دراسات أُجريت على الإنسان وعلى فئران البراري تكشف أنّ الدّافع خلف إقامة علاقة زوجيّة مستمرّة مرتبط بنفس الآليّة الّتي تعمل عند حالات الإدمان

أمطار غزيرة في الخارج، وطقسٌ عاصفٌ يجعلك راغبًا في البقاء تحت الغطاء، أو الاستمتاع بكوب من الشّاي السّاخن. ما الّذي قد يدفعُك لمغادرة المنزل في طقس كهذا؟ بالطّبع، أقوى قوّة في الكون: الحبّ. إذا كنتم غارقين في الحبّ من رأسِكم وحتّى أخمص قدميْكم، وحدّدتم موعدًا في المطعم، فلن يقف المطر في طريقكم أبدًا. ولكن لو كان الأمر مجرّد اجتماع عمل مع المحاسب، للقيام بالمهمّة "اللّطيفة" المتمثّلة في إعداد التّقرير السّنويّ لضريبة الدّخل، فمن المحتمل أنّكم ستفضّلون تأجيل الاجتماع إلى يوم آخر... إلّا إذا كنتم طبعًا واقعين في حبّ المحاسب – أو التّقرير السّنويّ!

ما هو الحبّ على أيّة حال؟ قد يكون لدى الشّعراء إجابات كثيرة على هذا السّؤال، لكن لو سألنا العلماء، فإنّهم سيرَون أنّه من الأفضل القيام بمشاهدات حول السّلوكيّات المرتبطة بالحبّ للحصول على إجابة، سواء عندنا نحن البشر أو لدى الكائنات الحيّة الأخرى.

 

قليلون، إلّا أنّهم مخلصون

جزء من معرفتنا عن طبيعة نظام العلاقات الإنسانيّة يعتمد على دراسة الكائنات، التي تقيم علاقات أحاديّة الزّواج. يشير مفهوم الزّواج الأُحاديّ، أو الزّواج من واحد/ة، إلى علاقة حصريّة مقامة بين فرديْن خلال عدة مواسم تكاثر. يُعدّ هذا الأمر شكلًا نادرًا جدًّا من السّلوك الجنسيّ في عالم الكائنات الحيّة، وتشير التّقديرات إلى أنّه يميّز حواليْ خمسة بالمئة فقط من أنواع الكائنات الحيّة المتقدّمة. عند هذه الأنواع، يقيم الفرد علاقة طويلة الأمد مع ذات الشّريك، وعادةً ما يقومون أيضًا بتربية نسلهم معًا، بحيث يتقاسم كلا الوالديْن عبء رعاية الجيل التّالي.

من بين أنواع الكائنات الحيّة أحاديّة الزّواج، تمّ إجراء العديد من الدراسات بشكل خاصّ على فئران البراري (Microtus ochrogaster) - وهو نوعٌ من القوارض الصّغيرة الّتي تعيش في أزواج، وتقوم كأزواج بحراسة المنطقة المشتركة معًا وتعتني بالنّسل سويّة. تقارنها العديد من الدّراسات بنوع آخر من الفئران وتُدعى: Microtus pennsylvanicus، أقاربهم غير الأحاديّين، في محاولة لفهم كيفيّة تطوّر سلوكها أحاديّ الزّواج. على سبيل المثال، الدّراسات الّتي قارنت بين نوعيْن من الفئران، أو بين أزواج مماثلة لأنواع أخرى في الطّبيعة، أحدها أحاديّ الزّواج والآخر ليس كذلك، وجدت بعض التّغيّرات الجينيّة المتّسقة الّتي حدثت أثناء التطوّر في الأنواع أحاديّة الزّواج، ولم تجدها لدى أقاربهم الأقلّ انتقائيّة.

كما أظهرت دراسات أخرى وجود علاقة أيضًا بين توزيع مستقبلات هرمون الأوكسيتوتسين في أدمغة الفئران، وتفضيلاتهم للزّواج الأحاديّ. يتمّ إفراز الأوكسيتوتسين، والّذي حظي باسم الشّهرة "هرمون الحبّ"، أثناء الاتّصال الجنسيّ والولادة والرّضاعة واللّمسة الجسديّة المحِبّة (المُلاطفة)؛ ولكنّه مرتبط أيضًا مع حالات الهيمنة الاجتماعيّة، ومع القلق الّذي ينشأ بعد الانكسار الاجتماعيّ. في حالات معيّنة، قد يهدّئ ويخفّف من الألم ويرفع مستوى الثّقة في الآخرين. الأوكسيتوتسين مرتبط أيضًا بسلوكيّات الوالديّة مثل رعاية الأبناء.

مع ذلك، يبدو أنّ مستقبلات الأوكسيتوتسين لا تقوم بهذه المهمّة بمفردها: أبحاث لاحقة أنتجت فئرانًا معدّلة وراثيًّا بطريقة تجعلها بلا مستقبلات الأوكسيتوتسين في جسدها، ولدهشة الباحثين، فإنّ هذا التغيير لم يمنع الفئران من تطوير علاقات زوجيّة مع فئران آخرين، وأشارت النّتائج إلى أنّ نظام الهرمونات والنّواقل العصبيّة الّتي تؤثر على سلوكها الزوجيّ، هو أكثر تعقيدًا ممّا اعتقدوا.

