تُعتبر نظريّة تشارلز داروين (Charles Darwin) في الانتقاء الطّبيعيّ وأصل الأنواع واحدة من أكثر الإسهامات ابتكارًا وأهمّيّة في العلوم الحديثة. ومع ذلك، عندما نصّها أوّل مرّة عام 1859، أثارت ضجّة في المجتمع العلميّ ورُفِضت حتّى من قبل أولئك الّذين قبلوا الفكرة العامّة للنّشوء والتّطوّر. حتّى اليوم هناك من يعارضها. لماذا أزعجت النّظريّة معاصريها كثيرًا؟ ولماذا لا تزال تثير المعارضة حتّى اليوم؟
تشرح نظريّة التّطوّر التّنوّع الواسع للأنواع الموجودة في الطّبيعة كعمليّة تطوّر وتغيّر تلعب فيها البيئة دورًا رئيسيًّا. جاءت الفكرة لداروين في أواخر ثلاثينيّات القرن التّاسع عشر، بعد عودته من رحلة على متن سفينة المسح "بيغل". لقد عمل أكثر من عشرين عامًا في عزلة نسبيّة، وجمع النّتائج بعناية وتجنّب نشرها قبل الأوان. وقد دفعه مقال كتبه الباحث المعاصر له ألفريد راسل والاس (Alfred Russel Wallace) عام 1858، والّذي أثار أفكارًا مماثلة، إلى الإسراع في نشر كتابه "أصل الأنواع" الّذي شرح فيه أسس النّظريّة.

تشارلز داروين (1809-1882) الصّورة: متحف التّاريخ الطّبيعيّ، لندن
اليوم، يتمّ قبول نظريّة داروين للتّطوّر باعتبارها أفضل وأقوى تفسير لعالم الحيوان المتنوّع الّذي نعرفه اليوم. ولم يكن داروين أوّل من اقترح فكرة التّطوّر التّدريجيّ كتفسير لتنوّع الأنواع في الطّبيعة. ولكن حتّى لو لم تكن الفكرة العامّة للتّطوّر جديدة تمامًا، فمن الواضح أنّ نظريّته كانت مبتكرة، وأثارت ضجّة كبيرة.
أصالة داروين
ما هو المميّز في نظريّة داروين؟ ما هي العمليّة الّتي قادته إلى تطوير النّظريّة؟ اِقترح المؤرّخون الّذين قرؤوا كتاباته أنّه تعامل مع المسألة بطريقة مختلفة تمامًا عن أسلافه. كان داروين مهتمًّا بالمواضيع العلميّة الّتي لم يهتمّ فيها علماء الطّبيعة الآخرون في حينه. تجلّى إبداعه في الحقيقة أنّه جمع مفاهيم وتبصّرات من مجالات مختلفة في نظريّة واحدة واسعة النّطاق.
البحث عن الأدّلة والمفاهيم
خلال رحلته في البيغل (1831-1836) جمع داروين الكثير من المعلومات وطوّر مفاهيم.
مسار سفينة بيغل في رحلة داروين الاستكشافيّة. | الصّورة: ويكيبيديا
شجرة الحياة
يبدو أحد الابتكارات الّذي يكمن في قلب النّظريّة بديهيًّا للغاية في أيّامنا هذه، بحيث يصعب علينا أن نفهم مدى ابتكارها وريادتها في ذلك الوقت: يبدو أنّ داروين كان أوّل من فهم أهمّيّة الفكرة الّتي تحدّد الآليّة الوحيدة الّتي تملي تطوّر الأنواع، وهي مدى ملاءمة الفرد لبيئته. تهاجر الأنواع في الطّبيعة من مكان إلى آخر وتتغيّر بيئتها باستمرار. غالبًا ما تتسبّب الحواجز الجغرافيّة في انقسام المجموعات السّكّانيّة، بحيث ينقسم ما كان في السّابق نوعًا واحدًا إلى العديد من الفروع الّتي تتكيّف مع بيئات معيشيّة منفصلة. ولذلك من الممكن رؤية التّطوّر كعمليّة انتشار، مثل الشّجرة الّتي تنقسم فروعها مرارًا وتكرارًا ويصل بعضها إلى طريق مسدود نتيجة الانقراض.
ظهر الرّسم التّوضيحيّ لشجرة الحياة أوّل مرّة في دفتر ملاحظات داروين، واقترحه والاس لاحقًا بشكل مستقلّ. لقد أدرك كلاهما شيئًا لم يدركه الآخرون من قبلهم، وهو أنّه لتفسير التّشابه بين المخلوقات، من الضّروريّ افتراض أنّ لديهم سلفًا مشتركًا. وبهذا المنطق، لم تتباعد الأنواع ذات الصّلة الوثيقة عن سلفها المشترك إلّا مؤخّرًا، في حين يتعيّن على أشكال الحياة البعيدة أن تذهب بعيدًا إلى أسفل شجرة عائلتها للعثور على نقطة مشتركة حيث يكون لدى نوعين سلف مشترك.

