ملخص قصير: لماذا نحتاج إلى اللّمس؟ وكيف يؤثِّر في صحّتنا؟ وما هي جذوره التطوّريّة؟

يُرافقنا اللّمس طوال حياتنا، وهو الوسيلة الأكثر مباشرة لتجربة البيئة المحيطة بنا. يلعب اللّمس دورًا حيويًّا في تواصلنا الاجتماعيّ: نصافح للتعرّف على شخص جديد، نعانق أو نقبِّل المقرّبين ونتجنّب عادةً لمس الغرباء أو أولئك الّذين لا نرغب في قربهم. رغم أهميّته الكبيرة في التفاعلات الاجتماعيّة، تمّت دراسة اللمس بدرجة أقلّ من الحواسّ الأخرى في السياق الاجتماعيّ، ربّما لأنّه أكثر تعقيدًا للدراسة في بيئة المختبر مقارنةً بالبصر، السمع، والشمّ.


اللّمس يرافقنا طوال حياتنا. مجموعة من الأشخاص يحضن بعضهم البعض | Shutterstock, Studio Romantic

وُلِدنا لنلمس

حاسّة اللّمس هي أوّل حاسّة تتطوّر لدينا ونحن في بطون أمهاتنا: بين الأسبوع الرابع والسابع من الحمل تتطوّر مستقبِلات اللّمس على الجلد، وتبدأ حاسّة اللّمس في العمل بعد ذلك بوقت قصير. للّمس فوائد عاطفيّة وجسديّة عديدة، تبدأ بالفعل في تطوّر الأطفال. معظم التواصل بين الأمهات وأطفالهن يشمل اللّمس. يساعد اللّمس بشكل فوريّ على تقليل التوتّر وتهدئة الأعصاب، بل ويشجّع الأطفال على الابتسام. عند الأطفال حديثي الولادة السليمين، تخفّف ملامسة الجلد للجلد من الألم، أمّا عند الأطفال الخدّج فإنّ اللّمس يسرّع زيادة الوزن ويقلّل من مدّة الإقامة في المستشفى. الأطفال الصغار الّذين لا يحصلون على كميّة كافية من اللّمس من القائمين على رعايتهم، يكونون في خطر أكبر لتطوير مشاكل في معالجة الحواسّ، مثل الحساسيّة الزائدة.

قد أظهرت دراسة حول تأثيرات الاكتئاب أثناء الحمل أنّ شدّة اكتئاب الأم تؤثّر في مستوى التوتّر والمشاعر السلبيّة لدى المولود. كلّما كان الاكتئاب لدى الأم أكثر حدّة، أظهر المولود المزيد من المشاعر السلبيّة مثل الخوف والغضب، وواجه  صعوبات أكبر في تنظيم مشاعره. ومع ذلك، لوحظ هذا التأثير فقط بين الأطفال الّذين لم يتلقَّوا تلامسًا كافيًا من الأم بعد الولادة. أمّا التلامس الجسديّ من الأم بعد الولادة فقد قلّل من تأثير اكتئاب الأم أثناء الحمل على نموّ الطفل.

يبدو أنّ للتلامس دورًا في اكتساب اللغة أيضًا. المفردات المبكّرة الّتي يتعلّمها الطفل غالبًا ما تحوي كلمات تتعلّق بالتلامس مع الشخص القائم على رعايته، مثل أسماء أجزاء الجسم. دراسة أُجريت في عام 2014 أظهرت أنّه يمكن استخدام التلامس الهادف لتعليم الأطفال التمييز بين الكلمات، أي، معرفة نهاية الكلمة الواحدة وبداية كلمة أخرى في سلسلة من الأصوات.


ملامسة الجلد للجلد Skin to Skin تخفّف من الألم وتبعث على الهدوء, طفلٌ ابن يوم على صدر والده| Sutterstock, Lopolo

العناق من الطفولة حتّى البلوغ

العناق هو نوع من التلامس يستخدم كثيرًا في السياقات الاجتماعيّة، عند اللقاء أو الوداع على سبيل المثال، أو إيماءات التعاطف والمواساة. يعتقد بعض الباحثين أنّ حاجتنا للعناق لها جذور تطوّريّة، وأنّ له دورًا أساسيًّا في بقاء الجنس البشريّ. يولد الأطفال غير قادرين على رعاية أنفسهم، ولكي يبقوا على قيد الحياة، يحتاجون إلى رعاية مستمرّة من البالغين الّذين يقومون بإعالتهم والاعتناء بهم، ولهذا السبب؛ يجب أن يشعروا بالراحة عند حملهم بين الأذرع. العناق يتسبّب في إفراز هورمونات تثير مشاعر الهدوء والسكينة لديهم. لاحقًا في الحياة، يعمل التلامس والعناق على تعزيز الروابط بين الناس. فتساعدنا على بناء علاقات شخصيّة وحياة مجتمعيّة، بدونها لن نتمكّن من البقاء لفترة طويلة.

