لقد بدأ العلم الآن فقط في فهم أهمّيّة ظاهرة هجرة الحشرات، أهمّيّتها والمخاطر الّتي تهدّدها
تهاجر العديد من الحيوانات في الطّبيعة من مكان إلى آخر مع تغيّر الفصول، سواء لقضاء فصل الشّتاء في منطقة أكثر وفرة في الغذاء، أو للإنجاب في مناخ مناسب، أو للعثور على مصادر مياه. عندما نتحدّث عن الهجرة عادة، نفكّر في الطّيور، أو قطعان كبيرة من الحيوانات العاشبة، وليس بالضّرورة الحشرات. لم يدرك علماء الطّبيعة وجود ظاهرة هجرة الحشرات إلّا في بداية القرن العشرين، وهي لا تزال أقلّ توثيقًا ودراسة.
المشكلة الرّئيسيّة هي أنّه نظرًا لصغر حجم هذه المخلوقات، فمن الصّعب جدًّا تتبّع تحرّكاتها، مقارنة بهجرة الطّيور أو الثّدييّات. وفي السّنوات الأخيرة، تزايد توثيق الظّاهرة، ومعها علامات الإصابة المتراكمة.
إنّ هجرة الحشرات مثيرة للإعجاب للغاية من حيث نطاقها، والعديد من الحشرات تقطع مسافات هائلة - وخاصّة نسبة إلى حجم أجسامها. على سبيل المثال، تطير فراشات بوجونج (Agrotis infusa) لمسافة ألف كيلومتر كلّ ربيع، من السّهول الغربيّة لشرق أستراليا إلى كهوف جبال الألب الأستراليّة. في هذه الكهوف، تقوم بإثراء البيئة الفقيرة من ناحية الموارد بالعناصر الغذائيّة المهمّة، من خلال فضلاتها الّتي توفّر حوالي سبعة أطنان من النيتروجين، وموادّ عضويّة أخرى تصل إلى مفترسيها عند موتها. كلّ هذا يسمح للنّباتات في المنطقة بالازدهار.
تتواجد الحشرات في كلّ مكان تقريبًا: على سطح الأرض، في التّربة وفي الهواء الّذي فوقها وفي خزّانات المياه حول العالم. سوف تؤدّي خسارة أعداد كبيرة منها الى تغيّرات واسعة النّطاق في بيئة الأرض. ومن الواضح بالفعل أنّ التّغيّرات البيئيّة الّتي يسبّبها الإنسان قد تؤدّي إلى مثل هذه الخسارات، فقد وجدت دراسة أجريت في ألمانيا، على سبيل المثال، أنّه في الثّلاثين عامًا الماضية حدث انخفاض بنسبة 76 في المائة من كمّيّة (الكتلة الحيويّة) للحشرات الطّائرة.
تعتبر هجرة الحشرات مثيرة للإعجاب للغاية من حيث نطاقها، والعديد من الحشرات تقطع مسافات هائلة - بالتّأكيد نسبة إلى حجم أجسامها. فراشة البوجونج، الّتي تطير ألف كيلومتر كلّ ربيع | ويكيميديا, Donald Hobern
أكثر من طيور
لا تحصل جميع الحشرات الطّائرة على المعاملة نفسها منّا. هناك بعض الحشرات الّتي نهابها، بينما يثير بعضها الآخر اهتمامًا كبيرًا فينا. تبرز الفراشات بشكل خاصّ، وذلك بفضل ألوانها المتقزّحة والمباني الجميلة على أجنحتها. هناك نوعان من الفراشات: الحوريّة (Vanessa cardui) وفراشات الدّانوس الملكيّة (Danaus plexippus)، هما مثيرتان للإعجاب بشكل خاصّ في قدراتهما على الهجرة. تعبر الحوريّات الصّحراء الكبرى في طريقها من أفريقيا إلى أوروبا وشمال آسيا ثمّ تعود، وفي أقصى الغرب من هناك تهاجر الدّانوسات الملكيّة بشكل جماعيّ بين المكسيك ووسط وشرق الولايات المتّحدة.
