السُّؤال الأَصليّ: ما هو سببُ كونِ النُّمُوِّ المتجدِّد للخلايا العصبيّة في الجهاز العصبيّ المركزيّ البَشَريّ ضئيلًا للغاية، مقارنةً بِنُمُوِّ الأَعصاب في الجهاز العصبيّ المحيطيّ أَو في الجهاز العصبيّ لحيوانات غير راقية مِنَ النَّاحية التَّطوريّة الوراثيَّة؟ 
 

يُشغِلُ هذا السُّؤال بالَ أفضل الأَدمغة الّتي تبحثُ عمليّاتِ الشِّفاء والنُّمُوّ المتجدِّد في الجهاز العصبيّ المركزيّ.

وقد أَثارَ باحِثٌ بٱسم كاو في سنوات السَّبعين جَدَلًا واسِعًا في أَوساط باحثي الجهاز العصبيّ المركزيّ. فقام بزرعِ عَصَبٍ مِنَ الجهاز العصبيّ المحيطيّ في كلابٍ مُصابة بالنُّخاع الشَّوكيّ (وهو جزءٌ مِنَ الجهاز العصبيّ المركزيّ)، وادَّعى أَنَّ النُّخاع الشَّوكيَّ المصاب لدى الكلابِ، قد نما من جديدٍ على أَساسِ الجزء المحيطيّ المزروع. بدون إعلان نتائجه في مجلاّت علميّة معتمَدَة، وبدون انتظار موافقةِ الأَوساط العلميّة، بَدَأَ كاو بتنفيذ الإِجراء على بني البشر مُصابي النُّخاع الشَّوكيّ.

وسادَ غضبٌ لدى أوساط الباحثين، ونعتوه بالدَّجَّال عديم المسؤوليّة، وَمُخاطِرًا بحياة النّاس. لم يُسمَحْ له بإجراء عمليّاته الجراحيّة في الولايات المتّحدة، واضطُرَّ إلى دعوة المرضى إلى إِجراء العمليّات الجراحيّة في دول أَمريكا الجنوبيّة. وقام باحثون آخرون لاحقًا، بإعادة تجارِبِ كاو، وأَثبتوا أَنَّ مكتشفاته صحيحة.

هذه الحادثة، الّتي عَصَفَت بأَوساط الباحثين ولدى مُصابي النُّخاع الشَّوكيّ، أَدَّت إلى طرح السُّؤال: ماذا يوجد في ذلك الجزء العصبيّ المحيطيّ المزروع، ولا يتواجد بشكلٍ طبيعيّ في الجهاز العصبيّ المركزيّ، وما الّذي يوجد فيه، ويُمكِّنُ النُّمُوَّ المتجدِّد للخلايا العصبيَّة في النُّخاع الشَّوكيّ المصَاب؟

ومنذ ذلك الحين وحتّى اليوم، يحاول باحثُو الجهاز العصبيّ المركزيّ تَعَلُّمَ عمليّات موازيةٍ في الجهاز العصبيّ المحيطيّ وفي الجهاز العَصَبيّ للحيوانات غير الرَّاقية، من أَجلِ فَهمِ الاختلافات بين الأَجهزة، وطموحهم هو كشف ما الّذي يمنَعُ النُّمُوَّ المتجدِّد في الجهاز العصبيّ المركزيّ، أَو ما الّذي يَنقُصُها. سنستعرِضُ هنا بعض اتِّجاهات الأَبحاث ومكتشفاتٍ تمَّ الكشف عنها في هذا المجال.  

بيئةٌ مُعيقَةٌ لِلنُّمُوّ

يتركَّز أَحَدُ التَّوجُّهات بالذَّات في البيئة الدّاعمة للخلايا العصبيّة، وليس في خلايا الأَعصاب نفسِها. تُسمَّى الخلايا الدَّاعمة للخلايا العصبيَّة خلايا جليا. إِنَّها تزوِّدُ دَعمًا أَيْضِيًّا، ومسؤولة عن إِنتاج غلاف الميالين الّذي يُغلِّفُ الخلايا العصبيّة، وتُمكِّن توصيلاً ناجِعًا للسَّيَّالات العصبيَّة ونقل معلوماتٍ في الشَّبكة العصبيَّة.

 

خلايا الدّبق العصبيّ وغلاف الميالين | رسمٌ توضيحيّ: LadyofHats، ويكيبيديا

في الجهاز العصبيّ المحيطيّ، توجَدُ خلايا جليا والمسمَّاة خلايا شوان (Schwan cells) وتُسمَّى في خلايا الجهاز العصبيّ المركزيّ خلايا الدّبق العصبيّ (Oligodendrocytes). وبخلاف خلايا شوان الّتي لا تُعيق نُمُوًّا متجدِّدًا للخلايا العصبيّة، فإِنَّ خلايا الدّبق العصبيّ تنتجُ مكوناتٍ مِنَ الميالين والّتي تمنَعُ الخلايا العصبيّة مِنَ النُّمُوّ.

