ما أهميّة اللّعب مع الرضع والأطفال الصغار، وكيف يؤثر اللعب على نمو الدماغ؟

في النّسيج المعقّد لنموّ الطّفولة المبكّرة، يظهر اللّعب كخيط حيويّ لا غنىً عنه، ينسج معًا الجوانب المعرفيّة والاجتماعيّة والعاطفيّة لعقول الرّضّع النّاشئة. مع تقدم فهمنا لعلم الأعصاب، أصبح من الواضح بشكل متزايدٍ أنّ اللَّعبَ، الّذي قد يبدو بسيطًا ومرحًا، هو في الواقع حافز هامٌّ  وقويّ لتشكيل بنية دماغ الطّفل.

أثبتت الأبحاث العلميّة على مدى الأعوام الثّلاثين الماضية، أنّ أهمّ فترة في تطوّر الإنسان -جسديًّا وذهنيًّا-، هي منذ الولادة وحتى سنّ الثّامنة. خلال هذه السّنوات، يؤدّي تطوير المهارات المعرفيّة والرّفاهيّة العاطفيّة، والكفاءة الاجتماعيّة والصّحّة البدنيّة والعقليّة السّليمة، إلى بناء أساس قويّ للنّجاح في سنوات البلوغ. على الرّغم من أنّ عمليّة التّعلّم تستمر طوال الحياة، إلّا أنّه في مرحلة الطّفولة المبكّرة، يتمّ التّعلّم بسرعة لا مثيل لها أبدًا مقارنةً بباقي المراحل في حياة الإنسان.

يُعدّ اللّعب أحد أهمّ الطّرق الّتي يكتسب بها الأطفال الصّغار المعرفة والمهارات الأساسيّة. ولهذا السّبب، فإنّ فرص اللّعب والبيئات الّتي تشجّع اللّعب والاستكشاف والتّعلّم العمليّ، هي جوهر وأساس التّعلّم الفعّال. لكن ما الذي نعنيه فعليًا عندما نقول كلمة "لعب"؟

يعرف الجميع "اللّعب" عندما يروْنه - في الشّوارع، في القرى، في الملاعب، أو في المدرسة. يشارك الأشخاص من جميع الثّقافات والخلفيّات الاقتصاديّة والمجتمعات في اللّعب منذ سنواتهم الأولى. مع ذلك، قد يكون من الصّعب تعريف اللّعب. يتّفق الباحثون على الخصائص الرّئيسيّة لتجربة اللّعب، وهي: أن يكون اللّعب ذا مغزىً، مرحًا، مثيرًا ومتكرّرًا، كما عليه أن يشمل تفاعلًا اجتماعيًّا.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ أحد الجوانب المهمّة في اللّعب يكمن في قوّة الأطفال، قيادتهم وسيطرتهم على التّجربة. في نهاية المطاف، يرى الباحثون أنّ من الضّروريّ أن يتضمّن اللّعب درجةً معيّنةً من القيادة الذّاتيّة للطّفل، ممّا يمكّن الأطفال من القيام بدور نشط والشّعور بملكيّة تجاه تجاربهم، بالإضافة إلى ذلك، على البالغين الاعتراف بالاستقلال الذاتيّ "autonomy" للأطفال، والثقة بهم ليكونوا قادرين ومستقلّين وفاعلين في رحلات التّعلّم المرحة الخاصّة بهم.


يعدّ اللّعب أحد أهمّ الطّرق الّتي يكتسب بها الأطفال الصّغار المعرفة والمهارات الأساسيّة لحياتهم | Shutterstock
 

عندما يختار الأطفال اللّعب، فإنّهم لا يفكّرون بـ "الآن سوف أتعلّم شيئًا من هذا النّشاط". مع ذلك، فإنّ لعبهم يخلق فرصًا تعليميّة قويّة في جميع مجالات التّنمية. منذ الأشهر الأولى، يعدّ اللّعب جزءًا مهمًّا من حياة الطّفل. بالنّسبة للرّضع والأطفال الصّغار، فمن شأن التّفاعلات البسيطة والمرحة مع البالغين أن تساعد على تطوير بنية دماغيّة قويّة، وتشكّل أساسًا للصّحّة الذّهنيّة والجسديّة لمدى الحياة. من خلال الألعاب والأنشطة المرحة، يمكن للأطفال ممارسة مهارات مهمّة الّتي ستساعدهم طوال حياتهم وتعزيزها، بما في ذلك اكتساب مهارات اجتماعيّة جديدة، تعلّم تركيز انتباههم، تقوية ذاكرتهم العاملة وتطوير ضبط النّفس الأساسيّ.

