مع عروض البيع الضخمة والمتنوّعة طوال العام وخصوصًا في فترات الأعياد كيف يواجه دماغنا العدد الكبير من المغريات الّتي تعد بمتعة لا تنتهي؟
يرنّ الهاتف في الصباح الباكر، وأتساءل من الّذي يقوم بإرسال الرسائل في مثل هذه الساعة. أنظر إلى الشاشة، وفي لحظتها، تتبدّد العصبيّة - آه! إنّه الساعي، في طريقه حاملًا الطرد الّذي طلبته. ينغمر ذهني بالدوبامين Dopamine، ويتسبّب في تغيير نبرة صوتي، ويدفعني للقفز من السرير، متحمّسة جدًّا لوصول الطلبيّة.
يتولّد الشعور بالرضا عند فتح الطرد نتيجة نشاط دماغيّ منسّق، يحدث في عدّة مناطق في الدماغ. يمكن أن ينشأ أيضًا خلال عمليّة ملء سلّة مشتريات في مواقع الإنترنت، وخلال التجوّل في مركز تجاريّ أو حتّى خلال التسوّق في السوبرماركت. عندها، يُنتِج دماغنا الناقل العصبيّ الدوبامين، ويفرزه في هذه المناطق عبر المسار الوسطيّ الطرفيّ-الهرميّ-الحوفيّ، المعروف ببساطة باسم نظام المكافأة.
في الوضع الطبيعيّ، يُعتبر نظام المكافأة مسؤولًا عن منح الكائنات الحيّة حوافزَ (محفّزات) للأكل والحبّ. يثيرنا تنشيطه بشعور لطيف، ومعه تأتي الرغبة في أداء الأمر الّذي أثار هذا الشعور ذاته مرارًا وتكرارًا منذ البداية. نحن بحاجة إلى هذا الشعور؛ لأنّه من أجل تحصيل الغذاء وتحقيق العلاقات الاجتماعيّة نحتاج إلى استثمار الموارد والطاقة، وفي بعض الأحيان علينا المخاطرة.
يشير لنا نظام المكافأة بأنّه على الرغم من الصعوبة، إلّا أنَّ الأمر سيؤتي ثماره. في الحياة العصريّة، يساعدنا نظام المكافأة بشكلٍ يوميّ في تقييم حاجتنا إلى العديد من المُغريات االمحيطة بنا، ويدفعنا لمحاولة الحصول عليها أو تجنّبها. يتمّ تنشيطه، بحيث يثير بنا شعورًا لطيفًا، في العديد من الحالات المختلفة: عندما نستمع إلى الموسيقى، نفوز بلعبة، نتعلّم موضوعًا جديدًا، نساعد شخصًا آخر، نحصل على "إعجاب" Like في إحدى شبكات التواصل الاجتماعيّة، وأيضًا، عند التسوّق.
يبدأ مسار الدوبامين في منطقة في جذع الدماغ تُسمّى السقيفيّة البطنيّة، (الدائرة الزرقاء في الرسمة). ومن هناك ينتقل الدوبامين - (الأسهم الزرقاء) إلى مناطق مختلفة، بما في ذلك النواة المتّكئة (الدائرة الحمراء) وقشرة الفصّ الجبهيّ (الدائرة الورديّة) | Fernando da Cunha، مكتبة صور العلوم
ما الّذي يكافئ في التسوّق؟
يبدأ مسار الدوبامين في منطقة من جذع الدماغ تُسمّى المنطقة السقيفيّة البطنيّة (Ventral tegmental area). من هناك يتمّ إفرازه إلى العديد من هياكل الدماغ المهمّة، وخاصّة في الجهاز الحُوفِيّ، والّذي يعمل على معالجة الاستجابات العاطفيّة. أحدها هو "مركز المتعة" - وهو عبارة عن تجمّع للخلايا العصبيّة والّذي يُسمّى النواة المتكئة (Accumbens).
وجد باحثون من ألمانيا قاموا بمسح أدمغة أشخاص بواسطة جهاز التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ (fMRI) لفحص تأثير التعرّض للعلامة التجاريّة على نظام المكافأة أنّه ليس بالضرورة أن تكون المنتجات في متناول أيدينا لتنشيط مركز المتعة في الدماغ. نظر المشاركون في التجربة إلى رموز علامات تجاريّة من مجال السيارات وطُلِبَ منهم أن يتخيّلوا أنفسهم وهم يقودون سيّارة من ذات العلامة التجاريّة.
