بالرّغم من ندرتها الشديدة، يمكن أن تسبّب الحساسيّة تجاه "سائل الحياة" مشقّة بالغة لمن يعانون منها.
الماء هو أساس الحياة على سطح الأرض، فهو المكوّن الأساسيّ في جسم الإنسان، حيث يشكّل نسبة تتراوح بين 55 وَ70 في المائة من وزن الجسم. فنحن نشربه ونستحمّ به، وفي أيّام الصيف هذه بالذات نستمتع ونقدّر مكانته المركزيّة في حياتنا. وبمجرّد حديثنا عن الماء، نتذكّر شعور الانتعاش والحيوية الّذي يضفيه الماء على حياتنا. إلّا أنّنا لسنا جميعنا شركاء لهذه المشاعر الفطرية تجاه الماء، فهناك أشخاص بيننا يعانون من حساسيّة تجاه الماء، وبالنسبة لهم، تعتبر ملامسة الماء مصدرًا للألم الْبحت بدلًا من المتعة.
حساسيّة الماء أو شرى الماء، أو باسمها العلمي (Aquagenic Urticaria)، هي شكل نادر من حساسيّات الطفح الجلديّ، حيث تؤدّي ملامسة الماء للجلد إلى حدوث ردّ فعل تحسّسيّ وطفح جلديّ، وخاصّة في الجزء العلويّ من الجسم والذراعَيْن، وحتّى التسبّب بصعوبة في التنفس في حالات حساسيّة الماء البالغة في الشدّة. ولكن لحسن الحظّ، فإنّ حالات الإصابة بهذه الحساسيّة منخفضة جدًّا، إلى درجة أنّ المراجع العلميّة والطبّيّة تحوي حوالي خمسين حالة موثّقة فقط حتّى الآن، وذلك علمًا بأنّ الحالة الأولى منها في رُصِدَت عام 1964.
ما تزال مسبّبات الحساسيّة للماء والعوامل التي تؤدّي إلى ردّ الفعل الجسديّ العنيف ضدّه مبهمة للغاية. يعتقد الباحثون بأنّ الأمر يتعلّق بردّ فعل استثنائيّ من جهاز المناعة، الذي يتعرّف بطريق الخطأ على جزيئات الماء كعامل خطير ويطلق استجابة مناعيّة. المعروف من بينها هو الهستامين، الذي يُعرف كـ"وسيط التهابيّ". الإفراط في إفراز الهستامين استجابةً للمثير يسبّب ظهور أعراض الحساسيّة مثل الطفح الجلديّ والشعور بالحكّة.
عادةً ما يذكّرنا رشّ الماء بالفرح والانتعاش والحيوية التي يضفيها الماء لحياتنا. لكن ليس الجميع يشتركون في هذا الفرح. أطفال يقفزون فرحين بملامسة الماء من الخرطوم | Shutterstock، Yuganov Konstantin
من المرجح أنّكم على دراية لحالة واحدة على الأقلّ لحساسيّة الماء، خاصّة إذا كانت قصّة الساحرة "شرّيرة" (Wicked) من كتاب "ساحر أوز" (The Wizard of OZ) للكاتب جريجوري ماجواير (Gregory Maguire) مألوفة لديكم. وحتّى في حال لم تكن القصّة مألوفة لكم، سيتمّ قريبًا عرض قصّة "شرّيرة" على هيئة مسرحيّة موسيقيّة في صالات السينما. ويُذكر أنّ المسرحيّة الموسيقية هي إعادة صياغة سينمائيّة للكتاب "شرّيرة"، والذي خصّصه ماجواير لسرد قصّة "ساحر أوز" من منظور إلفابا (Elphaba)، الساحرة الشرّيرة من الغرب.
أنشأ ماجواير قصّته هذه حول التنوّع والتباين وتقبّل الآخر، وعن الصعوبة في التعامل مع ظروف الحياة غير العاديّة. حيث تدور أحداث القصّة حول إلفابا المنبوذة اجتماعيًّا بسبب لون بشرتها الأخضر، والتي تعاني أيضًا من خوف من الماء. وكما نعلم من الكتاب الأصليّ والفيلم المقتبس منه، يتم هزيمة الساحرة الشريرة من الغرب بمجرد سكب دلو من الماء عليها لتذوب وتفنى. تقوم قصة "شريرة" بتوظيف خوف إلفابا من الماء كمدخل عميق ومفاجئ لتقييم سيكولوجية التعامل مع التحدّيات وحالات الضيق الجسديّة. وعلى ذات النهج، قد تساعد القصص الحقيقيّة من أنحاء العالم ومن بلادنا للمرضى الذين يعانون من حساسيّة الماء، في تيسير فهمنا لأحوال المصابين بالحساسيّة.