شجرة الحياة، من دفاتر داروين. | الصّورة: ويكيبيديا
تبدو فكرة الأصل المشترك بديهيّة اليوم لدرجة أنّ المرء يتساءل: ما هي البدائل الأخرى الّتي تمّ طرحها؟ إذا نظرنا إلى الوراء، يمكننا أن نرى أنّهم جميعًا عبّروا عن وجهة نظرهم حول الطّبيعة باعتبارها نظامًا منظّمًا ويمكن التّنبّؤ به نتيجة لخطّة إلهيّة خيّرة. في نظريّة داروين، على العكس، حلّ الاصطفاء الطّبيعيّ محلّ النّعمة الإلهيّة كتفسيرٍ للتّنوّع الموجود في الطّبيعة.
يعني أنّ الحياة على الأرض لم تتطوّر أساسًا وفق نمط منظّم، وأنّه من المستحيل التّنبّؤ باتّجاهات تطوّرها، لأنّها تعتمد على التّهديدات والهجرة والعزلة والتّغيّرات المحلّيّة العشوائيّة. تكمن أصالة داروين في طريقة تفكيره، فهو لم يركّز على خلاصة الأمور بل على الظّواهر نفسها، وبحث عن تفسير يفسّر الظّواهر الّتي رآها.
التّعلّم من التّهجين - الانتقاء الاصطناعيّ
بحثًا عن تفسير لكيفيّة تغيّر المجموعات، أنتج داروين مفهومًا جديدًا آخر، فقد درس تصرّفات مربّي الحمام، وتابع عمليّات التّهجين الّتي قاموا بها ولاحظ أنّهم يعتمدون على "الاختيار" في عملهم. وعلى الرّغم من أنّ هذا كان اختيارًا مصطنعًا (Artificial selection)، إلّا أنّه جعل من الممكن توضيح الطّريقة الّتي تعمل بها العمليّة المقابلة في الطّبيعة (Natural selection).
الحمام | الصّورة: ويكيبيديا
قدّم التّهجين بين الحمام أفضليّة لداروين كباحث. بما أنّ الأجيال تتغيّر بسرعة، فقد تمّ إجراء التّغييرات في إطار زمنيّ يسهل على الإنسان ملاحظته، ويمكن دراستها مباشرة. لم يكن مربّو الحمام (مثل داروين وبقيّة معاصريه) يعرفون آليّات الوراثة الّتي لم تكن مكتشفة بعد في ذلك الوقت، ولكن كان لديهم الكثير من الخبرة العمليّة، وعرفوا كيفيّة إحداث تغييرات من خلال التّهجين في طيورهم.
لقد فهم داروين أنّ لدى كلّ مجموعة برّيّة بعض التّنوّع، وبالتّالي يمكن أن تحدث تغيّرات كبيرة فيها بمرور الوقت. باستيحاء من الانتقاء الاصطناعيّ، وصف الانتقاء الطّبيعيّ بأنّه عمليّة مماثلة تكون فيها الأولويّة لأفراد معيّنين في المجتمع، بناءً على السّمات الّتي تسهم في بقاء النّوع نفسه (وليس لمربٍّ خارجيّ كما هو الحال في الانتقاء الاصطناعيّ)، وهم الّذين يعيشون ويتكاثرون. سوف يتمّ القضاء على الأفراد ذوي الخصائص الأخرى خلال "حرب الوجود"، تمامًا كما لن يُزاوج المربّون حيوانًا لا يمتلك الخصائص الّتي يحتاجون إليها.
تكمن أصالة نظريّة داروين في تأكيده على أنّ العمليّة في الطّبيعة ليست هادفة، بل هي عمليّة مفتوحة وعشوائيّة ومعتمدة على البيئة ولا تتوقّف أبدًا. كان هذا التّفسير ثوريًّا في ذلك الوقت لدرجة أنّ الكثيرين رفضوا قبوله برمّته، وأجروا عليه تعديلات ليناسب اعتقادهم في التّصميم المبنيّ من أعلى بناءً على إيمانهم. كان ابتكار داروين العظيم هو رفضه وصف العمليّة التّطوّريّة بأنّها تتحرّك بناءً على اتّجاهات محدّدة سلفًا.
حرب الوجود
صاغ الاقتصاديّ توماس روبرت مالتوس أحد معاصري داروين مفهوم "حرب الوجود"، والّذي استخدمه لشرح التّنافس بين القبائل المتنافسة على الموارد المحدودة، وكان لهذه الفكرة تأثير كبير على داروين.
"في عام 1838، بعد 15 شهرًا من بدء بحثي المنهجيّ، قرأت من أجل المتعة كتاب مالتوس، السّكّان، ولأنّني على استعداد جيّد لتقدير الصّراع من أجل الوجود الّذي يدور في كلّ مكان، من خلال ملاحظاتي المستمرّة لعادات الحيوانات والنّباتات، فقد أدركت على الفور وخطر لي أنّه في ظل هذه الظّروف، سوف يبقى الأفضل. سوف تكون النّتيجة خلق أنواع جديدة، لذلك، وجدت نظريّة يمكن العمل بها".
تشارلز داروين، من سيرته الذّاتيّة، 1876.
