانويّة لعمليّة تشكّل النجوم.

הטבעות הכהות הן כנראה מסלולים של כוכבי לכת בתהליך היווצרות | צילום: ALMA (ESO/NAOJ/NRAO)
أوّل صورة واضحة لقرص كوكبيّ أوّليّ، تمّ التقاطها باستخدام مصفوفة التليسكوب الراديويّ ALMA (المقراب الراديويّ) في سنة 2014 حول النجم HL Tauri. الحلقات المظلمة هي مدارات لكواكب في طور التّشكّل على ما يبدو| تصوير: ALMA (ESO/NAOJ/NRAO)

من الانهيار إلى النموّ

وفقًا لفرضيّة السّديم، تتشكّل الكواكب من خلال عمليّة في الاتّجاه المعاكس للاتّجاه الّذي تشكّلت فيه شمسها (النجم): فهي لا تنهار إلى الداخل، وإنّما تنمو من الداخل إلى الخارج. وهي عبارة عن عمليّة بطيئة ومستمرّة، تصطدم فيها جزيئات الغبار الموجودة في القرص الكوكبيّ الأوّليّ ببعضها البعض، وتتبلور تدريجيًّا إلى حجارة صغيرة. وبدورها، تستمرّ هذه الحجارة في التبلور والالتصاق مع بعضها البعض، مُشَكِّلةً كتلًا صخريّةً كبيرة، يصل قطرها إلى أكثر من كيلومتر واحد، تُسمَّى الكواكب المصغّرة (planetesimals)، أي قطع صغيرة من كوكب. يصبح الكوكب المصغّر بحجمٍ كبيرٍ بما يكفي لجذب موادّ صلبة وغازات من القرص بجاذبيّته الذاتيّة وذلك بحركة سريعة، فيصبح كوكبًا أوّليًّا. كلّما كان الكوكب الأوّليّ أكبر حجمًا، كلّما استطاع تنظيف مادّة القرص حول مداره بشكل أكثر كفاءةً، ويستطيع أيضًا أن يجمع إليه الكواكب الأصغر منه.

على مسافات قريبة نسبيًّا من النجم، تكون درجة حرارة القرص أعلى من درجة حرارة تجمّد المكوّنات المتطايرة مثل الماء والميثان والأمونيا. ولذلك فإنّ هذه الموادّ المتطايرة تكون في حالة من التراكم الغازيّ، ولا يمكنها أن تتكثّف على سطح ذرّات الغبار والصخور وأن تزيد من كبر نواة الكوكب. هكذا تفسّر الفرضيّة كون الكواكب الأقرب إلى الشمس في نظامنا الشمسيّ - عطارد والزهرة والأرض والمرّيخ- كواكب صخريّة.

ونظرًا لأنّ درجة حرارة القرص تنخفض كلّما تمّ الابتعاد عن النّجم بمسافات أبعد من "خطّ الصقيع"- المسافة الّتي تتناسب فيها درجة حرارة القرص مع درجة حرارة تجمّد هذه الموادّ المتطايرة– تكون هناك موادّ صلبة أكثر بكثير والّتي يمكنها أن تشارك في عمليّة تكوين الكوكب. لذلك، عند تلك المسافات، يمكن أن تتشكّل كواكب أوّليّة حجمها أكبر بكثير، مع نواة مكوّنة من الصخور والجليد. هذه الكواكب الأوّليّة العملاقة تكون قادرة على امتصاص كميّة غاز ضخمة من القرص، وتتحوّل إلى عمالقة غازيّة، مثل كوكبَي المشتري وزُحل. وعلى مسافات أكثر بعدًا، فإنّ كثافة المادّة الموجودة على القرص أقلّ، ولذا فقد تشكّلت هناك عمالقة جليديّة أصغر، مثل أورانوس ونبتون. يُعرف هذا النموذج، والّذي يشرح عمليّة تكوّن العمالقة الغازيّة من خلال تراكم كبير للغاز على سطح النواة الأوّليّة للكوكب الأوّليّ، باسم نموذج التراكم المركزيّ.

כוכבי הלכת הארציים נמצאים במסלולים קרובים יותר לשמש, הענקים הגזיים מעבר לקו השלג, ואחריהם ענקי הקרח אורנוס ונפטון. מודל של מערכת השמש | NASA, JPL, Science Photo Library
تتواجد الكواكب الأرضيّة في مدارات أقرب إلى الشمس، والعمالقة الغازيّة وراء خطّ الصقيع، ويليها عمالقة الجليد أورانوس ونبتون. نموذج للنظام الشمسيّ | NASA, JPL, Science Photo Library