على سبيل المثال، من خلال اللّعب بالمكعّبات الهندسيّة، يبدأ الأطفال بتشكيل مفاهيم هندسيّة بسيطة، مثلًا أن يشكّل المربّعان مستطيلًا والمثلّثان يمكنهما أن يشكّلا مربّعًا. من الرقص في خطوة للأمام، والدّوران للخلف، والتّصفيق والتّكرار، يبدأ الأطفال في فهم ميزات الأنماط الّتي تشكّل أساس الرّياضيات. بالإضافة إلى ذلك، يعدّ اللّعب التّظاهريّ أو "الرّمزيّ" (مثل لعبة بيت بيوت أو لعبة بائع ومشترٍ في السوق) مفيدًا بشكل خاصّ: في مثل هذا اللّعب، تتطوّر القدرة على الخيال عند الأطفال، ويتعلّمون التّعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، ويتعلمون كيفيّة التّحكّم في عواطفهم، والتّفاعل مع الآخرين، وحلّ النّزاعات واكتساب الشّعور بالكفاءَة. يضع اللّعب الأسس لتنمية المعرفة والمهارات الاجتماعيّة والعاطفيّة الهامّة. من خلال اللّعب، يتعلّم الأطفال مهارة إنشاء علاقات مع الآخرين، والمشاركة والتّفاوض وحلّ النّزاعات، بالإضافة إلى تعلّم مهارات الدّفاع عن الذّات. بشكل أعمّ، يلبّي اللّعب حاجة إنسانيّة أساسيّة، للتّعبير عن الخيال والفضول والإبداع، وهي موارد أساسيّة في عالم تقوده المعرفة. فاللعب يساعدنا على التّأقلم، وإيجاد المتعة، واستخدام قدراتنا الخياليّة والابتكاريّة. والواقع أنّ المهارات الحاسمة الّتي يكتسبها الأطفال من خلال اللّعب تتشكّل وتُصقل في سنوات ما قبل المدرسة.

ومما يؤكّد أهمّيّة اللّعب في حياة الإنسان وتطوّر الأطفال الرّضّع، هو حقيقة أنّ اللّعب يبدو مهارةً تطوريّةً. نرى أيضًا أنواعًا أُخرى من الثّدييات الّتي تستخدم اللعب مع نسلها كأداة لتعليم المهارات الضّروريّة للبقاء. يمكن أن يتّخذ اللّعب أشكالًا عديدة. بالنّسبة لبعض الثّدييات، مثل البشر، قد يكون اللّعب متنوّعًا بشكل لا يُصدق، ويتراوح ما بين اللّعب الخياليّ الانفراديّ واللّعب الاجتماعيّ النّشط للغاية. بالنّسبة للأنواع الأخرى، مثل فئران المختبر، فإنّ اللّعب، وفقًا لمعرفتنا، يقتصر على التّفاعلات الاجتماعيّة. لكنّ استعمال اللّعب كوسيلة للتّعليم بشكل مشترك بين الأنواع المتعدّدة من الحيوانات، يُشير إلى أنّ الدّوائر العصبيّة المسؤولة عن اللّعب، قد تطوّرت مبكّرًا في تطوّر الثّدييات، ومن المرجّح أن تكون محفوظةً جيّدًا إلى حدّ ما عبر تلك الأنواع من الثّدييات الّتي تشارك في اللّعب.

ماذا يحدث في دماغنا أثناء اللعب؟

يمكننا أن نتعلّم الكثير عن دماغنا عن طريق التّمعّن في أدمغة الثّدييات الأخرى، الّتي تشاركنا نفس السّلوكيّات. من البيانات الّتي تمّ جمعها في أبحاث الحيوانات حتّى الآن، يمكننا أن نستنتج بدرجة معقولة من اليقين أنّ المناطق الموجودة داخل قشرة الفصّ الجبهيّ (prefrontal cortex)، والجسم المخطّط (striatum)، واللّوزة الدّماغيّة (amygdala) تعمل بطريقة منسّقة لإنتاج الذّخيرة السّلوكيّة الغنيّة، الّتي نشاهدها خلال اللّعب. هذه المناطق هي الّتي قد تكون المستفيد الرّئيسيّ من التّجارب المرحة.


المناطق الموجودة داخل قشرة الفصّ الجبهيّ (prefrontal cortex)، والجسم المخطّط (striatum)، واللّوزة الدّماغيّة (amygdala) تعمل بطريقة منسّقة لإنتاج الذّخيرة السّلوكيّة الغنيّة الّتي نشاهدها خلال اللّعب | الصور ماخوذة من موقع Neurotorium
 
 

بالعودة إلى بني البشر، ففي العاميْن الأولين من حياة الطفل، ومع التّحفيز الكافي، يشكّل دماغ الطّفل روابط عصبيّة بمعدّل لا يقلّ عن 1000 رباط عصبيّ في الثّانية. علاوة على ذلك، تشير المؤشّرات في الأبحاث الأخيرة إلى أن السّرعة قد تصل إلى مليون في الثّانية. يتمّ تحفيز هذه الرّوابط من خلال البيئات الغنيّة والمحبّة والمحميّة، في سياق تقديم الرّعاية المستجيبة والمرحة الّتي تعزّز التّرابط والارتباط الآمن، ممّا يساهم في التّنمية الاجتماعيّة والعاطفيّة الإيجابيّة.