للعناق تأثيرات إيجابيّة عديدة في أجسامنا. التلامس اللطيف، مثل العناق أو المداعبة، ينشِّط مستقبِلات سي-تاكتيل (c-tactile) في الجلد والّتي ترسل إشارات عصبيّة إلى مناطق معالجة المشاعر ومناطق المكافأة في الدماغ. التلامس والمداعبة والعناق تسبّب  إفراز نواقل عصبيّة وهورمونات، من بينها الأوكسيتوسين والإندورفين. يلعب الأوكسيتوسين دورًا مهمًّا في الترابط الاجتماعيّ، ويخفض ضغط الدم ومستويات التوتّر والقلق. الإندورفين يقلّل الألم ويعطي شعورًا بالمتعة. بالإضافة إلى ذلك، يقلّل التلامس اللطيف من مستويات هورمون التوتّر الكورتيزول، ما قد يحسّن من جودة النوم. يؤثِّر التوتّر النفسيّ المزمن سلبًا في  جهاز المناعة، وبالتالي قد يحسِّن العناق الجيّد صحّتنا من خلال تقليله لاحتمالات الإصابة بالأمراض المعدية وتقليله لشدّة أعراضها.

قامت مؤخّرًا مجموعة من الباحثين الهولنديّين بدراسة تأثير التلامس في الصحة الجسديّة والنفسيّة للأشخاص من مختلف الأعمار، من خلال تحليل شامل (تحليل تلويّ) لـ 212 دراسة شملت حوالي 13,000 مشارك. قام الباحثون بفحص العوامل الّتي تؤثّر في فعاليّة التلامس. "كنّا ندرك أنّ التلامس هو تدخّل صحّيّ مهمّ، ولكن رغم وجود العديد من الدراسات حول هذا الموضوع، لم يكن من الواضح كيف يجب استخدامه بشكل مثاليّ، وما هي التأثيرات المحدّدة الّتي يمكن توقّعها، وما هي العوامل الّتي قد تؤثّر فيها"، أوضح ذلك يوليان باكهيسر (Julian Packheiser)، أحد الباحثين المشاركين في الدراسة في بيان صحفيّ.


العناق له تأثيرات إيجابيّة عديدة في أجسادنا. شخصان يتعانقان | Shutterstock, PeopleImages.com - Yuri A

التلامس الأكثر فعاليّة

وجدت الدراسة أنّ للتلامس تأثيرًا إيجابيًّا متوسط الحدّة في مجموعات متنوّعة من الناس. التدليك، المداعبة، العناق وأشكال التلامس المماثلة خفّفت من الألم والاكتئاب والقلق لدى الأطفال والبالغين. كما وساعد التلامس الأطفال الرضّع على زيادة الوزن. هذه التأثيرات الإيجابيّة كانت فعّالة لكلّ من الأشخاص السليمين والمرضى على حدّ سواء. عند المقارنة بين أنواع التلامس المختلفة، مثل التدليك والعناق، لم يتمّ تفضيل أحدهما على الآخر، ولكن يبدو أنّ موقع التلامس في الجسم مهمّ. فالتلامس في منطقة الرأس أو الوجه كان له تأثير مفيد أكثر مقارنةً بأجزاء الجسم الأخرى، مثل اليد أو البطن. كانت للتلامس المتكرّر تأثيرات صحيّة إيجابيّة أكبر. من ناحية أخرى، لم تُلاحظ فائدة صحيّة للتلامس طويل الأمد، ربّما بسبب تكيّف مستقبِلات التلامس ما أدّى إلى انخفاض الشعور مع مرور الوقت.

فحص الباحثون إمكانيّة استخدام التلامس كأداة علاجيّة لا تتطلّب إضافة موارد بشريّة. لهذا الغرض، استعرضوا أيضًا دراسات تناولت التلامس لغير البشر، مثل استخدام الأدوات، الروبوتات، والحيوانات. كان للتلامس الّذي يتضمّن الأدوات والروبوتات تأثير إيجابيّ في الصحّة الجسديّة ولكنّه لم يؤثّر بشكل كبير في الصحّة النفسيّة. قد يكون السبب في ذلك أنّ التلامس البشريّ ينقل رسائل من التعاطف، والدعم العاطفيّ، والتواصل الشخصيّ، ما يمكن أن يؤثّر إيجابيًّا في الرفاهيّة النفسيّة. حتّى في سياق الصحّة الجسديّة، وُجد تفاوت كبير بين الدراسات، وهناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتحسين فهمنا لفعاليّة هذه التدخّلات.


