نحن لا نعلم ماهي ومن أين أتت، إلّا أنّنا لا نستطيع تفسير سبب توسّع الكون والتزايد المستمرّ في سرعة توسّعه، بدونها
نحن نرى الموادّ من حولنا ونشعر بالطاقة كما هي معروفة للعِلْم ويمكن تفسيرها بواسطته. تتغيّر صورة الكون تغيّرًا جذريًّا إذا نظرنا إليه بمقاييس كبيرة. يتوجّب علينا افتراض وجود عامِلٍ مجهول لا يمكننا تشخيصه وتحديد خصائصه وميزاته، إلا أنّ آثاره ملحوظة على سلوك الكون، ذلك من أجل جَسر الهوّة بين صورة الكون الّتي نراها وبين القوانين الفيزيائيّة كما نفهمها.
دعونا نبدأ بالكثافة. نحن نفترض أنّ الكون متجانس في كلّ أنحائه، ولا توجد فيه نقاط خاصّة تختلف عن النقاط الأخرى، وأنّه متناحي الخواصّ، أي إنّه يظهر بنفس الصورة في جميع أنحائه، أينما ننظر، ولا يختلف أيّ اتّجاه نلقي بصرنا نحوه عن الاتّجاهات الأخرى. يصعب علينا وصف الكون بغياب هذه الافتراضات، والّتي دعمتها المشاهدات الّتي أجريت بمقاييس كبيرة. يتوجّب علينا، كي تصحَّ هذه الافتراضات، أن نجد حلولًا من نوعيّة خاصّة جدًّا للمعادلة الأساسيّة لنظرية النسبيّة العامّة لآينشتاين، والّتي تصف ردود الفعل المتبادلة بين المادّة والطاقة والحيّز الفراغيّ.
تسمّى هذه الحلول معادلات فريدمان، باسم الرياضيّ ألكسندر فريدمان الّذي حَسَبَها. ينجم عن هذه الحلول، إلى جانب الافتراض بأنّ الكون مسطّحٌ وليس مُنحنيًا، والّذي صادقت عليه مشاهدات كثيرة، تعبير للكثافة العامّة للكون- كثافة كلّ المادّة والطاقة فيه، المُسمّاة "الكثافة الحرجة".
لكن، ثمّة مشكلة. عندما ندمج كلّ المادّة الّتي نستطيع رؤيتها، مع المادّة والطاقة الأخرى المُقَدّر وجودها، مثل البروتونات والنيوترونات والفوتونات، نصل إلى خمسة بالمئة فقط من الكثافة الحرجة، ولا نعلم شيئًا عن حوالي 95 بالمئة من الكون. يمكن أن ننسب حوالي 25 بالمئة منها إلى المادّة المظلمة- المادّة الّتي لا تتفاعل مع الضوء فيتعذّر علينا رؤيتها، لكن يمكن استنتاج وجودها. يسود الغموض، بعد ذلك كلّه، غالبيّة ما تبقّى من المادّة والطاقة في الكون.
يمكننا استنتاج وجود المادّة المظلمة على الرغم من تعذّر رؤيتها. مجرّة محاطة بالمادّة المظلمة | Mark Garlick / Science Photo Library
مَلْء الفراغ
هنا تدخل الطاقة المظلمة في الصورة. والمقصود بهذا المصطلح، كما هو الحال في المادّة المظلمة، هو منح اسم للمشكلة عوضًا عن إيجاد حلّ جذريّ ومُفسَّر لها. لا يمكننا قياس الطاقة المظلمة بشكل مباشر، وقد هَدَف اقتراح وجودها مَلْء الفراغ الّذي يفصل، بالاستناد إلى ما لدينا من النظريّات، بين كميّة المادّة اللازمة للوصول إلى الكثافة الحرجة المحسوبة وبين المادّة والطاقة اللّتين نراهما فعلًا. والأدلّة على وجود الطاقة المظلمة هي أدلّة غير مباشرة بقدر يفوق الأدلّة على وجود المادّة المظلمة، ومصدرها المفترض هو المرحلة المبكّرة من تطوّر الكون.
نشأت فكرة وجود الطاقة المظلمة في أعقاب المشاهدات الدقيقة بشأن سرعة ابتعاد المجرّات البعيدة عنّا، بالمقارنة مع السرعة الأبطأ الّتي تبتعد بها المجرّات القريبة منّا. عُرِفَ اتّساع الكون من قبل، وقد لاقى تفسيرًا جيّدًا بالمعادلات المتوفّرة، إلّا أنّ المشاهدات قد أظهرت أنّ هذا الاتّساع يتسارع، أي إنّ شيئًا ما يجعل سرعة اتّساعه تتزايد. أحد تفسيرات هذا التسارع هو وجود طاقة مبعثرة بشكل متجانس في الحيّز الفراغيّ كلّه، تنجم عنها قوّة تنافر مع بيئتها المحيطة.