شموس أخرى، قواعد أخرى؟

إنّ هذه الديناميكيّة تتوافق بشكل جيّد مع بُنية نظامنا الشّمسيّ، حيث يُستنتج من خلالها أنّه لا يمكن للعمالقة الغازيّة أن تتواجد سوى خلف خطّ الصقيع. ولكن، وبشكل مثير للدهشة، فإنّ الكوكب الأوّل الّذي تمّ اكتشافه حول نجم شبيه بالشّمس، 51Pegasi b، هو عملاق غازيّ يدور تقريبًا بجوار شمسه- على مسافة أقلّ بنحو 19 مرّة من المسافة الّتي تفصل بين مدار الأرض والشمس. على هذا الاكتشاف فاز الباحثان ميشيل مايور (Mayor) وديدييه كيلوز (Queloz) بجائزة نوبل في الفيزياء لسنة 2019. ومنذ ذلك الحين، تمّ اكتشاف العديد من العمالقة الغازيّة الّتي تدور في مدارات قريبة من نجمها، وأُطلق عليها لقب "المشتري الحارّ" نسبة إلى كوكب المشتري. ووفقًا للتفسير الرئيس، فقد تشكّلت هذه العمالقة الغازيّة في الأصل بعيدًا عن النجم، خلف خطّ الصقيع، وبعد ذلك هاجرت إلى الداخل إلى مدارٍ أقرب.

اكتشاف جديد نُشر قبل عدّة أشهر في مجلّة Nature Astronomy يتحدّى نموذج التراكم المركزيّ باعتباره التفسير المقبول لنشأة الكواكب الغازيّة. يتّضح أنّه في إطار نظريّة السديم، من الممكن وجود نموذج بديل لتكوّن العمالقة الغازيّة، وهو ما يُعرف بنموذج عدم استقرار القرص. وبحسب هذا النموذج، يمكن أن تتشكّل العمالقة الغازيّة مباشرة من انهيارات لأجزاء من قرص قد تفتّت، دون أن تكون هناك حاجة إلى نشأة مُسبقة لنواة كوكب أوّليّ، على غرار كيفيّة تشكُّل النجوم من انهيارات السحابة الجزيئيّة.

في دراسة قادها عالم الفلك ثايان كوري (Currie) من تليسكوب سوبارو التابع للمرصد الفلكيّ الوطنيّ اليابانيّ في هاواي، اكتشف الباحثون كوكبًا أوّليًّا غازيًّا حول النجم AB Aurigae في كوكبة "مُمْسِك الأَعِنَّة". يُعتبر هذا النجم صغيرًا جدًّا من الناحية الفلكيّة- عمره من 1 إلى 5 ملايين سنة فقط، وهو في الواقع لا يزال مُحاطًا بقرص كوكب أوّليّ. من الصور الّتي تمّ الحصول عليها من تليسكوب سوبارو في هاواي وتليسكوب هابل الفضائيّ، حدّد الباحثون الكوكب الأوّليّ كنقطة مضيئة في القرص، ويظهر فيها أنّه يقوم بتغيير موقعه على طول مداره حول النجم، في صور تمّ التقاطها في سنوات مختلفة.

قدّر الباحثون أنّ كتلة هذا الكوكب الأوّليّ أكبر بتسع مرّات من كتلة المشتري، وأنّ بُعده عن نجمِهِ أكبر بـ 3.1 مرّة من بُعد نبتون عن الشمس. بمثل هذه المسافة من النجم، لا يكون القرص كثيفًا بما يكفي لتشكيل عملاق غازيّ بطريقة الالتصاق والتبلور- كما يقترح نموذج التراكم المركزيّ- لذا، فهذا يعزّز احتماليّة أنّ الكوكب العملاق قد تشكّل بسبب عدم استقرار القرص.

קדם-כוכב הלכת AB Aurigae b בתמונות מטלסקופ החלל האבל מ-2007 ומ-2021, מופיע ככתם בוהק מתחת לכוכב |    NASA, ESA, Thayne Currie (Subaru Telescope, Eureka Scientific Inc.) Alyssa Pagan, STScI
أكبر بتسع مرّات من كوكب المشتري. يظهر الكوكب الأوّليّ AB Aurigae b في صور تليسكوب هابل الفضائيّ من سنة 2007 وسنة 2021 كنقطة مضيئة تحت النجم | NASA, ESA, Thayne Currie (Subaru Telescope, Eureka Scientific Inc.) Alyssa Pagan, STScI

نظرًا لأنّ نظام الكواكب AB Aurigae لا يزال صغيرًا جدًّا، فمن المُستبعَد أن يكون العملاق الغازيّ قد تشكّل بالقرب من النجم وهاجر من هناك إلى الخارج. بالإضافة إلى ذلك، فقد حدّد الباحثون أذرعًا حلزونيّة تربط بين الكوكب الأوّليّ ومناطق القرص القريبة. ووفقًا لأقوالهم، فإنّ هذا الاكتشاف أيضًا يتوافق مع التكهّنات بشأن نموذج عدم استقرار القرص.

إنّ هذا هو أوّل دليل مباشر على أنّ الكواكب الغازيّة يمكنها أن تتشكّل من انهيار مناطق غير مستقرّة في أقراص الكواكب الأوّليّة. يبدو إذن أنّ بإمكان العمالقة الغازيّة أن تتشكّل بطرقٍ مختلفة ومتنوّعة، ومع اكتشافنا للمزيد من أنظمة الكواكب، فإنّ فَهمَنا بالنسبة لكيفيّة نشأة نظامنا الشمسيّ وأنظمة الكواكب الأخرى، يتعمّق أكثر فأكثر.

 

0 تعليقات