رحلتنا في عالم أسرار الشّفرات تقودنا إلى أشهر آلة، أدّى فكّ شِفرتها إلى تطوير أوّل حاسوب إلكترونيّ. أسرار التّشفير - المقالة الخامسة في السّلسِلة
هذه هي المقالة الخامسة في سلسلة المقالات التي تتناول عالم الشّفرات، لكنّها قائمة بحدّ ذاتها. المقالات السّابقة كانت حول: شِفرة قيصر، تحليل التردّدات، شِفرة فيجينر، طريقة كاسيسكي.
تحدّثنا حتّى الآن في هذه السّلسلة من المقالات عن الشّفرات وفكّها، الذي تمّ باستخدام الورقة والقلم أو المخطوطة والرّيشة. سننتقل الآن لسنة 1918م، عندما اخترع مهندس الكهرباء الألماني آرثر شيربيوس (Scherbius) آلة الانجما، وهي أوّل جهاز تشفير كهربائيّ. قام شيربيوس بتسويقه بدايةً للبنوك ومؤسّساتٍ أخرى احتاجت شبكة اتّصالات آمنة. وفي أوائل الثلاثينيّات من القرن الماضي، تبنّاه أيضًا الجيش الألمانيّ لاحتياجاته الخاصّة.
خلال سنوات الحرب، استُخدمت هذه الآلة لنقل مئات بل آلاف الرّسائل السرّيّة اليوميّة، التي كانت في خدمة الحكومة النّازيّة ووكالات المخابرات وجَيش الرّايخ الثالث. في غضون ذلك، أُضيفَت تقنيّات جديدة لها. سنركّز في هذه المقالة على كيفيّة عمل الآلة، مع أنّ قصّة فكّها للشّفرة مذهلة بقدرٍ لا يقل عن ذلك. هناك فصل واحدٌ ومهمّ ينتمي لِعالِم الرّياضيّات البريطانيّ ومفكّك الشّفرات آلان تورينج، الّذي صمّم الآلة الحاسبة والتي تطوّر منها الحاسوب الإلكترونيّ لاحقًا.
آلة إِنِجما استُخدمت من قبل البحريّة الألمانيّة في الحرب العالميّة الثّانية | Cordelia Molloy, Science Photo Library
طريقة التّشغيل
تبدو آلة إِنِجما كآلة كتابة عاديّة، لكن عندما يُضغط على حرفٍ معيّن، يظهر في لوحة العرض الحرف الذي يبدّله في كود التّشفير. تتكوّن الآلة من عدّة مركّبات مجتمعةً مع بعضها من أجل جعل الشّفرة أكثر تعقيدًا.
1. الدوّارات
كل دوّار في آلة إِنِجما عبارة عن قرصٍ من الأسلاك الكهربائيّة الداخليّة، وظيفتها الربط بين الحروف المختلفة، مثل شفرة التّبديل البسيطة. خاصّية هذه الدوّارات نابعة من الضغط على حرف في لوحة الدوّار الذي يؤدي إلى عمليّة دوران بخطوات ثابتة، وإلى تغيّر طريقة تشفير الحرف التالي.
مثال على آلة من خمس حروف ودَوّاران: الحالة الأوليّة | رسم توضيحي: ليئور فيتسهندلر
يمكن توضيح طريقة حركة الدوّارات بآليّة عَمل السّاعة. في كل مرّة يتمّ فيها كتابة حرف، يدور دوّار 1 خطوة واحدة؛ عندما ينتهي من دورة كاملة، والذي هو عبارة في الشّكل أعلاه عن خمس خطوات (طباعة على اللّوحة)، ينضم إليه دوّار 2 ويتحرّك هو أيضًا خطوة واحدة. إذا كتبنا حرفًا معينًا في الجهاز المرسوم في الرّسم التوضيحيّ في الأعلى، فسيتغيّر حال الدوّارات إلى الترتيب الظاهر في الأسفل.
نفس الآلة بعد كتابة الحرف الأول | رسم توضيحي: ليئور فيتسهندلر
يمكن لفّ كل دوّار إلى حالةٍ أوّليّة معيّنة ممثّلة بالحرف المناسب له. عدد الحالات الممكنة مساوٍ لعدد الحروف في الآلة، أي خمسة في الآلة البسيطة جدًّا التي في الرّسم التّوضيحي، أو 26 في الآلة المعتمدة على الأحرف الأبجديّة اللاتينيّة. على سبيل المثال، يمكن أن تكون الحالة الأوليّة المحتملة للدوّارات في هذه الآلة "ب- ج"، أو مثلًا R-C-G في آلة إِنِجما الألمانيّة الحقيقيّة ذات ثلاثة دوّارات. لزيادة تعقيد الآلة، هناك دوّارات بأسلاك داخليّة مختلفة. لذلك، فإنّ ترتيب الدوّارات في الآلة مهمّ، ومن الضروري أن يقوم المشفّر ومفكّك الشّفرة بتركيبها في الآلة بنفس الترتيب تمامًا.