بدأت الفكرة تحصد شعبيّة متزايدة عندما تبيّن من خلال مسوحات إشعاع الخلفيّة الكونيّة أنّ الأشعّة، ليست مُتناحية الخواصّ، بخلاف التوقّعات، أي إنّها ليست متجانسة في جميع الاتّجاهات. تمّ اقتراح عدد من الفرضيّات لتفسير ذلك، إحداها علم الكونيّات ΛCDM. يمكن تفسير غالبيّة الكثافة في الكون، وفقًا لهذه النظريّة، بواسطة مكوِّنَيْن نظريّيْن- المادّة المظلمة الباردة (Cold Dark Matter, أو CDM باختصار) والثابت الكونيّ (Λ - الحرف اليونانيّ لمدا).
كان آينشتاين بحدّ ذاته قد اقترح إدراج الثابت الكونيّ في النسبيّة العامّة، لكن لأسباب أخرى. اعتقد آينشتاين أنّ حجم الكون ثابت، ما جعله يضيف لِمعادلاته عاملًا يعمل على توازن قوى الجاذبيّة بين المجرّات كي لا تتحرّك. اعتبر آينشتاين الثابت الكونيّ الّذي أضافه إلى المعادلات، بعد أن اتّضح أنّ الكون ليس ثابتًا وإنّما هو في اتّساع مستمرّ، أنّه خطأ كبير، ولم تعد حاجة له بعد ذلك. أمّا اليوم فقد عادت الحاجة لإدراج هذا الثابت إذ تبيّن أنّ وتيرة اتّساع الكون في تزايد، وعادت للثابت وظيفته الأصليّة- العامل الّذي يقاوم الجاذبيّة في محاولتها إبطاء وتيرة اتّساع الكون. التفسير المعقول لوجود الثابت في الكون والآخذ بالاتّساع هو وجود طاقة ثابتة تصطفّ في كلّ مكان في الفضاء.
لم تكن هناك حاجة بعد للثابت الكونيّ الّذي اقترحه آينشتاين. محاكاة توسّع الكون بواسطة البالونات المنفوخة والمجرّات داخلها | Julian Baum / Science Photo Library
الطاقة المخفيّة
انكشفت في سنوات الثمانين من القرن العشرين رموز وعلامات تشهد بأنّ الكون كان قد اتّسع بوتيرة متسارعة للغاية في اللحظات الأولى من وجوده، فورًا بعد الانفجار العظيم، ثمّ تضاءلت وتيرة اتّساعه. تُسمّى هذه الفترة اليوم "التضخّم الكَوْنيّ". افترض البعض أنّ هذا التضخم ناتج عن قوّة شبيهة بالطاقة المظلمة، لكنّ الحسابات أظهرت أنّه يجب أن تكون كثافة الطاقة أعلى كثيرًا ممّا نتوقّعه اليوم من الطاقة المظلمة، لذلك فإنّ العلاقة بين الأمور لا تزال مبهمة.
نالت فكرة الطاقة المظلمة دعمًا كبيرًا سنة 2003 إذ تمّت المصادقة على الفرضية الّتي ذُكرت آنفًا من خلال إحصاء المجرّات الكبير 2DFGRS، والّذي تبيّن منه أنّ إجمالي كثافة المادّة العاديّة والمظلمة في الكون لا تتعدّى نسبتُه الثلاثين بالمائة من الكثافة الحرجة. وأظهر تقدير الطاقة المعروفة في الكون، والمتوفّر في هذه المرحلة، أنّها مهملة بالمقارنة مع كثافة المادّة. تبقى سبعون بالمئة من الطاقة في الكون دون تفسير- الطاقة المظلمة.
اقترن مصطلح آخر بالطاقة المظلمة وهو "طاقة الفراغ". يصف هذا المصطلح، والمأخوذ من النظريّة الكموميّة، الحدّ الأدنى من الطاقة الموجودة في الفراغ الشاغر. تتناسب خواصّ طاقة الفراغ الكموميّة مع خواصّ الطاقة المظلمة الّتي تنبع من الثابت الكونيّ، ما يشير إلى احتمال وجود علاقة بينهما. إلا أنّ هذه العلاقة ما زالت قيد الدراسة والبحث ولم تحسم بعد، ذلك لأنّ الكثير من الدراسات والأبحاث أظهرت أنّ طاقة الفراغ أقلّ كثيرًا من الطاقة الّتي من المفروض أن تكون هي الطاقة المظلمة.
لا تتعدّى نسبة إجماليّ كثافة المادّة العاديّة والمظلمة في الكون، وفقًا لما اتّضح من إحصاء المجرّات الكبير 2DF، ثلاثين بالمئة من الكثافة الحرجة | المصدر: Enoch Lau, Creative Commons Attribution-Share Alike 3.0 Unported license
طابور إثبات الهويّة
ما هي الطاقة المظلمة إذًا؟ أسهل إجابة عن هذا السؤال هي "لا نعلم". جرت، مع ذلك، بضع محاولات لبلورة افتراضات نظريّة تفسّر طبيعتها.