أصبح تتبّع طيران الحشرات أسهل وأبسط بفضل التّقنيّات الجديدة، وفي المقام الأوّل تطوير الرّادار الحشريّ الّذي يسمح بمراقبة أسراب كبيرة من الحشرات إلى جانب طرق أخرى لجمع المعلومات، مثل "علم المواطن" (العلم المدنيّ) الّذي يستعين بجمهور من المتبرّعين ويعتمد عليهم في جمع بيانات عن توزيع الحشرات في منطقة سكنهم، ومن هنا يمكن فهم ظاهرة هجرة الحشرات ودراستها.
تشير القياسات السّنويّة إلى أنّ الوزن الإجماليّ للحشرات المهاجرة من بريطانيا وحدها في أشهر الخريف يزيد سبع مرّات عن وزن جميع الطّيور المهاجرة في نفس الفترة الزّمنيّة في هذه المنطقة. تهاجر تريليونات من الحشرات، الّتي يقدّر وزنها الإجمالي بـ 2-5 آلاف طنّ، على طول مساحة 70 ألف كيلومتر مربّع.
تسكن الحشرات بيئات متنوّعة، ويمتدّ تأثيرها إلى العديد من جوانب حياتنا. غالبًا ما نميل إلى نسيان الأهمّيّة الهائلة للمخلوقات الصّغيرة في عالمنا: على سبيل المثال، تكاد تكون الحشرات مسؤولة بشكل حصريّ عن خدمات التّلقيح في الطّبيعة وفي المحاصيل الزّراعيّة، وبدونها لا يمكن للنّباتات المزهرة أن تتكاثر.
تكاد تكون الحشرات مسؤولة بشكل حصريّ عن خدمات التّلقيح في الطّبيعة وفي المحاصيل الزّراعيّة. رسم توضيحيّ للتّلقيح بمساعدة حشرة | grayjay
تنشر الحشرات المهاجرة حبوب اللّقاح النّباتيّة إلى مسافات طويلة، فقد تمّ رصد العثّ في أستراليا يحمل حبوب اللّقاح من النّباتات الأمّ إلى مسافة تتراوح بين 500 - 1500 كيلومتر، وفي إسبانيا، وثّق الباحثون انتعاش نوع من نباتات البنفسج (Viola cazorlensis)، الّذي كان مهدّدًا بالانقراض، وذلك بفضل ملقحاته المتناثرة الّتي ساعدت على زيادة تنوّعه الجينيّ. قد تكون هجرة الحشرات مفيدة في نشر الجينات من نبات إلى آخر، على سبيل المثال لمساعدتها على التّكيّف مع ظواهر مثل الجفاف، والّتي تتزايد بسبب تغيّر المناخ، كما أنّ فهم ديناميكيّات الهجرة مهمّ أيضًا لفهم طرق التّكيّف هذه.
إلى جانب الحشرات المفيدة للإنسان، تهاجر أيضًا الأنواع غير المرغوب فيها من وجهة نظرنا، على سبيل المثال الذّباب والبعوض والحشرات الضّارّة الأخرى. تتبّعت دراسة جديدة أنواع الحشرات الّتي مرّت خلال فترة زمنيّة معيّنة في منطقة تمثّل عنق الزّجاجة (عائق مسار) لهجرة الحشرات في جبال البيرينيه.