2. العاكِس
العاكِس مُكوّن آخر يتواجد مباشرة خلف الدوّارات. تصل الإشارة الكهربائيّة إلى العاكس بعد مرورها من الدّوارات، ثمّ يعيدها إلى الدوّارات مع إزاحة إضافيّة. على غرار الرّسم التوضيحيّ التالي، فإنّ الإشارة في الآلة الأصليّة لا يمكن أن تنعكس مجدّدًا من تلقاء نفسها. وبأثرٍ رجعيّ، كان هذا خللٌ تصميميّ في الآلة، مكّنَ مفكّكي الشِفرة البولنديين من أن يخترقوا شِفرتها.
منظومة الإِنِجما مع العاكس | رسم توضيحي: ليئور فيتسهندلر
3. لوحة التّوصيل
تُعدّ لوحة التّوصيل مكونًا آخر من مكوّنات الآلة الّتي تسمح بالتبديل بين أزواج الحروف. تتمّ عمليّة التبديل مباشرةً بعد الكتابة وقبل الانتقال عبر الدوّارات، ومرّة أخرى قبل عرض الإشارة على لوحة العرض. يُعتبر هذا التّبديل مُتبادلًا، أي إذا بُدّل الحرف "أ" بالحرف "ب"، فإنّ الحرف "ب" سَيُبدّل بالحرف "أ".
مثال على ممرّ الإشارة الكهربائيّة بوضعيّة معيّنة (تشكيلة) لمكوّنات الآلة. عند الضّغط على الحرف "ب" تصل الإشارة الكهربائيّة إلى لوحة التّوصيل ويُستبدَل بالحرف "أ"، ثمّ يمر عبر الدوّارات، ثمّ العاكِس، ثمّ يعود إلى الدوّارات، ويخضع إلى تبادل آخر في لوحة التّوصيل وفي النّهاية يضيء الحرف "ج" في لوحة العرض | رسم توضيحي: ليئور فيتسهندلر
تعقيدات
استخدم الجّيش الألمانيّ آلةً تحوي خمسة دوّارات مختلفة، يمكن إدخالها في كلّ واحد من ثقوب الدوّار الثلاثة. ومن الممكن أن يوصل أيضًا بين عشرة أزواج حروفٍ مختلفة في لوحة التّوصيل. يبلغ عدد التّرتيبات الممكنة (أي التشكيلات) حوالي 1020 تشكيلة مختلفة للأبجديّة! تخيّلوا كم هي المهمّة الهائلة وغير العمليّة لتجربة كل التّرتيبات الممكنة لِقراءة الرّسالة. لقد كانَ فكّ الشّفرة ممكنًا في النّهاية، بفضل بعض الثغرات في الآلة، والاستخدام البشري لها فقط الذي اعتمد عليه مفكّكو الشّفرات.
فكّ شِفرة الانجما
كان عالِم الرّياضيّات البولنديّ ماريان رييفسكي (Rejebski)، الّذي عَمِل في مقرّ التّشفير في الجيش البولنديّ، أوّل من فكّ شِفرة آلة الإِنِجما في بداية حياتها. فبعد أن لقد سقطت آلة إِنِجما ألمانيّة في يد البولنديين، تم تكليف رييفسكي بمهمّة فكّ شِفرتها.
استخدم الألمان الآلة بهذا الشّكل: تمّ تزويد مستخدمي الإِنِجما كلّ شهر بالتّشكيلة اليوميّة (الترتيبات أو المفاتيح الممكنة) لكلّ الشّهر. لم يتمّ استخدام المفتاح اليوميّ لإرسال الرسائل، ولكن من أجل إرسال "مفتاح الرسالة".
-
قام المرسل بدايةً بمعاينة الآلة وِفقًا للمفتاح اليوميّ.
-
ثمّ قرّر الحالة الأوليّة الجديدة للدوّارات، على سبيل المثال، كُتِبَ التعبير TGN مرّتين متتاليتين (TGNTGN)، وبُعث التسلسل الذي استلمه إلى مستلم الرّسالة.
-
قام المستلم بِفكّ شِفرة الرّسالة وفقًا للمفتاح اليوميّ وحصل على مفتاح الرّسالة.
-
في نهاية العمليّة، تمّ التّواصل بينهما عن طريق استخدام مفتاح الرّسالة. قام كلاهما بمعاينة آلتيهما حسب المفتاح الجديد، وحينها فقط تمّ إرسال الرّسالة الحقيقيّة.
لماذا فعل الألمان هذا الأمر؟ كلّما زاد طول النّص، كان من السهل على مفكّك الشِفرة معرفة المفتاح. في هذا الإجراء، يتمّ استخدام كل مفتاح رسالة لإرسال رسالةٍ واحدةٍ فقط، بدلًا من تشفير جميع الرّسائل من نفس اليوم بواسطة نفس المفتاح اليوميّ، ما يسّهل الأمر جدًّا على المفكّكين.