إذن ما الّذي يدفع الفئران إلى البقاء في علاقة دائمة؟ لو عدنا قليلًا إلى الطّقس العاصف، وإلى حبيبنا الّذي ينتظر في المطعم بمفرده حتّى نخرج من تحت الغطاء الدافِئ، فسوف نفهم أنّ أحد الآليّات البيولوجيّة الأساسيّة للعلاقات الأحاديّة هو الدّافع. إنّ نظام المكافأة في دماغنا يعتمد بشكل أساسيّ على النّاقل العصبيّ، الدّوبامين. في مناطق معيّنة من الدماغ، يحفّز إفراز الدوبامين الإحساس بالاكتفاء والتّحفيز والاهتمام. إنّه ضروريّ لحياتنا جميعًا، وبعض الحيوانات لديها سلوكيّات فريدة تميّزها، تجعلها تُفرز الدوبامين. التّوق إلى إمداد الدّوبامين قد يسبّب في بعض الأحيان اختلالًا في توازن عمل نظام المكافأة لدينا، وبالتّالي يؤدّي إلى الإدمان.


نوع من القوارض الصغيرة التي تعيش في أزواج، وتحرس معًا المنطقة المشتركة ويعتني كل منهما بالنسل. فئران البراري| Agnieszka Bacal, Shutterstock

أنت مكافأتي

في بحث جديد، قام باحثون من جامعة كولورادو بولدر بفحص علاقة نظام المكافأة، بحجم ومدى الجهد الّذي سيبذلُه الفئران من أجل الوصول إلى شركائهم. بواسطة تعديل جينيّ، قام الباحثون بحقن مناطق معيّنة من أدمغة الفئران، بخلايا عصبيّة مع مستقبلات تتوهّج بضوء الفلورسنت استجابة للدّوبامين. اللِّيف الضّوئيّ المزروع في أدمغتهم أتاح قياس درجة الإضاءة في الوقت الفعليّ. ركّزت الدراسة على منطقة تسمّى "النّواة المتّكئة"- (Nucleus accumbens)، حيث إفراز الدوبامين فيها كان مرتبطًا في السابق بالدّافع الاجتماعيّ.

في البحث كان على الفئران بذل جهد للوصول إلى شركائهم: الضّغط على دوّاسة من أجل فتح الباب، أو التّسلق فوق عائق معيّن. حيث كان/ت شريك/ة كلّ فأر/ة بانتظاره/ا خلف العائق. بذل الفئران جهدًا للوصول إلى شركائهم وفي الوقت نفسه تم إفراز الدوبامين في النّواة المتّكئة، أي أنّ هذا كان أساس الدّافع لدى الفئران لبذل جهودهم. عندما وُضع خلف العائق فأرٌ عشوائيّ وليس الفأر الشّريك، فإنّ إفراز الدوبامين قد انخفض.

عندما أُعطيت للفئران إمكانيّة الاختيار بين دوّاستين، واحدة تفتح الباب لشريكهن/لشريكتهم، والأخرى تفتح الباب لفأر عشوائيّ، قام الفئران بفتح الباب الّذي يتواجد خلفه شريكهن/شريكهم مرّات أكثر، وأسرع بكثير من فتح الباب الآخر، ودخلوا الحجرة حيث كان شريكهن/شريكهم بسرعة أكبر. بالإضافة إلى ذلك، فقد قضى الفئران وقتًا أطول في القرب الجسديّ، والشّمّ و"الاحتضان" مع شريكهم مقارنةً بفأر عشوائيّ. وعندما تمّ فصل الفئران عن شركائهم لمدّة شهر، تذكّر الفئران بعضهم البعض، لكنّ كمّيّة الدّوبامين الّتي أفرزت في أدمغتهم استجابةً لوجود الشّريك كانت أقلّ. في الطّبيعة، بعد أن يفقد الفئران شركائهم لفترة طويلة، يستطيعون تكوين علاقة أحاديّة مع فأر آخر.


 تم ربط إفراز الدوبامين في هذه المنطقة في السابق بالدافع الاجتماعي. النواة المتكئة في الدماغ | Pikovit, Shutterstock

أظهِرْ لي أنّك تحبّني

وماذا عن البشر؟ دراسة قامت بفحص نشاط الدّماغ لدى الأشخاص، الّذين كانوا في علاقة مستمرّة لعشر سنوات على الأقل، باستخدام التّصوير بالرّنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI)، تبيّن فيها أنّه عندما شاهدوا صور شريكهم أو شريكتهم، نشطت في أدمغتهم مناطق مرتبطة بنظام المكافأة. في المقابل، عندما شاهدوا صور أصدقاء مقرّبين لهم أو معارف، لم يتمّ تسجيل أي نشاط غير عادي في هذا النّظام.

نتائج مماثلة شوهدت أيضًا في الدّراسات الّتي فحصت نشاط الدّماغ عند بداية علاقة زوجيّة، عندما شاهد/ت كلّ مشارك/ة إمّا صورًا لشريكه/ا الجديد/ة أو لشخصيّة معروفة توجد اتّجاهها مشاعر محايدة. كما وعندما سُئل المشاركون عن مدى حبّهم للشّريك، فإنّ شدّة نشاط الدّماغ في مناطق نظام المكافأة، كانت مرتبطة بدرجة الحبّ الّتي أبلغوا عنها.

إذًا، فالأوكسيتوتسين والدوبامين يعملان معًا، والعلاقة المتبادلة بينهما تسمح للكائنات الحيّة أحاديّة الزّواج بخلق الدّافع اللّازم للسّلوك الاجتماعيّ، والاستثمار وبذل الجهد في العلاقة الزوجيّة ورعاية الآخرين. يخبرنا العلم أنّ الحبّ يمكن أن يكون شبيهًا نوعًا ما بالإدمان على شخص آخر. إنّ عمل نظام المكافأة يتيح لنا عمليّة بذل الجهد والتّغلّب على العقبات، ويتيح لنا البقاء مع شركائنا على مَرّ السّنين. عيد حبّ سعيد!

 

0 تعليقات