يُفترض، وفقًا لأحد هذه الافتراضات، وجود ثابت كونيّ، أي عنصر ما مُشتقّ من المعادلات، يقاوم الجاذبيّة ويكوّن تنافرًا بين نقطة وأخرى. الطاقة المظلمة، بناءً على ذلك، موزّعة بشكل متجانس في الكون وكثافتها ثابتة لا تتغيّر مكانًا ولا زمانًا. يجري الحديث، بالمقابل وضمن نظريّة أخرى، عن التغيير، وتوصَف الطاقة المظلمة بأنّها حقول ديناميكيّة، أي حقول من طاقة قابلة للتغيّر عبر الزمان والمكان.
يَربط توجّه نظريّ آخر بين اللغزين، ويصف الطاقة المظلمة والمادّة المظلمة كظاهرة واحدة. يمكن النظر إلى النظريّة المنبثقة عن هذا التوجّه بأنّها "الطاقة المظلمة التفاعليّة"، ذلك من منطلق أنّ المادّة المظلمة تتفاعل مع سائر الكون عن طريق الجاذبيّة، وتفترض النظريّة أنّ الطاقة المظلمة مرتبطة بالمادّة المظلمة. أخيرًا، تستوجب الفكرة الجديدة والّتي سُمّيت بـِ "الاقتران الكونيّ" واستندت على حلٍّ معيّن للمعادلات، ازدياد كتلة الثقوب السوداء جنبًا إلى جنب مع اتّساع الكون، لكن دون أن تتغيّر كثافة طاقتها. هناك من يفترض أنّ هذه هي الطاقة المظلمة، أو على الأقلّ أحد مُكوِّناتها، لأنّ الوصف المذكور يناسب الطاقة المظلمة أيضًا.
لا تزال مسألة مصدر، أو مصادر، الطاقة المظلمة تفتقر للحلّ، وذلك نظرًا لصعوبة الحصول على معلومات عنها حتّى ولو بطرق غير مباشرة. يشكّل الثابت الكونيّ، على الرغم من ذلك، التفسير المفضّل لدى غالبيّة علماء الفلك، كونه أبسط نظريّة تفسّر المشاهدات.
تستوجب فكرة "الاقتران الكونيّ" ازدياد كتلة الثقوب السوداء مع اتّساع الكون، لكن دون أن تتغيّر كثافة طاقتها. ثقب أسود في مجرّة درب التبّانة | Nazarii_Neshcherenskyi, Shutterstock
التفسيرات البديلة
الطاقة المظلمة هي التفسير المفضّل، لدى غالبيّة علماء الفلك في هذا العصر، لِلظواهر الّتي تمّت مشاهدتها، إلّا أنّها ليست التفسير الوحيد. صورة الكون المتوفّرة لدينا، وفقًا لتفسير آخر، ليست صحيحة وأنّ ثمّة خطأ جوهريّ في القياسات. إذا لم تكن الافتراضات بشأن محيطنا القريب من الكون صحيحة، خاصّةً إذا كان هذا المحيط فارغًا أكثر من المعدّل في باقي أجزاء الكون، فقد تكون قياساتنا خاطئة والكون لا يتسارع في اتّساعه. لا حاجة لافتراض وجود الطاقة المظلمة في هذه الحالة.
ويجري الحديث، في نظرية بديلة أخرى، عن الجاذبيّة الديناميكيّة: قد تتغيّر الحاجة للطاقة المظلمة أو تنعدم كُليًّا في حال لم تكن الجاذبيّة ثابتة في كافّة أنحاء الكون. لقد تمّ اقتراح العديد من مثل هذه النماذج، إلّا أنّ الكثير منها تمّ رفضه تفسيرًا بديلًا للطاقة المظلمة، ذلك بعد أن نقضت قياسات أمواج الجاذبيّة الّتي أجريت في السنوات الأخيرة تنبّؤات النماذج.
لا تتنبّأ الطاقة المظلمة بالخير لمستقبل الكون. سيستمرّ التزايد في سرعة ابتعاد مجرّات الكون، ما عدا تلك القريبة جدًّا منّا. سوف يؤدّي التسارع في ابتعاد المجرّات، في المستقبل غير البعيد بمفاهيم كونيّة، إلى عدم قدرة وصول الضوء منها إلينا. تتنبّأ نماذج معيّنة أن تتفوّق القوّة الناجمة عن الطاقة المظلمة في نهاية المطاف على سائر القوى الكونيّة، الأمر الّذي سيؤدّي إلى تمزّق جميع الهياكل إربًا إربًا، بما فيها الذرّات وما فيها من جسيمات، وتتناثر طاقتها في كافّة أرجاء الكون.
لكن ليس لنا أن نيأس، إذ لم يتمّ نقض النماذج الّتي تتنبّأ بأنّ تأثير الطاقة المظلمة سيقلّ شيئًا فشيئًا، إلى أن يتوقّف تسارع اتّساع الكون، ثم ينعكس الاتّجاه لنصل في نهاية الأمر إلى الانهيار العظيم ويولد الكون من جديد بشكل دوريّ، نقضًا نهائيًّا. هناك ما يستحقّ الانتظار في مثل هذه الحالة!