الجوع والفقر وفق مالتوس هما بالفعل ظاهرتان طبيعيّتان، لكن سبب وجودهما إلهيّ وتفسيرهما أخلاقيّ، على سبيل المثال هذا يمنع الإنسان من الكسل. من ناحية أخرى، صاغ داروين القواعد بمصطلحات طبيعيّة - السّبب والنّتيجة معًا.
أدرك داروين أنّ الضّغوط السّكّانيّة تخلق المنافسة بين الأفراد، وربّما كان أوّل من أدرك أنّ التّغيّرات يمكن أن تحدث مع مرور الوقت. تعمل هذه العمليّة عن طريق القضاء على الأفراد الأقلّ تكيّفًا بين السّكّان، وبالتّالي، في ظلّ ظروف المنافسة، إنّ أولئك الّذين يتكيّفون بشكل أفضل مع البيئة يبقون على قيد الحياة ويتكاثرون. أطلق الفيلسوف هربرت سبنسر فيما بعد على هذا الوضع اسم "البقاء للأصلح" (survival of the fittest).
كانت فكرة الصّراع شائعة جدًّا في أدب ذلك الوقت، كما رأى داروين أنّ ضغط المنافسة ضروريّ كأداة للاختيار، لكنّه على عكس الآخرين رأى أنّ فعله لم يكن مقصودًا، وأنّ نتيجته هي التّكيّف والبقاء على قيد الحياة.
أين المشكلة؟
كانت نظريّة داروين مبتكرة لكنّها مقلقة. السّبب الرّئيسيّ هو أنّها قدّمت بديلًا للنّهج الخلقيّ، الّذي يرى أنّ جميع المخلوقات خلقت كما هي معروفة لنا اليوم. أثارت الفكرة صعوبة خاصّة في ما يتعلّق بمسألة أصل الإنسان. فهناك من فهم نظريّة التّطوّر باعتبارها عمليّة خطّيّة، حيث يتطوّر أحد الأنواع من نوع آخر كما لو كانت نظرية داروين تفترض ضمنًا أنّ الإنسان ينحدر من القرد.
إنّ القردة العليا والبشر مرتبطون بالفعل في الأصل، ولكن ليس في عمليّة خطّيّة، بحيث تطوّر القرد مباشرة إلى الإنسان. يمكن إظهار الارتباط من خلال سلف مشترك عاش منذ حوالي 5 إلى 11 مليون سنة (فرع في شجرة الحياة)، والّذي من المحتمل أن يكون قد انفصل الى فرعين: أحد المخلوقات الشّبيهة بالإنسان والّتي تطوّرت أثناء عمليّة التّطوّر إلى "الإنسان العاقل" المعروف لدينا اليوم، وفي الثّاني مخلوقات تطوّرت فيما بعد إلى القردة العليا الموجودة في أيّامنا.
اضافة الى ذلك، إنَّ النّظريّة في نظر الكثيرين تهدّد فكرة وجود الإله. لقد تحدّى مبدأ الانتقاء الطّبيعيّ الاعتقاد أنّ العالم قد صمّمه إله حكيم وخيّر، وأنّ كلّ تغيير له هدف ينبع من المنطق السّماويّ. خلال زمن داروين، اِفترض معظم المفكّرين وعلماء الطّبيعة أنّ تطوّر الحياة على الأرض يمثل خطّة منظّمة موجّهة نحو هدف محدّد مسبقًا. داروين، كما ذكرنا سابقًا، قدّم تفسيرًا آخر مقنعًا وقويًّا.
وفقًا لنظريّة النّشوء والتّطوّر، إنّ الكائنات الحيّة تتغيّر طوال الوقت. يتمّ تكيّف الأنواع مع الحياة في بيئة متغيّرة باستمرار من خلال الانتقاء الطّبيعيّ، حيث يموت الأفراد ذوو السّمات غير الفعّالة في حرب وحشيّة من أجل الوجود. أثار هذا التّفسير اعتراضًا. على سبيل المثال، كان هناك من رأى أنّ الانتقاء الطّبيعيّ مبرّر للأنانيّة، لأنّه يفترض أنّ أسلوب الحياة الطّفيليّ هو تكيّف طبيعيّ تمامًا استجابة لظروف معيّنة.
ولذلك ظهرت أفكار داروين كأنّه لا توجد خطّة محدّدة سلفًا، ولا يوجد هدف واضح لعمليّة التّطوّر، ولا يوجد نمط منظّم يجب الحفاظ عليه في العلاقات بين الأنواع. وعلى الرّغم من أنّ داروين لم يكن يعرف سبب هذه التّغيّرات (تبين لاحقًا أنّ السّبب كان طفرات جينيّة)، إلّا أنّه ادّعى أنّها كانت صدفة وليس لها هدف محدّد مسبقًا.
قوّضت النّظريّة الفكرة القديمة الّتي ترى أنّ الأنواع هي أنواع مثاليّة، ومكوّنات ثابتة لنظام طبيعيّ محدّد. وبدلًا من ذلك، ذكر أنّه يجب معاملتهم كمجموعات من الأفراد المتغيّرين باستمرار، دون حدود ثابتة وهدف قيميّ.