إلفابا تعاني من الحساسيّة تجاه الماء. إعلان للمسرحيّة الموسيقيّة "شرّيرة" | Shutterstock، Marti Bug Catcher
ما الذي يسبّب الحساسيّة تجاه الماء؟
يعاني الأشخاص الذين تمّ تشخيصهم بحساسيّة الماء من شعور مزعج بالحكّة وآلام الطفح الجلديّ، بل وآلام جسدية عند ابتلال بشرتهم بالماء. بالتالي، ولتجنّب هذا الألم، يتعيّن عليهم تجنّب ملامسة الماء بقدر الإمكان، سواء كان ماء المطر أو ماء الصنبور أو ماء البحر أو حتّى العرق والدموع. لأسباب مبهمة، يتعامل جهاز المناعة لديهم مع الماء كأنّه جسم غريب أو دخيل، الّذي يتوجب حماية الجسم منه فيبدأ في مهاجمته. فيتسبب هذا الهجوم من جهاز المناعة على الأنسجة السليمة في الجسم الأعراض المعهودة للحساسيّة.
يعتمد علاج هذه الحالة بالضرورة على تقليل ملامسة الماء للجلد إلى الحدّ الأدنى الممكن. تبعًا لذلك، يتجنّب المرضى ملامسة الماء، وينظفّون أنفسهم باستخدام مستحضرات خاصّة، ويدهنون جلدهم بالكريمات الدهنيّة الطاردة للماء. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الأدوية المضادّة للهستامين أو الستيرويدات القشرية على الحدّ من ردّ الفعل المناعيّ، وبالتالي على التخفيف من حدّة الأعراض المصاحبة لها.
يعاني المصابون بحساسية الماء من شعور مؤلم بالحكّة، الطفح الجلدي والألم الجسديّ عندما تبتلّ بشرتهم بالماء. امرأة تعاني من طفح جلديّ على ذراعها | Sutterstock، New Africa
على الرغم من التطوّرات التي طرأت على طرق العلاج، إلّا أنّ الغموض لا يزال يحوم حول فهمنا للآليّات المسبّبة لظاهرة الحساسيّة من الماء. لذلك، ومن أجل تطوير علاجات أكثر فعاليّة لهذه الحساسيّة، يتطلّب الأمر الاستمرار في البحث لفهم الآليّات البيولوجيّة التي تسبّب هذه الحساسيّة، ولِفهم علاقة ردّ الفعل المناعيّ المضطرب هذا مع العوامل البيئيّة والجينيّة وأثرها على جهاز المناعة البشريّ.
ظهرت على مرّ السنين فرضيّات عديدة تتطرّق إلى تلك الآليّات. ومن جملة ذلك، اقتراح الباحثين احتماليّة وجود مستضدّ (جزيء ما يثير ردّ فعل مناعيّ ضدّه) في الغدد الدهنيّة لدى المرضى. عند ملامسة الماء لهذه الغدد المنتشرة على معظم سطح الجلد، يتمّ إطلاق المستضدّ فيخترق الجسم ويحفز ردّ الفعل المناعيّ. يتناول تفسير آخر تغيرات في الضغط الأسموزي للجلد، الّتي تحدث حول بصيْلات الشعر بسبب ملامسة الماء، أي الآليّة الطبيعيّة التي يغيّر بها الماء نفاذيّة الخلايا في الجلد لبعض المواد. لا سيّما أنّ أحد أكبر التحدّيات في دراسة هذه الظاهرة هو العثور على مرضى يشاركون في البحث، نظرًا لندرة الظاهرة، ممّا يعني عدم توفّر بيانات كافيّة من المرضى لإجراء دراسات إحصائيّة شاملة.
قد يساهم فهم الأساس الجينيّ والجزيئيّ لهذا المرض الباحثين والأطباء، في تطوير علاجات مخصّصة للمرضى، وإلى تحسين جودة تشخيص هذه الظاهرة النادرة. كما قد تكون العلاجات المبتكرة، مثل الأدوية البيولوجيّة التي تستهدف المسار البيولوجيّ للمرض بشكل محدّد، قادرة على مساعدة المرضى بشكل أفضل، وخاصّة في جزئيّة التعايش مع الحساسيّة على المدى الطويل.