التدليك، الملاطفة، العناق وأشكال اللّمس المماثلة قلّلت من الألم والاكتئاب والقلق لدى الأطفال والبالغين. امرأة تلمس قدمي طفل | Shutterstock, elenavolf

متى يجب أن نلمس

هذه التحليلات التلويّة ونظيراتها تساعد في تحديد الأنماط في المجموعات السكانيّة، لكن كلّ شخص يتفاعل بشكل مختلف مع التلامس، وهناك أهمية للسياق والعوامل النفسيّة والاجتماعيّة في استجابة كلّ واحد منّا للتلامس. ليست كلّ تجربة تلامس ممتعة، ولذلك لن تكون لكلّ تلامس تأثيرات إيجابيّة. تعابير وجه الشخص المتلامس، مظهره الخارجيّ، مستوى القرب منه، وعوامل مشابهة تؤثّر في  كيفية استجابة المتلقّي للتلامس. كما أنّ مستوى انتباه المتلقّي وحالته النفسيّة في لحظة التلامس يؤثّران في كيفيّة استجابته للتلامس.

بالإضافة إلى ذلك، هناك اختلافات بين الجنسين وبين الثقافات في كيفيّة الاستجابة للتلامس. على سبيل المثال، وجدت دراسة تحليليّة قام بها باحثون من إيطاليا في سنة 2020 فروقات في كيفيّة إدراك التلامس بين الرجال والنساء. استعرض الباحثون 13 دراسة شملت 362 مشاركًا، ووجدوا أنّ النساء يمِلن إلى الاستمتاع بالتلامس أكثر مقارنةً بالرجال. قد يكون السبب في ذلك هو الفروقات الهورمونيّة، حيث يمتلك الرجال مستويات أعلى من هورمون التستوستيرون المرتبط بانخفاض الحساسيّة للتلامس. تفسير آخر محتمل هو الدور التطوّريّ للإناث في رعاية وتربية أبنائهن، هذا الدور يبدأ منذ الحمل عندما يشعرن بحركات الجنين في الرحم، ويستمرّ بعد الولادة حيث يجب أن يكنّ حسّاسات بما يكفي لفهم احتياجات الطفل.


هناك اختلافات بين الجنسين وبين الثقافات في الطريقة الّتي نختبر بها اللّمس. رجلان يتصافحان | Shutterstock, Ground Picture

كيف يتعانق اليابانيّون؟

بحث آخر من سنة 2019 استعرض الفروقات بين اليابانيّين والبريطانيّين في تجربة اللّمس، واستخدم أداة للتقييم الذاتيّ. قام المشاركون بتحديد المناطق الّتي يُسمح بلمسها في أنواع مختلفة من العلاقات، مثل الوالد، الشريك، الصديق، أو الشخص الغريب، وقاموا بتقييم مدى متعة اللّمس. وجد الباحثون أنّه في كلا الثقافتين، كلّما كانت العلاقة العاطفيّة أقوى، زاد عدد المناطق الّتي يُسمح بلمسها. ومع ذلك، وجدوا أنّ اللّمس أقلّ متعة بالنسبة لليابانيّين مقارنة بالبريطانيّين. يعتقد الباحثون أنّ هذا الفرق يعود إلى طبيعة الثقافة اليابانيّة، والّتي تحوي قدرًا أقلّ من اللّمس الجسديّ.

غالبيّة هذه الدراسات تُجرى في بيئة مختبريّة وتحت ظروف خاضعة للرقابة، والّتي قد لا تشبه الظروف الطبيعيّة الّتي يحدث فيها اللّمس عادةً. هذه مشكلة، لأنّ هناك العديد من العوامل الّتي يمكن أن تؤثّر في كيفيّة تجربتنا للّمس، وليس من الممكن إعادة إنشاء جميع هذه العوامل في المختبر. ومع ذلك، يمكن استخلاص استنتاجات من هذه الدراسات والملاحظات، والاستنتاج الرئيس الّذي يمكن استخلاصه هو أنّ اللّمس الجسديّ له تأثير إيجابيّ في صحّة الجسم والعقل- عندما يتمّ في السياق الصحيح، وبالجرعة المناسبة، وبالطبع فقط بموافقة الطرفين.

0 تعليقات