وقد نَجَحَ العُلَماء في عدّة مختبراتٍ في العالم من تطوير أَجسام مضادّة ترتبط بهذه المكوِّنات وتمنعها من إِعاقة نُمُوّ الأَعصاب، وقد أَظهرَتِ التَّجارب بهذه الأَجسام المضادَّة على حيوانات التّجارب، نجاحًا كبيرًا، ويحاولون الآن ترجمةَ النّتائج لمعالجة بني البشر.

بالإِضافة إلى ذلك، تُوجد في الجهاز العصبيّ المركزيّ خلايا دَعمٍ وتغذية، والمسمَّاة خلايا نجميَّة (Astrocytes). وعند تضرُّرِ نسيج الجهاز العصبيّ المركزيّ، تُكَوِّنُ هذه الخلايا ندبةً قد تُعيق هي أَيضًا نُمُوًّا متجدِّدًا ما لم تتحلَّل في الوقتِ المناسِب.

تنبُعُ البيئة المعيقة للنُّمُوّ أَيضًا، من نقصٍ في عوامِلِ النُّمُوّ الّتي تتواجَدُ بشكلٍ طبيعيٍّ في الجهاز العصبيّ المحيطيّ ومستواها منخفِضٌ في الجهاز العصبيّ المركزيّ.

عوامِلُ داخليَّةٌ في الخليَّة العَصَبيَّة

في الوقت الّذي يتضرَّرُ فيه الجهاز العصبيّ المحيطيّ، فإِنّ الخلايا العصبيّة المحيطيّة تعكس جيناتٍ تُشجِّع النُّمُوّ، لا تنعكس هذه الجينات في خلايا الجهاز العصبيّ المركزيّ، لذلك فالنُّمُوّ فيها منخفِضٌ نسبيًّا.

يُضافُ إلى ذلك، أَنَّهُ يوجد في خلايا الجهاز العصبيّ المركزيّ مستوى منخفضٌ مِنَ العوامل الّتي تضاعف نجاعة مخروط النُّمُوّ- أي طرف الخليّة العصبيّة الّتي توصلها إلى هدفها. في الوقت الّذي يوجد في هذه الخلايا مستوى مرتفِعٌ مِنَ المـُستَقبِلات لِلمُكوِّنات المعيقة للنُّمُوّ. 


مخروطُ نُمُوّ في طرف خليّة عصبيّة صورة: NIH، ويكيبيديا

ستَسأَلينَ نفسَكِ بالتّأكيد: لماذا تَطَوَّرَ الجهاز العصبيّ المركزيّ مع مكوِّنات معيقة للنُّمُوّ كهذه، خارجيّة وداخليّة؟ يَعتَقِدُ الباحِثُون أَنَّ هذه الموادّ تضمَنُ رِقابة ودِقَّةً على نُمُوِّ خلايا الأَعصاب، ولن تتكوَّنَ وصلات غير مناسبة داخِلَ الشَّبَكةِ العَصَبيّة. ويقدِّرُونَ أَنَّ الجهاز العصبيّ المركزيّ "يَدفَعُ" ثمنًا باهِظًا يمنَعُهُ مِنَ النُّمُوّ نُمُوًّا مُتسارعًا في حالِ حُدُوثِ إِصابة.

تَدَخُّلُ الجهازِ المَنَاعِيّ

وَيُوحِي تَوَجُّهٌ آخَرُ أَنَّهُ يوجد لجهازنا المناعيّ تأثيرٌ هائل على عمليّات الشِّفاء والتَّأهيل في الجهاز العصبيّ المركزيّ. حسب هذا التَّوَجُّه، الّذي طُوِّر بواسطة البروفيسور ميخال شفارتس من قسم بيولوجيا الأَعصاب في معهد وايزمان للعُلُوم، فإِنَّ الجهاز المناعيّ يُؤَدِّي دَورًا ضروريًّا في تنظيف المكان المصاب من بقايا الخلايا والموادّ السَّامَّة، وذلك بإزالةِ نسيجِ النُّدبة وتكوين بيئةٍ تَدعَمُ نُمُوًّا مُتَجَدِّدًا للخلايا العصبيَّة.