تمّ إرسال المفتاح البديل مرّتين، للتّعويض عن الأخطاء البشريّة ومشاكل الاتّصال، وكانت هذه هي نقطة الضّعف التي بحث عنها رييفسكي. فقد بدأ بتحليل مفاتيح الرّسائل لِرسائل مشفّرة تمّ استطلاعها في يوم ما. لنفترض أنه تلقّى مقابل الرسائل الثلاث ما يلي:
وفقًا للإجراء الّذي وصفناه، ونظرًا لِكون التّسلسل تمّ إرساله مرتين، نتج الحرف الأول والرّابع (الزوج 1) بسبب كتابة نفس الحرف. وكذلك الأمر أيضًا للحرف الثاني والخامس (زوج 2) والثالث والسادس (زوج 3). إذا كان الأمر كذلك، وِفقًا للرّسالة الأولى فإنّ الحرفان T وَB مترابطان. قام رييفسكي بجمع المئات من هذه الرّسائل يوميًا، وكوّنَ لكل زوجٍ جدولًا يصفُ الرّوابط بين الحروف. على سبيل المثال يمكن أن يكون الجدول التالي بالنّسبة للزوج 1:
يمكن تكوين سلاسل تصف روابط بين الحروف من هذا الجدول، مثلًا، حرف C مرتبط بالحرف G، والذي يرتبط بالحرف X، والذي يرتبط بالحرف R، والذي يرتبط بالحرف P، والذي يرتبط بالحرف H، والتي تعود من جديد للحرف C.
استنتج رييفسكي أمرين مهمّين: الأمر الأول، أنّ طول هذه السّلاسل هو بصمة خاصّة لكل ترتيبات الدوّارات. أمّا الأمر الثّاني فإنّ لوحة التّوصيل لن تؤثّر في طول السّلاسل. حاوِلوا أن تبدّلوا بين زوج من الحروف لتكتشفوا ذلك.
يعني ذلك، أنّ طول السّلاسل يعود فقط إلى معايرة الدوّارات؛ وبما أنّه كان في تلك المرحلة ثلاثة دوّارات فقط، فإنّ عدد الإمكانيّات التي يجب فحصها يقلّ إلى 105,456 إمكانيّة. قام رييفسكي وفريقه بفحص طول السّلاسل للأزواج الثلاثة وقاموا بتكوين قاعدة بيانات لذلك. استمرّت هذه المهمّة سنة كاملة، ولكن بعد ذلك كان على رييفسكي تحديد المفتاح اليومي من أجل تكوين الجدول وتحليل طول السّلاسل والبحث في قاعدة البيانات عن المعايرة المناسبة.
في وقت لاحق، بعدما زاد الألمان من تعقيد الآلة، صمّم رييفسكي وصنع آلات "البومب" (Bombe)، والتي بحثت بنفسها عن المعايرة المناسبة من بين قاعدة البيانات. ثمّ تبقّى كتابة رسالة مشفّرة واستنتاج ترتيب لوحة التوصيل من خلال اكمال الكلمات.
كان على رأس فريق من مفكّكي الشّفرات البريطانيين الذين تمكّنوا من قراءة الرّسائل الألمانيّة المشفّرة. تمثال آلان تورينج في حديقة بلتشلي | Lenscap Photography, Shutterstock
حملة فكّ الشّفرة.. حديقة بلتشلي وآلان تورينج
استمرّ الألمان بإضافاتٍ تدريجيّة لآلات الإِنِجما الجديدة، من دوّاراتٍ وكوابل اتّصال إلى لوحة التوصيل. وقد افتقد البولنديّون إلى الوسائل المطلوبة لاختبار مثل هذا العدد الكبير من معاينة الدوّارات. هنا سيطر البريطانيّون على زمام الأمور، واستمرّوا على مدار فترةٍ من الزّمن في فكّ رموز الرّسائل وفقًا للتقنيّة البولنديّة، في وحدة فكّ الشّفرات التي تواجدت في حديقة بلتشلي في إنجلترا. لكن أصبحت الآلات أكثر تعقيدًا، واستعان فريق مفكّكي الرموز بقيادة آلان تورينج باختصاراتٍ إضافيّةٍ لمواصلة قراءة الرّسائل المشفّرة.
طوّر تورينج لاحقًا، مستلهمًا مُن آلة "البومب" التابعة لرييفسكي، جهازًا أكثر تطوّرًا بإمكانه العثور على المعايرة اليوميّة. لم تعد طريقة الفكّ الجديدة تَستخدمُ تحديدَ السّلاسل عن طريق مفاتيح الرّسائل، لكنّها استخدمت أيضًا البحث عن التكرار الموجود في النّص المشفّر. تطلّب تطوير الآلة عدّة انطلاقاتٍ في نظريّة علوم الحاسوب، وقد ساعدت هذه اانطلاقات بشكلٍ كبير تورينج وزملاءه في إنجلترا والولايات المتّحدة الأمريكيّة، في تطوير أجهزة الحاسوب الأولى بعد الحرب.