بعد ذلك، قام المشاركون بملء استبيانات عبّروا من خلالها عن آرائهم حول جاذبيّة ماركات السيّارات المختلفة، درجة الإلمام بالعلامة التجاريّة، وفخامتها، ومدى كونها رياضيّة، وغيرها. ووُجِد أنَّ النواة المتكئة والمناطق المجاورة لها في نظام المكافأة نشطت بشكلٍ مكثّف، كلّما انجذب المشاركون أكثر تجاه العلامة التجاريّة.
ولدهشتهم، وجد الباحثون أنّه بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ مشاهدة العلامة التجاريّة المحبّبة تكبح النشاط الدماغيّ المرتبط بالتفكير العقلانيّ، مقارنة بمشاهدة علامات تجاريّة أخرى لم تحصل على تفضيل مماثل لدى المشارك. أظهر المشاركون، أنّه عند تعرّضهم لعلامة تجاريّة قد تبدو لهم جذّابة يقلّ النشاط في قشرة الفصّ الجبهيّ، وهي منطقة مهمّة للتخطيط واتّخاذ القرارات، ممّا يمكّننا من الأخذ في عين الاعتبار، مكوّنات مختلفة أثناء عمليّة الشراء.
عند تواجد منتج فعليّ حولنا، فإنَّ دور نظام المكافأة هو تقييم مدى الرضا الّذي سيحدثه لنا. وفي دراسة أخرى أُجريت في الولايات المتّحدة، وزّع الباحثون على المشاركين عشرين دولارًا للتبذير، وعرضوا عليهم صورًا لمجموعة متنوّعة من المنتجات الحقيقيّة للشراء، مثل: فرشاة أسنان، علبة شوكولاتة، سمّاعات الأذن، أو لوحة تعود لفان غوخ. أثناء التسوّق، قام الباحثون بمتابعة نشاط دماغ المشاركين باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ. وكما كان متوقّعًا، وُجِد أنّه كلّما زاد المنتج من تحفيز النواة المتكئة للمشاركين، زاد احتمال رغبتهم في شرائه، حتّى لو كان سعره باهظًا.
المحطّة الأخيرة في نظام المكافأة هي في قشرة الفصّ الجبهيّ الوسطى، حيث يُقدِّر دماغنا قيمة المنتج بالنسبة لنا. يمكن أن تؤثّر لافتات تنزيلات كهذه على التقييم. | Shutterstock, AmazeinDesign
إذًا، لماذا لا نشتري كلّ ما يحلو لنا؟
في الواقع، ليس هناك أحد يوزّع المال علينا للتسوّق من بين مجموعة عشوائيّة من المنتجات، وفي معظم الأحيان يتعيّن علينا العمل كثيرًا للحصول عليها. لذلك، هناك آليّة أخرى تعمل في الدماغ تُقيِّد تأثير المتعة. وحقًّا، وجد الباحثون أنّه عندما كان السعر أعلى من المتوقّع نَشطَت في الدماغ منطقة تُسمّى الفصّ الجزيريّ (Insula)، المسؤولة عن توقّع الخسارة والشعور بالألم، في الدماغ.
المحطّة النهائيّة في نظام المكافأة، موجودة في قشرة الفصّ الجبهيّ الوسطى (Medial prefrontal cortex)، حيث يقوم دماغنا من خلالها بتقييم القيمة الإجماليّة للمنتج، أي إجمالي الربح والخسارة المتوقّعة من الاستثمار. يتمّ إجراء هذا التقييم بشكلٍ تلقائيٍّ تقريبًا، حتّى لو كان الأمر متعلّقًا بخيار افتراضيّ تمامًا، مثل ظهور إعلان فجأةً على الشاشة أو رسالة بريد إلكترونيّ تُظهِر لنا عرضًا مُغريًا.
إذا كان الأمر كذلك، فعندما ينوي الشخص اتخاذ قرار بشراء منتج ما، يتعيّن على عقله الجمع بين حسابين أساسيّين: ما مدى رغبته في ذلك، وكم عدد الموارد والطاقة الّتي سيستغرقها للحصول عليه؟ استراتيجيّات التسويق الّتي تبلغ ذروتها في أحداث المبيعات الكبيرة مثل "الجمعة السوداء" Black Friday في نهاية شهر تشرين الثاني أو من خلال لافتات "بيع التصفية"، قد تغيّر تقديراتنا الداخليّة ويمكن أن تغيِّر من قراراتنا، أحيانًا دون أن تضيف قيمة حقيقيّة إلى حياتنا.