لا تَصِلُ خلايا جهاز المناعة، تقريبًا، الجهازَ العصبيَّ المركزيّ. بخلافِ معظم أَعضاء الجسم (الّتي تتلقَّى تعليماتٍ مِنَ الجهاز العصبيّ المحيطيّ) فإِنَّ الدِّماغ والنُّخاعَ الشَّوكيّ مفصولان عن تيارِ الدَّمِ وَعَنِ خلايا الجهاز المناعيّ بواسطة حواجز دم- دماغ وآليَّات إِضافيّة، والّتي تُمكِّنُ نشاطًا سليمًا للشَّبكة العصبيَّة بدونِ ارتباطٍ بالتَّغيُّراتِ الّتي تحدُثُ في الدَّم. وهنا أَيضًا، فَإِنَّ الجهاز العصبيّ المركزيّ "يدفع" ثمنًا ينعَكِسُ بنشاطٍ مُتَدَنٍّ لخلايا جهاز المناعة، لذلك فَإِنَّ عمليّات النُّمُوّ من جديدٍ مَحدودَةٌ.

لماذا فَقَدنا القُدرَةَ على إِنباتِ خلايا عصبيَّة من جديد؟

مخلوقاتٌ أَقلّ تَطَوُّرًا مِنَّا مِنَ ناحية القرابة التَّطوريَّة كالبكتيريا، والدِّيدان، والأُخطبوط وحتّى الضّفادع والسّلمندرات، يمكِنُها إِنباتُ أَذرُعٍ، وَذَنَبٍ وأعضاء جسمٍ مختلفة. وخلال عمليّة النُّشُوء والتَّطوُّر، فَقَدِ اندثرت هذه القُدرة، لماذا؟ 


سلمندرا ذات قدرة إنبات متجدِّدة | صورة: Cristo Vlahos، ويكيبيديا

لا يعرِفُ العُلماءُ بالضَّبط، حتّى يومنا هذا، لماذا فقدنا القُدرة على إِنبات أَعضاء، وخاصّةً الخلايا العصبيّة للجهاز العصبيّ المركزيّ. ويعتقد بعضُهم أَنَّ كونَ الثَّدِيَّات مخلوقات ذات أَجهزة بيولوجيّة مُعقَّدَة، فإِنَّ إِنبات أَعضائها من جديدٍ، يتطَلَّبُ مراقبة معقَّدة. وتَحُدُّ آليّات المراقبة هذه القدرةَ على الإنباتِ من جديد. تفسيرٌ آخَرُ لهذه الآليَّات هو الحاجة لمنعِ عمليّات سرطانيّة وإِعاقَتِهَا، والّتي يحدُثُ فيها انقسامٌ غير مراقَبٍ لخلايا تُكَوِّنُ أَورامًا.

تشمَلُ آليّات المراقبة هذه كَبتَ أَو عدم تشغيل جيناتٍ مرتبطة بالنُّمُوّ المتجدِّد، وبتوجيه أَطراف الخلايا العصبيّة، وإِعاقةِ استقبالِ إِشاراتٍ تشجِّعُ نُمُوًّا وانخفاضًا في القُدرة على تحليلِ مَبَانٍ قائمة من أَجلِ تصميمِ النَّسيجِ من جديدٍ، وتمكين إِنتاج الشَّبكة العصبيّة من جديد وتوصيلها.

وهنالك مَن يعتقد أَنَّهُ في الحيوانات الرّاقية، والّتي تُوجد في أَجسامها حواجِزُ تَفصِلُ بين الدَّمِ والجهاز العصبيّ المركزيّ، فإِنَّ وصول الجهاز المناعيّ محدودٌ، وَلِذَا فهي لا "تَتَمَتَّعُ" بدعم الجهاز المناعيّ بالنُّمُوّ المتجدِّد للخلايا العصبيّة. الحيوانات الأَقلّ تَطَوُّرًا مِنَ النَّاحية التَّطوريَّة هي مخلوقاتٌ بسيطة للغاية لا تُوجَدُ فيها حواجِزُ دم- دماغ، ولذا فَبإمكانها استغلالُ الجهاز المناعيّ مِن أَجل النُّمُوّ من جديد.

هنالك كذلك، باحِثُون يَدَّعُونَ أَنَّهُ خلال عمليّة النُّشوء والتّطوُّر، لم تَتَمَكَّنِ الثّدِيَّاتُ الّتي تضرَّرَ جهازها العصبيّ المركزيّ مِنَ البقاء لمدَّةٍ مِنَ الزّمن من أَجل تمكين آليّة الإِنبات المتجدِّد مِنَ التَّطوُّر وإِنجاب الأَنسال، وهكذا لم تنجَحْ هذه الآليَّة مِنَ الاستقرار. 

ردّ- والعودة إِليك
هل تتكوَّنُ خلايا عصبيّة جديدة نهائيًّا في الجهاز العصبيّ المركزيّ؟ إِنْ كان الأَمر كذلك، فَأَين يتمُّ ذلك، وفي أَيَّةِ حالات؟

0 تعليقات