إلى جانب مذاقه الحُلو والدّقيق، والرّوائع الطّبّيّة المَنسوبة إليه، فإنّ للتّابل المَرغوب تاريخًا من التّسمّمات بسبب جرعات زائدة، وحروب دمويّة للسّيطرة عليه.
تمّ تسجيل المقال من قبل المكتبة المركزية للمكفوفين وذوي العسر القرائي
للقائمة الكاملة للمقالات الصوتيّة في الموقع
اعتاد الطّبيب والفيلسوف التشيكي في القرن التّاسع عشر يان بوركينييه (Purkinje)، على اختبار عقاقير وعلاجات جديدة بنفسه. وقد قام بفعل الشّيء ذاته عندما تلقّى ثلاث بُذور غريبة من جُزر إندونيسيا. وقد وصف تجربته قائلًا: "لقد تغيَّر إحساسي بالوقت، شعرت أنّ الوقت أطول من المعتاد [...] واختلط الخيال بالواقع". لم يتوقّف عن استخدام المادّة على مرّ السّنوات، لذلك لم يُفاجأ أحد عندما وصلت شابّة تبلغ من العمر 18 عامًا، تظهر عليها أعراض نوبة ذهانيّة، إلى مستشفى في لندن بعد أكثر من قرن -في عام 2002- بعد تناولها 50 جرامًا من البُذور المطحونة للنّبتة. وصفت الشابة للأطباء شعورًا مُفاجئًا بالقلق، الارتباك وتداخل الحواس: "شعرتُ أنّ شيئًا ما بداخلي سينفجر إلى الخارج".
المسؤول عن هذه التّجربة غير السّارة كان تابلًا "ساذجًا" إلى حدّ ما: جوزة الطِّيب. تُحسّن جوزة الطِّيب مذاق أطعمة كثيرة، وهي آمنة للإستعمال. لكن عند استهلاكها استهلاكًا مُفرِطًا، تظهر خصائصها السّامة، والتي -من بين أمور أخرى- قد تُؤثّر على الإدراك.
في جرعات مُنخفضة تُحسّن مذاق الأطعمة، ولكن عند الإفراط في تناولها، تظهر خصائصها السّامة. جوزة الطّيب الكاملة والمطحونة| Shutterstock, Peter Hermes Furian
عن التّابل
على الر ّغم من إسمها، فإنّ جوزة الطّيب ليست جوزة على الإطلاق، بل هي بذرة بُنيّة بيضاويّة الشّكل تنمو على الشّجرة دائمة الخضرة Myristica fragrans. تأتي الشّجرة في الأصل من جُزر باندا في شرق إندونيسيا، حيث يصل ارتفاعها إلى عشرين مترًا.
أثناء مُعالجتها، تُوضع البُذور لتجفّ في الشّمس لعدّة أسابيع، تنقسم خلالها قشرتها وتنفصل عن مُحتوياتها. يتمّ طحن البذور المُجففّة إلى مسحوق بطعم حلو وناعم، يُستخدم لتتبيل اللّحوم، الحساء، أطباق الألبان والمخبوزات. للقشور أيضًا استخدام في الطّهي: تُستخدم القُشور لصُنع مسحوقات توابل تُسمّى ماسيا (mace)، والّتي تتميّز بمذاق أقوى من مسحوق جوزة الطّيب التقّليديّ.
عند استخدامها باعتدال، فإنّ جوزة الطّيب تُثري المأكولات بطعمها الدّقيق المُميّز، ولكن عند الاستهلاك المُفرط يُمكن أن تُسبّب آثارًا جسديّة شديدة. وُجد أنّ الآثار الجانبيّة قد تبدأ باستهلاك ملعقة واحدة فقط (5-7 غرام) من مسحوق التّابل، وتزداد سوءًا عند تناول كميّات أكبر. مُعظم الّذين ينتهي بهم المطاف في المُستشفيات، بسبب تسمُّم جوزة الطّيب هم من الشّباب الّذين استهلكوا التّابل بهدف التّأثير على وعيهم، ولا توجد تقريبًا أيّ آثار جانبيّة معروفة، كنتيجة للاستخدام اليوميّ المعقول لمسحوق جوزة الطّيب.
تشمل الآثار الجسديّة للاستهلاك المُفرط تسارع مُعدّل دقّات القلب، هلوسة بصريّة، تقيّؤ، الشعور بالارتباك، عدم وضوح الرؤية، القلق، وفي الحالات الصّعبة بشكل خاصّ فقدان الوعي، وحتّى الموت. المُكوِّن الفعّال في جوزة الطّيب والمسؤول عن هذه التّأثيرات هو الميريستيسين، وهي مادّة تُغيّر الإدراك والوعي (مُؤثِّر عقليّ)، تعمل على الخلايا العصبيّة في الدّماغ بآليّة مُماثلة لتلك الموجودة في بعض مُضادّات الاكتئاب.