قام عالما البيئة ويليام هوكس (Hawkes) وريتشارد ماسي (Massy) بتوثيق الهجرة الجماعيّة السّنويّة للحشرات على مستوى الأرض باستخدام الكاميرات والشِّبَاك ومصائد الحشرات، بهدف تحديد أنواع الحشرات المهاجرة وعدّها. وجدا أنّ 90 في المائة من الحشرات المهاجرة كانت حشرات ملقّحة، لكن ضمن العشرة في المائة المتبقّية كان هناك عدد لا بأس به من الأنواع الضّارّة، إلى جانب أنواع أخرى مفيدة بطرق أخرى، على سبيل المثال ذباب السرفيد (Episyrphus balteatus) وحشرة سرفس مجذّع المهاجرة (Eupeodes corollae).
وأوضح هوكس في مقابلة مع موقع Nautilus "أنّ هذين النّوعين وحدهما يأكلان في المملكة المتّحدة ما بين ستّة إلى عشرة تريليونات من حشرة المنّ سنويًّا".
تتبّع الباحثون أنواع الحشرات الّتي مرّت خلال فترة زمنيّة معيّنة في منطقة تمثّل عنق الزّجاجة لهجرة الحشرات في جبال البيرينيه. إحدى الحشرات الموجودة في الدّراسة: ذباب السرفيد، في ممرّ جبليّ | Will Hawkes
تغيّرات في عادات الهجرة
يمكن أن تساعدنا دراسة هجرة الحشرات في فهم عدد الأنواع الّتي يمكنها البقاء على قيد الحياة مع مرور الوقت، على الرّغم من التّغيّرات المناخيّة العالميّة الّتي تهدّد استمرار وجودها. بعض أنواع الحشرات لا تهاجر لمسافات هائلة فحسب، بل إنّها تغيّر أجيالًا بأكملها أثناء رحلاتها. على سبيل المثال، تضع إناث الذّبابة الحوّامة بيضها في إسبانيا ثمّ تموت. يقضي نسلها جزءًا كبيرًا من حياته في السّفر شمالًا مع قدوم الرّبيع.
في أجزاء كثيرة من العالم، تُستخدم الحشرات كعلامات لوجود تنوّع صحّيّ في الأنواع. وفي هذا الصّدد أيضًا، إنّ انخفاض أعداد الحشرات المهاجرة أمر مقلق للغاية. هل سيتخلّى بعضهم عن نمط حياته المتنقّل وتختفي أنماط هجرتهم قبل أن نتمكّن من تدوينها؟ من المعروف بالفعل أنّ بعض الحشرات قد غيّرت نطاق هجرتها بعد تغيّر المناخ. ومن يدري ما إذا كانت هناك حشرات أخرى توقّفت تمامًا عن الهجرة، أو اختفت، وما هي العواقب البيئيّة لمثل هذه الأحداث.
واحدة من أكبر المشاكل في دراسة هجرة الحشرات هي الحاجة إلى متخصّصين لتحديد الحشرات الّتي يتمّ التقاطها أثناء تعقّبها (رصدها). يقول هوكس: "وددت أن يحبّ الجميع الحشرات وأن ينتبهوا إليها"، ولكن وفقًا له، حتّى في المجتمع العلميّ ليس هناك الكثير من المهتمّين بهجرة الكائنات الصّغيرة.
وهذا كلّه مؤسف للغاية. تُعدّ الحشرات مصدرًا رئيسيًّا لمركّبات النيتروجين الضّروريّة لغذاء النّبات وغذاء للحيوانات الأخرى، إنّها تقوم بتلقيح النباتات، توضّح لنا عمل النّظم البيئيّة، تبيد الآفات، وتسهم، بطرق متنوّعة، في خلق بيئة صحّيّة ومتنوّعة. ويمثّل الحفاظ عليها مهمّة كبرى، بالنّظر إلى عدد الحشرات الموجودة في العالم وتنوّع أنواعها. تمثّل الأحداث الجوّيّة القاسية، تلّوث الهواء، بالإضافة إلى استعمال المبيدات الحشريّة المفرطة في الزّراعة لمكافحة الآفات، تهديدات كبيرة وجدّيّة للمخلوقات الصّغيرة والحسّاسة الّتي تعيش جانبنا.