في بحث جديد، عقد في جامعة برنستون، استعمل الباحثون قبّعات تسجيل نشاط الدماغ أو تخطيط كهربيّة الدّماغ (Electroencephalography; EEG) لقياس فعاليّة دماغ الأطفال أثناء اللّعب. تبيّن في البحث أنّه أثناء وقت اللّعب بين شخص بالغ ورضيع، يعاني كلا دماغيهما من نشاط دماغيّ مماثل في نفس مناطق الدّماغ. في عبارة أخرى، فإنّ نشاط دماغ الأطفال والبالغين يرتفع وينخفض معًا عندما يتشاركون الألعاب والتّواصل البصريّ. هذه الظّاهرة تُسمّى التزامن العصبيّ أو neural synchrony. افترضت بيازا، قائدة فريق البحث، وزملاؤها أنّ التّزامن العصبيّ له آثار مهمّة على التّنمية الاجتماعيّة وتعلّم اللّغة. والأكثر إثارة للاهتمام من ذلك، أشارت نتائج البحث إلى أنّه خلال اللّعب حدث أقوى اقتران في منطقة الدّماغ الّتي تدعى "قشرة الفصّ الجبهيّ" (prefrontal cortex)، الّتي تلعب دورًا أساسيًّا في التّعلّم والتّخطيط والأداء التّنفيذيّ.
في لقاء صحفيّ حول بحثها، أضافت بيازا: "أثناء اللّعب، يبدو أنّ الشّخص البالغ والطّفل يشكّلان حلقة من التّغذية المرتدّة (feedback loop). أي أنّ دماغ الشّخص البالغ يبدو أنّه يتنبَّأ متى سيبتسم الأطفال، وتتوقّع أدمغة الأطفال بدورها متى سيستخدم البالغ المزيد من "حديث الأطفال"، وكلا الدماغيْن يتتبعان التّواصل البصريّ المشترك والاهتمام المشترك بالألعاب. لذلك، عندما يلعب الطّفل والبالغ معًا، فإنّ دماغيْهما يؤثّران على بعضهما البعض بطرق ديناميكيّة". يؤكّد هذا البحث على أهمّيّة وقت اللّعب المشترك بين الأطفال والبالغين المقرّبين منهم، وأهمّيّته في تطوير دماغ الطّفل وإنتاج روابط عصبيّة جديدة.


أثناء وقت اللّعب بين شخص بالغ ورضيع، فإنّ نشاط دماغ الأطفال والبالغين يرتفع وينخفض معًا عندما يتشاركون الألعاب والتّواصل البصريّ. | الصّور مأخوذة من مقالة البحث
 
 

في بحث آخر أجري على أطفال رُّضّع، قام الباحثون بقياس الإشارة الكهربائيّة لموجة دماغيّة تُسمى "إيقاع مو" (mu rhythm) بعد أسبوع من لعب الطّفل بلعبة جديدة بمشاركة أحد والديه. يخبرنا إيقاع مو عن نشاط الدّماغ الّذي يحدث في القشرة الحسّيّة الحركيّة (sensorimotor cortex)، وهي منطقة من الدّماغ الّتي تتحكّم في الإجراءات والحركات، بالإضافة إلى التّعامل مع المعلومات حول اللّمس ووضع الجسم وحركة الجسم. بعد أسبوع من اللّعب باللّعبة، اشترك الأطفال وآباؤهم في تجربة مخطّط كهربيّة الدماغ. وجدت الدّراسة أنّ تعلّم اللّعب بلعبة جديدة أدّى إلى زيادة في إيقاع مو. بالإضافة إلى ذلك، رأى الباحثون أن الإجراء الّذي قام به الأطفال بأنفسهم أدّى إلى تغيير أكبر في نشاط الدّماغ مقارنةً بالإجراء الّذي رأوا والديْهم يقومون به فقط.

تُشير هذه النّتائج إلى شيئيْن مهمّيْن؛ أوّلًا، أنّ اللّعب بلعبة جديدة يؤدّي بالفعل إلى زيادة النّشاط أو التّفعيل في المنطقة الحسّيّة الحركيّة في الدّماغ، ممّا يؤدّي إلى مزيد من التّعلّم، وثانيًا، قد يكون من المفيد للآباء السّماح لأطفالهم بتجريب أفعال جديدة بأنفسهم، واللّعب بالألعاب بمفردهم، لأنّ الأطفال سيتعلّمون المزيد عن طريق القيام بأيّ إجراء بأنفسهم.

يمكننا أن نستنتج أنّ اللعب هو أكثر من مجرّد "مُتعة"، فهو وسيلة للتّعلّم وتطوير المهارات الضّروريّة لنموّ دماغ الأطفال. وهو يسمح لنا بتمرير أدوات البقاء والتّواصل والتّفاعلات الاجتماعيّة للأطفال، إذن في المرّة القادمة التّي تشاركون فيها أطفالكم اللعب، تذكّروا بأنكم تسهمون بطريقةٍ ماتعة في تطوّر ونمو تلك الأدمغة الصغيرة. 

 
 

0 تعليقات