جوزة الطيب هي ليست جوزة، ولكنّها بذرة بُنّية تنمو على شجرة Myristica fragrans. ثمار الشجرة، والّتي تكشف إحداها البذرة بداخلها|David Nunuk, Science Photo Library
التّأثير الطبّيّ
تحتوي جوزة الطّيب على مُضادّات الأكسدة، مثل السياندين، التربين وحمض الفيروليك، والّتي قد تحمي الخلايا من الأضرار. وتُساعد على إبطال تأثيرالجُزيئات الّتي تسمّى الجذور الحُرّة (Free radicals)، والّتي بدورها قد تُساهم بتركيز عالٍ في تطوّر العديد من الأمراض كالسرطان، أمراض القلب، أمراض الكلى والشّيخوخة المُبكّرة. تتواجد مُضادّات الأكسدة في العديد من الأطعمة الّتي نستهلكها بشكل روتينيّ، كأنواع عديدة من الخضروات، الفواكه والمُكسّرات، وكما ذُكِر سابقا فهي شائعة أيضًا في جوزة الطّيب. مع ذلك، وعلى الرغم من وجود العديد من الدّراسات حول هذا الموضوع, ما زلنا لا نملك دليلًا جيّدًا على أنّ نسبة مُرتفِعة من مُضادّات الأكسدة تقي بالفعل من الأمراض. لا شكّ أنّ اتّباع نظام غذائيّ غنيّ بالخضراوات والفواكه يُساهم في تحسين الصحّة، ولكن يبدو أنّ لا فائدة إضافيّة في توفير مُكمّلات مُضادّات الأكسدة.
قد تكون لجوزة الطّيب استخدامات طبّيّة أخرى: فقد اختبر الباحثون وظيفة مُستخلَص الجوز كعامل مُبيد للجراثيم. قام الباحثون بفحص تركيزات المُستخلَص الدُّنيا والّتي لا يمكن لبكتيريا مُعينّة العيش من بعدها (ممّا يعني أنّ التّركيز الّذي يُصبح من بعده المُستخلَص سامًّا بالنّسبة للبكتيريا). في الواقع، أظهرت مجموعة مُتنوّعة من البكتيريا حساسية تجاه جوزة الطيب. من بينها، ظهرت بكتيريا مُعيّنة والّتي تُسمّى بـِ Porphyromonas gingivalis، والّتي ترتبط بأمراض اللّثة والأسنان لدى البشر. تُعتبر هذه النّتائج مُشجّعة، لكن من المهمّ أن نتذكّر أنّ العديد من المواد تنجح بقتل البكتيريا في المُختبر، لكنّها تفشل في الاختبار الحقيقيّ في جسم الإنسان. إذا نجحت دراسات أخرى في إثبات النّتائج، فمن الممكن أن نستطيع استخدامها في المستقبل في معجون الأسنان، وغيرها من المُستحضرات الفمويّة الّتي تتضمّن مُقتطفَات من جوزة الطيب، للاستفادة من المُضادّات الحيويّة الموجودة فيها.
أُطلق على جزر باندا لقب "جزر التّابل" لأنّها كانت المكان الوحيد في العالم الّذي نمت فيه أشجار جوزة الطّيب. مُزارع إندونيسيّ بجوار أشجاره | Shutterstock, meowtret
حروب جوزة الطّيب
في تناقض صارخ مع طعمها الرقيق، فإنّ لتجارة جوزة الطّيب تاريخ مُظلم ودامٍ بشكل خاصّ "فظائع، عُبوديّة وإبادة جماعيّة"، بهذه الكلمات تُلخّص مؤرّخة الطعام تاشا ماركس (Marks) تاريخ التّابل.
فهي تتحدّث عن تابل أُعتُبِرَ ذهبًا في القرن السادس عشر، وعن مناطق زراعة بقيت سريّة، وعن حربٍ على الأراضي بين الدّول الاستعماريّة الأوروبيّة كجزء من النّضال، للسّيطرة على التّابل المَرغوب.
وُلد جُنون بذور جوزة الطيب في أوروبا عام 1512، عندما وصل "المُستكشفون" الأوائل من البرتغال إلى جزر باندا، والّتي سرعان ما أُطلق عليها اسم "جزر التّابل"، حيث كانت في تلك الأيام المكان الوحيد في العالم الّذي تنمو فيه أشجار جوزة الطّيب. بالإضافة إلى مذاقها الخاصّ، فإنّ حقيقة أنّ الناس في ذلك الوقت نسبوا إليها العديد من الخصائص الطّبّيّة، كعلاج خارق للأمراض، ومواد فعّالة لتقوية القُدرات الجنسيّة لدى الذكور، ساهمت في انتشار جوزة الطّيب بشكل كبير. ساهم الطّلب الهائل على التّابل النّادر في أوروبا في دّر أرباحًا ضخمة للتّجار بعد بيعه، بنسبة 60 ألفًا في المائة، و نتج عن الثّروة الكبيرة صراعات للسّيطرة على موطنه في جزر باندا.
وسرعان ما تطوّر الصّراع إلى حُروب دامية بين الهولنديّين، البريطانيّين، الإسبان و البرتغاليّين، للسّيطرة على أشجار جوزة الطّيب وتجارتها. في هذه الحروب، لم يسقط العديد من جُنود جيوش القُوى الاستعماريّة فحسب، بل سقط أيضًا الآلاف من السُّكّان الأبرياء من المناطق الّتي تنمو فيها أشجار التّوابل.
لم يكن للقهوة والموادّ الخامّ المُستعملة لإنتاج القماش أسبقيّة في أسواق التّجارة العالميّة قبل نهاية القرن الثّامن عشر، حيث انخفضت قيمة جوزة الطّيب تدريجيًّا. لكنّ السّيطرة الأوروبيّة عليها بقيت سارية لسنوات عديدة أخرى، حتّى عام 1982 حيث تمكَّن سكان جزر باندا أخيرًا من استعادة السّيطرة على مَزارع جوزة الطّيب وتجارتها، بعد أن أودت بحياة الكثير منهم.